نارين عمر
التقت به في أروقة كانت تجد فيها نفسها، تحسّ بكينونتها في أبهى وأنقى تجلّياتها حيث القلم المشبع بالشّعر والأدب، وحيث أناس تنتمي إليهم كانتماء الوطن إلى دم عاشقها المفدّى. وجدته منتشياً بها قبل تماهيها بشعرها وشعورها بخطوة، لاحظت عليه بوادر حمّى لا دواء لها غيّر حمّى توازيها في العلّو والارتفاع. كيف؟ ولماذا؟ لا جواب لديها.
لم تعد تأبه إن كان طيفها يمرّ على لوح ذاكرته المحفوظ اسماً، المهزوز بنية. تشعر بخيبة حسٍّ تجاهه وهي التي كانت تردّ بلطف مشاعر من غيره تتهاطل عليها كمطر الشّتاء الذي ينغمس في جوف الأرض فيروي عطش التّراب. كانت تعي بحدسها الخالد الذي لا يعرف النّوم وبالحاسة ما بعد السّادسة أنّ حبّهما تائه في مسار معلوم الهويّة، معروف النّسب والانتماء، تنبت بذور حدسها في جفاف أفقه.
بصراخ هستيريّ الجنس يهتف:
"أنا أكره القيود، أريد أن أعيش لا كما هم يريدون".
يهجرها لأيّام ثمّ كطفل فقد نبعي أمّه المتدفقَين بإكسير البقاء والدّيمومة، يقول لها: "أنا طفلك المدلّل، خطيئة الدّلال تلحق الأمّ لا طفلها!".
هو يراها امرأة لا امرأة سواها، امرأة يزهر بها رحم القرن الواحد المهضوم لمائة عام لمرّة واحدة فقط. وثقتْ به -وكم هي عزيزة عليها ثقتها- وجدت فيه روح ابن الجيران الذي لفظته حوافر مسافات لا قلب لها ولا مشاعر، وبوح عشق حبيب شبابها الذي انتسب إلى خانة الفداء فهرسته أناملها في طريق اللاعودة.
قال لها: "قبل أن ألتقي بك، كانت أنامل قلمي تدغدغ كفيّها، تنادي بالنّيابة عن قلبي. كلّ قصائد العشّاق في العشق لم تشف غليل عشقي ولا أغنته من جوع.
من يدلّني على قصائد ترويني إلى الهذيان؟ طيف همسك تماوج في ظمأ عشقي، أسكر طربي لعشق لم تعرفه قواميس الحبّ في رحم الأَدم. لا تسأليني أحبّكِ أو لا أحبّكِ؟
آه منك! وهل يُسأل السّجين عن رأيه بالحرّيّة؟ الذي بيننا أكبر من الحبّ، توحّد إلهيّ، جسدان وروح واحدة. لا، لا روح واحدة، جسد واحد".
مفردات تناغمت، تشابكت، ابتعدت، اقتربت، تاهت ثمّ عادت في هيئة جواز سفر إلى كيانها الذي منحه إقامة مدى الحياة.
تعيش معه إحساساً مغايراً كانت فقدته منذ تلقيها نعي مَنْ نفث روحه فيها، وترك الجسد لقاع لا تبالي بالجسد حسباً ونسباً.
القلم بروافده، من المنبع إلى المصبّ كان يسرقهما إلى قاربه الذي يوهب القلب والرّوح، يلحّن مشاعرهما على أوتار المياه المتدفّقة بعد صراع فاقد للضّمير والمشاعر حاصر البلاد والعباد، صراع تمنّوه بشارة مولود اسمه "الرّبيع" انتظروه، انفلت من جوف مكين، مقيّد، دهس الأخضر واليابس، داس على ما تبقّى من المبدأ والكرامة لفّه مع إعصاره في بلاد المسافات الطّويلة، وقذفتها إلى بلاد تشبهها في الشّهيق والزّفير، بثّ إليها انكسار نفسه، انهزامه وضعفه.
كأمّ ترعى ابنها الدّلال والحنان إلى حدّ الكفر ناغته، فصار هوائيّ المزاج، متقلّب الأحوال، يستقيم كالزّاهد الذي لم تخترق مسمعيه لفظة الخطيئة والإثم، يقول لها:
"كفر مَنْ يمسك يدك غيري، كفر من ينثر في وجدانك همسات العشق غيري.
عشقي الأزليّ السّرمديّ! كنت ذاتي المفقودة بين غيوم الحروف، وجدتك، وجدت ذاتي في قاموس عشقكِ. أصمت بقوّة كي لا تتركيني. كلماتك، تحرّرني في أصول العشق، لا يحقّ لأحد أن يحبّكِ أكثر منّي. حافظتُ على كينونتي كأمانة في كياني، وجدتكِ فأعدتُ الأمانة إليكِ.
كنت أعلم أنّك لي كحمامة أحييتني، لا يليق بك هذا العالم، ليكن عالمي معبدكِ، لتكن أناملي بلسم سكينتك.
شكراً للقدَر الذي أعادكِ إليّ
شكراً لأنّك خلقت في زمني".
ولجت عالمه المعبد، مارست معه طقوس الجنون والتّعقّل، هو في بلاد وهي في بلاد عبر المسافات التي نابت عن حمام الزّاجل في تبادل العواطف برافديها المشاعر والأحاسيس.
بين برهة وربيبتها كانت تعاوده حمّى الانكسار والانهيار:
"قدرة قدريّة جمعتنا، فرّقتنا، ثمّ جمعتنا في عالمنا المعبد الذي لا عوالم مثله أنتجتها خرائط البرّ والبحر والجوّ! لنعش كما لم يعش أحد وما عاش ولن يعيش…. "
كانت تتماوج في فيض أنامل مفرداته وحين أفاقت وجدته قد عاد من جديد
إلى انكسار نفسه وهلوسات مخيّلته التّائهة في دروب لا خطوات لها وقد تصدّأت في شروخ غربة لم تعد تصون أمانة الحبّ، و لم تأبه لكفارة المحبّين.