حسين محمد علي
أحببت كل شيء في حدود!
الأغنيات القديمة، صباحات الصيف البليلة، كتاب الماء والقصب، متعة النوم صيفاً على الأسطح بغطاء من نجوم، تهليلات المساجد، رنين نواقيس الكنائس في أيام الآحاد، هدير بوسطة (لاو وآغا) في رحلة يومية إلى حلب، صخب القادمين إلى سوق الخضرة من الأرياف محمّلين بالبطيخ والعنب والقثاء وكل نفير الخير من الأرض الطيبة، نعم أحببت كل ذلك!
ولكنني أحببت الناس بغير حدود! وها أنا ذا أقدم صوراً شخصية لبعض من عرفْتُ وعرفتها كوباني وشوارعها العتيقة.
أستميحهم عذراً! فسأقدّمهم بلا رتوش وبأسمائهم الحافية كما عرفناها، فلقد كانوا جزءاً من المشهد.
صالح بك... جنون العظمة:
شخصية فقيرة بائسة، لكنها مثيرة بالنسبة لنا نحن الأطفال، كان مصاباً بجنون العظمة، يرتدي بدلة عسكرية مرصعة برتب ونياشين، لا أدري من أين كان يأتي بها؟ يتقمص دور القائد العسكري، يسير في السوق يهذي بإصدار الأوامر ، ويتمنطق بخنجر طويل (قامّه «Qame»)، يتدلى من خاصرته، وأحياناً يلوّح به دون عدائية، كنا نجتمع حوله مبهورين ويقول لنا ملاطفاً: أنتم عساكري، ثم يصرفنا بعد أن يوزع علينا قطعاً من السكر، ويستمر هو في طقوسه الوهمية ، ونحن نمضي إلى شغبنا وصيد آخر، كان رغم هذه المظاهر يتميز بمشهدية محببة من الناس، يُذكر أنه سافر إلى الرقة وهو بهندامه وخنجره وهناك اُعتُقل وتعرض للأذى إلى أن عرفوا حقيقته فأخلي سبيله، وكان يردد وهو مصدوم : حكومة الرقة.
غير حكومة!!
ولو... قاهر الألغام:
أحبولة شيطانية كما في تعبير (غوته) عن (فاوست)! رجل ستيني طويل، متقوص الظهر من ثقل السنين والفقر، يحمل سلته وعصاه الغريبة، تميز بالرهبة والملامح القاسية، عمل (ملّيساً) في الشرطة الفرنسية، وكان من يعمل مليساً غالباً من الأقليات العرقية، ولربما استمد هذه القسوة من عمله هذا، لم نكن نجرؤ على الاقتراب منه كثيراً، أذكر في أيام الصيف كان يمارس طقساً يومياً، إذ يغامر متسللاً إلى الكرم المتاخم لسكة القطار وسط الألغام وعيون العسكري التركي ورصاصته التي لا تخطىء عليه، يعبر من تحت الجسر ويعود بصُرّة من العنب، هكذا كان دأبه... شجاعاً كريماً سكيراً مرهوب الجانب، يتفوه بالبذيء من الكلمات – حين يثور – على مَن يتحرّش به، كثيراً ما كان في أنصاف الليالي يقرع بيت باب ليون (بائع الخمرة) وأحياناً يمتنع عن فتح الباب له، بسبب السكر الملازم له، فيصب عليه اللعنات والشتائم، ويستلقي هناك ويأخذه النوم إلى الصباح، "ولو" هذا عاش سنوات طويلة بين ظهرانينا، ولكنه اختفى عن المشهد، ولربما مات بصمت منبوذاً دون أن يدري به أحد!
جرمو... المنبوذ المحبوب:
كان اسمه محمود، رجل بائس بأسمال مرقّعة، كان مصاباً بشلل رعاشي في عضلة رقبته، ودون إرادة يهتزّ رأسه يميناً ويساراً وإلى الأعلى والأسفل، وبالكاد كان قادراً على بلع الطعام أو النطق بكلام مفهوم، وكان يسير متعرجاً، بسبب تشوه في عظام قدميه أيضاً.
ورغم هذه اللوحة الإنسانية الأليمة كان محبوباً لطيفاً يقدّم له الناس الطعام ومكاناً للجلوس ويمزحون معه بمزحات ثقيلة أحياناً، فيهرب منهم وهو يرغي ويزبد مترنّحاً، كان دائماً يعتمر عقاله وشماخه الوسخ، يُروَى عنه أنه كان على علاقة مع عجوز تسلبه كل دراهمه التي يجمعها في السوق.
باقي خضر... الأغنية التي لا تنتهي:
انتهت إليه إبداعات مشو بكابور، والده خضو وبالرغم من أصوله العربية كانت أغانيه الملحمية معبّأة بروح الشعب الكردي في المرحلة الرعوية وتجلياتها في فروسية (دوريش عبدي) اليزيدي وحبه الجامح لـ (عدولة) ابنة باشا قبيلة ملّان وترنيماتها (دلال)، وهي تهدهد رأس دوريش المثخن بالجراح المحتضر في برية ملان بعد معركة غير متكافئة مع قبيلة جيس والترك.
باقي خضر مدرسة حقيقية وموهبة فذة، تميّز بنفسه الطويل وهو يسرد متدفقاً ملاحم البطولة في مقامات موسيقية نادرة خاصة بهذا النوع من الغناء (لاووك)، وبقدرة هائلة على صياغة القصص شعراً وبقافية واحدة تمتدُّ لساعات، ترك أبو عبد الله إرثاً فنياً عظيماً؛ وهو كنز حقيقي ، ومفخرة الكورد البرازيين، كان آخر العظماء في هذا الفن المتميز. ومن ملاحمه الرائعة إضافة إلى الملحمة الكبيرة (دوريش عفدي) ملحمة (أحمد مندي وغزالة وطيار) وأغنية (خالو ودلو). والأخيرة أغنية وجدانية ومرثاة إنسانية حزينة، فكأنّما كان يودّع الحياة! غادرنا عام 2009 في السابع من شهر شباط، وكانت جنازته تاريخية بحضور الآلاف ممن اعترفوا بفضل مساهمته الكبيرة في الفن الكردي، وإن غُمِط حقه في حياته؛ فلقد كنت أراه في أخريات أيامه مُهمَلاً ضائعاً يسير في شوارع المدينة دون أن يلتفت إليه أحد، وهذا ما كان يحزنني! وكثيراً ما كان يطلب من الناس إيصاله إلى بيته بعد أن وهن جسمه، وزاغت عيناه وهنا أتساءل بمرارة: أيهم الميت؟ الحشود أم القبر الرخامي؟!
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى رفيق دربه (محمّد دومان) الذي رافقه في بعض المحطّات بكمانه في توليفة مبدعة صعبة.
خليل دومان غطّى مساحة كبيرة من حفلات الأعراس بأغانيه الشعبية؛ فقد كان فنّاناً بالفطرة، واستوطن ذاكرة كوباني الجميلة.
شيخ شكرو... النيرفانا الأخيرة:
رجل بسيط كقطرة ماء! زاهد، صاحب طريقة صوفية بدائية دون إشراقات (ابن عربي وطواسين النُّفَّري) عنده الكثير من الأتباع والمريدين الفقراء يؤُمُّون بيته المتواضع المفتوح دائماً للضيوف وطالبي السلام والسلوى من قسوة الحياة، بيته ما يزال إرثاً لأولاده وأحفاده، قريباً من معمل السجاد غرباً.
في ليالي الجمع والمناسبات الدينية تُقام عنده طقوس من الرياضات الروحية الصوفية (الذِكر)، حيث تنبعث من البيت التكبيرات وهمهمات الدفوف والمزاهر وصرخات الوجد والهذيان حتى الوصول إلى حالة الحلول والنيرفانا.
والشيخ (شكرو) حالة صوفية إشراقية مستسلمة أكثر من كونها حالة عرفانية، وهو يتبع طريقة الشيخ الجليل المعروف باسم (شيخ حسين كوسى)؛ وهي بالأساس فرع من الطريقة القادرية؛ وهي تنتمي إلى أرومة القطباني الكبير (الرفاعي).
أذكر في وقفة العيدين كان يخرج وسط حشد من مريديه حاملين السناجق والأعلام والرايات الخضراء، مصطحبين معهم السيوف والدبابيس والسياخ الحادة الخارقة وسط تهليلات وتراتيل صوفيّة، يبدأ المركب بالسير بعد طقوس التسخين والشحن، يندفع بعض المريدين ممّن تستبدّ بهم نشوة الحالة الصوفية والهياج؛ ليطعنوا بطونهم بالسيوف، ويبقروها بالسياخ الحادّة وسط خوف ودهشة الناس!
هذا المشهد يذكّرنا بالمشاهد الكربلائية المثيرة، ويتقدّم المركب بالحشود الهائلة ، أولاً إلى (كاني مشديه)، فهناك ضريح (عيشة نور)؛ وهو عبارة عن مزار قديم، ثم يرتدّ الركب عائداً؛ ليتوجه إلى مشته النور ، حيث تصل الطقوس إلى ذروتها في الإثارة والرهبة، ونحن – الصغار – كنا جزءاً من هذا الركب يداخلنا الخوف والرهبة، ولا نستطيع تفسير ما يجري أمامنا، ولو تمترسنا خلف كل كتب العلوم والفيزيولوجيا! سيف يغيب في لحم البطن، وحربة تخرج من الظهر، ودبوس يتوغّل!