خديجة بلوش
ذلك
الإحساس العميق بموت يقترب, هو ليس موتاً سريعاً, بل انطفاء بطيء.
كنت
قد عدت للتو من رحلتي المعتادة نحو الظلال المتناقضة, نحو فصول أكره تكرارها الملل,
صباحات تحمل ما تحمل من وجوه مغبرة ونفوس ثقيلة وأرواح تعصف طاقتها السلبية بكل جزيئات
الجمال المحتملة ليصير الجو عبارة عن كهرباء سالبة.
عدت
مرهقة, نعم! لكني لم أشعر بأي ألم يذكر, كنت فقط بحاجة لماء بارد أفرغه في جوفي, ووجبة
خفيفة أغيظ بها الجوع الذي بدأ يعاكسني, ووسادة أضع عليها رأسي المثقل بكل غبار الطريق
وأصوات كانت تشبه عزفاً نشازاً لفرقة لا تفقه شيئاً في أخلاقيات العزف.
ما لم
أتوقعه أن ينقلب كل هذا الملل والتعب العادي إلى ألم يفوق الوصف, اختناق غير مسبوق,
كنت أسمع بما يشبه ما أشعر به الآن، أضلع تتكسر لتحدث ثقوباً تشبه الدوامات، تبتلعني
شيئاً فشيئاً, أكابر ولا أحدث صوتاً, لا تنم ملامحي عن أي شيء, لكني لم أتوقف عن السؤال،
هل الاختناق داخلياً يسبب أي ألم يذكر؟ نظراتهم أنبأتني أن شيئاً غير عادياً يحدث,
لكن أين؟ لا أحد يدري، ربما أسئلتي بدت غبية وفي غير محلها, لكن ما الذي يحدث فعلاً؟
أحاول
أن أقتلع نفسي من المكان الذي سقطت فيه, هي حفرة ما, أو شيء يشبهها, أحاول أن أجد موقعاً
لقدمي التي التوت وتزايد الألم, ليس بكاحلي, لكنه أيضاً تحت ضلوعي في الجهة اليمنى
تحديداً يرتطم رأسي بما يشبه صخرة ملساء, أسمع وقع الارتطام وطنيناً يشبه صوت خفير
نحل مجنون، كل ذلك الصوت يتراكم داخل رأسي ويكبر, يزداد الألم, وتتشكل كتلة قاسية تماماً
حيث موضع الألم الذي غزا ضلوعي أول الأمر, ثمة كرة تكبر شيئاً فشيئاً, والصراخ داخلي
يزداد وأفقد القدرة على سماع أي شيء آخر دونه، تتسلل غيمة باردة لتغزو مجال رؤيتي,
تختفي الأشياء تباعاً, صوتي يحاول أن يكسر حاجز الصمت, لكنه كان همساً ضعيفاً سرعان
ما خفت واختفى.
صرت
معزولة عن كل ما يحيط بي, يحاصرني الألم من كل صوب وحدب, شعرت لوهلة بضعف غريب واستسلام
مرير للوضع, ربما هذه نهاية كل ما كان وما لن يكون, الحفرة التي وقعت فيها صارت مثل
بركان وألسنة اللهب تجلدني، أسقط ببطء غريب إلى العمق دون إبداء أية مقاومة, ما عساني
أقاوم؟ الألم يشبه فرقة انتحارية تهاجمني من كل الجهات وتسقط كل مقاومة محتملة.
السقوط
ربما كان ما أيقظني من تلك الغفوة القاتلة, ارتطام قوي أيقظ كل حواسي المخدرة بالألم,
ولفحة باردة صفعتني لأنفض عني الاستسلام، قاومت, رفعت رأسي فوق مستوى الألم كي أخرج
الأصوات التي احتلته وأسقطها بعيداً، ربما نجحت في ذلك لحد ما, ثمة أصوات مختلفة تصل
إلى مسامعي, صرخت, وتمزقت حبال الصمت، وحركت ذراعي التي كانت مقيدة وارتطمت يدي بالفراغ.
لم يكن
للحفرة جدران, كانت مجرد وهم أسقطني فيه الألم, قدمي التي فقدت الإحساس, ساعدتني للوقوف,
تنفست عميقاً, عميقاً جداً, وشعرت بضلوعي التي كانت تخنق رئتي تعود إلى مكانها, خف
الضغط عن حواسي كلها, تنفست بعمق أكبر وتلاشت مع كل شهقة محملة بالهواء النقي كل القيود
التي كانت تحاصرني, غفوة أخذتني إلى بر الأمان.
الألم
الذي كان يغرز أنيابه في جسدي اختفى بشكل غريب, ربما كان محض خيال تجسد في لحظة ضياع.