-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

 

استثمار السیاسة

 

هيئة التحرير 

 

 

 راودته فكرة بالاستغناء عن الأدب والاستثمار في السياسة، لعدم قدرته على صعود سلالم الأدب الأفقية، فقامر بنزاهة الروح على مائدة السياسة مع خيباته المتلاحقة في الأدب. بسبب دور النشر التي استنزفته، اختار سوق السياسة، محدّثاً نفسه :" إنها تجارة رابحة، ولا ضير ببعض الخطابات أو تشكيل حزب فيسبوكي. "

تخلّى عن بنطاله الجينز وحقيبته الظهرية، استبدلهما بطقم رسمي وربطة عنق بلون الكلمات التي سيختارها بدلاً من السرد والانشطار في اللغة والحبكة، ونمو الشخصيات والرمزية. سيستعيد عنها بالديمقراطية، والمساواة وحقوق المواطنة.

كانت لديه رغبة عارمة بالوقوف أمام المرآة، بأن يجرّب خطابه على الطريقة الرومانية القديمة.  

تخيّل جمهوراً من المصفقين لكلماته الحماسية،

بل غاص أكثر من ذلك في خيالاته، وجد نفسه محمّلاً  على الأكتاف كقائد عظيم منتصر في حربه الكلامية. لم يبقَ له سوى أن يُعبّد طريق الكلمات ويختارها بعناية. 

 شغلته هذه الفكرة كلياً وبدأ بمضغ الكلمات المنتقاة بتلذذ وشهية كوجبة دسمة على مهل،

يهضم العبارات بتأنٍ، ويعيد صياغة تاريخ البلد المنتهك من أدناه إلى أقصاه. يشعل كانون التاريخ ويلقّمه بحطب المحطات الموجعة، مرّ على السلاجقة، والعثمانيين، والفرنسيين والحكومات المتعاقبة التي لم تمنح شيئاً للوطن والمواطن، كان يجد في نفسه المنقِذ والمخلِّص، بفكر خاوٍ كجيوبه المثقلة بالفراغ. 

لم يكتفِ بتحرّشه بالتاريخ فقط، بل مدّ إصبعه إلى أكثر المناطق حساسية في جسم الجغرافيا، لكن شيئاً ما ينغّص عليه تفكيره؛ كيف سيجد له مكاناً في زحمة السياسيين وأكاذيبهم؟ ينبغي عليه أن يبدع في الكذب فيكون خلّاقاً في الوعود. فكّر مع نفسه: " آه، الإبداع والخلق مصطلحات أدبية أكثر مما هي سياسية! "

لذا يجب أن لا يشبه أي جواد في هذا المضمار لكي يفوز، لابد أن لا يشبه أحداً سواه، وأن يلهث وراء هدفه. خذلته معاني الحروف في الأدب لأنه لم يعشقه، بل كان عبارة عن شيء من الكماليات أو الشهرة.

 

إنه لا يزال  أمام المرآة ينهش نصّاً في ذهنه،

لكنه شعر بدوار حينما شاهد في خياله ثلة من المتجمهرين يطلقون شعارات مضادة له:

-أنت كاذب لا تختلف عمّن سبقك.

يرد آخر عليه:

- أنتم الساسة كما العاهرات تجيدون كل وضعيات الجنس.

يكمل رجل مسن ملأت التجاعيد وجهه:

-         لا، لا تشبّه هؤلاء السفلة الأوغاد بالعاهرة، فالعاهرة تمتلك أخلاقاً يفتقرها هؤلاء.

كانت الكلمات الأخيرة للرجل المسن أشبه بالصاعقة عليه مقابل كلماته الركيكة. اقتربت امرأة أخرى منه وبصقت في وجهه قائلة:

-         أنت في قرارة نفسك لا تجدنا سوى مطية لحملك  إلى الكرسي. 

بدت كلماتها كسوط جلاد تنهال عليه.

 توّرط في خيالاته أكثر، لملم أفكاره كمن يستيقظ من كابوس، وشعر بأن قامته الطويلة تتقزّم وأنفه يلامس أرضية الغرفة.

لم يعد الصوت يخرج منه وقد شلّتا ذراعاه وهو ينظر  إلى حجمه الصغير.

 يد مجهولة خرجت من خلف المرآة لتضع طوقاً في رقبته، وجاءه صوت من الغيب: 

إلى أن يبقى هذا الطوق في رقبتك وتتبعني وتنبح متى وأين ما أردتُ، سأحميك و أورث المملكة لك.

صار على قوائمه الأربع ينبح بهدوء وطاعة.

"عووو عوووو عووو" 

اليوم الذي تلا الانتخابات وقف فيه على المنبر يرتدي ربطة عنق فوق طوقه، ويتحسسه بيده بين الفينة والأخرى.   

حلّق بنظره إلى أبعد مسافة في القاعة، وخلف الأعوان الذين كانوا يتربّعون على الكراسي الوثيرة لاح طيف تلك اليد المجهولة له.

نطق: أيتها المواطنات ومواطنو جمهوريتنا العزيزة! أقسم بأنني وفي لقسمي وأخدم بلدي وأبناءه كأي أب صالح يخدم أولاده.

تصفيق حار في القاعة، عدسات المصوّرين تنتقل من مكان الى آخر .

 

ثم هتاف قوي: - عاش الأب القائد.

ضحك في داخله:" أيها الخاسرون المنافقون! "  

لم ينقطع التصفيق والهتاف و كأنّ في كلامه شهوة الفرج والنعيم! 

حينما ظهرت ثانية تلك اليد من خلف المنبر وسحبته، تلكأ ثم خاطب المؤتمرين:

- سوف نلتقي في حب الوطن. خرج من القاعة  وبقي التصفيق خلفه" عاش الأب القائد".

نبح في الممر بطاعة عووووو ، فهو لا يستطيع الانفكاك من طوق التبعية الحديدية للخارج.

و ما تزال القاعة تهتف :عاش الأب القائد.  إنهم يردمون التراب على الوطن. 

مات الوطن.

تعديل المشاركة Reactions:

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة