-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

فصل من رواية «مئة عام قبل الخاتم» للكاتبة السورية ريمة راعي


ريمة راعي

آه كم أنت حقيقيّ أيّها الماضي!

يا رفيق براءتي العزيز ورجائي المندوب!

هل هذا هو العالم حقًا؟

جياكومو ليوباردي

 

شبّيك لبّيك عبدك بين يديك!

عقدت ذراعيّ فوق صدري العريض, ونفخت عضلات ساعديّ مستمتعًا بممارسة هوايتي الأزليّة: التباهي, وتريّثت عدّة لحظات رافعًا رأسي إلى أعلى في انتظار المتعة القادمة: الشهقات, والصيحات المذعورة, والكلمات المرتعشة: يا إلهي! ما هذا! مارد!

 

إلّا أنّ الصمت ظلّ مخيّمًا على المكان, لا يقطعه سوى صوت صراصير الليل المزعجة التي لا تحترم المهمّات الجليلة.

نظرت بطرف عيني أتفقّد المكان حولي, وأنا ما زلت عاقدًا ذراعيّ فوق صدري, لكنّني لم أرَ أيّ بشريّ يرتجف أمامي, أو يتعثّر بينما يحاول الفرار.

 

وسرعان ما بدأت أستشفّ أنّ خللًا مريبًا قد حدث في ترتيب الأحداث!

وبعد أن نفد صبري, اخترقت إحدى القواعد الخاصّة بعمل مردة الأمنيات؛ والتي تنصّ على أنّ المارد لا يكرّر كلامه مرّتين, فسعلت, وهتفت مجدّدًا بصوت أشبه بالزئير:

شبّيك لبّيك عبدك بين يديك!

 

لكنّني لم أسمع أيّ صوت, ولم أشعر بأيّ حركة. وبينما أتفحّص المكان حولي, رحت أفكّر بأنّ من مسح على القمقم قد اختبأ حتمًا بين الأشجار, وعليّ أن ألعب معه لعبة غمّيضة مملّة. وعلى الرغم من حنقي عليه لإضاعته وقتي الثمين, إلّا أنّني عذرته, ورحت أتمتم بغضب بينما أبحث عنه:

 

هذا واحد من الأعراض الجانبيّة لكونك بشريًّا؛ سوف تهرب من السعادة متى جاءتك؛ كي تتابع لاحقًا العويل على حالتك البائسة مثل ولد صغير.

 

وبينما أزيح الأشجار بيدي, أخذت أصيح بصوت مجلجل: أين أنت يا سيّدي؟ أنا مارد القمقم, سوف أحقّق لك أمنياتك؛ ليس كلّ أمنياتك بالطبع, ثلاث فقط, لكنّها كفيلة بتحسين حياتك التي أتوقّع أنّها مريعة بالنظر إلى جبنك.

 

وحين لم أتلقَ أيّ إجابة, قرّرت أن أتنازل قليلًا وأكون أقلّ تعاليًا, فقلت بصوت بذلت جهدًا كي يكون رقيقًا قدر المستطاع بالنسبة إلى مارد:

لا تخف يا سيدي, أنا كبير الحجم, لكنّني لطيف القلب وحنون.

 

كانت عصافير خائفة تفرّ من أعشاشها بينما أمدّ يديّ الضخمتين أفتّش عنه بين الأغصان؛ سناجب وحشرات وكائنات صغيرة لا أعرف أسماءها, تهرب وهي ترتعش حين أقتلع أشجارًا أشكّ بوجوده خلفها. كنت أزفر بغضب, وأنا أفكّر بأنّ هذا المعتوه لا يقدّر الحظّ الهائل الذي صادفه, ويجعلني أطارده كما لو كنت سأقتله!

 

يا للحماقة البشريّة!

-         هيّا يا سيدي اظهر كي تحصل على أمنياتك, هيّا يا عزيزي كفّ عن الاختباء, لقد مللت من هذه اللعبة, عليّ أن أعود إلى القمقم؛ الجو بارد هنا, ولا يناسب بشرة جلدي الحسّاسة.

 

بعد أن تعبت من البحث, وبينما أشعر بالريح الباردة تلسع جلدي, تحوّل غضبي إلى غمّ, وبدأت الشكوك تدور في رأسي؛ ماذا لو كانت الريح قليلة التهذيب هذه, هي المسؤولة عن شعور الدغدغة الذي أيقظني من نومي؟

نعم, ولم لا؟ إنّها الريح حكمًا!

 

طمأنت نفسي بأنّ الأمر مجرّد سوء فهم لا أكثر. وبالتالي مهمّتي قد انتهت؛ لأنّ الريح لا تحتاج ماردًا يحقّق أمنياتها.

لكنّني وبينما أنظر خلفي, اكتشفت مشكلتي الجديدة:

-         أين قمقمي؟!

 

وهكذا تبيّن لي أنّني وبعد أن أنهيت رحلة بحثي عن سيّدي, بات علي البحث من جديد للعثور على قمقمي, الذي إن عرف أحد المردة أنّني أضعته, سيصبح تاريخي الطويل الحافل بالإنجازات مجرّد نكات يتبادلها المردة في لقاءاتهم السنويّة, التي لطالما تسبّبت ضحكاتهم خلالها بالبراكين والهزّات الأرضيّة.

 

أدرت ظهري, وعدت أدراجي أقطع المسافات ذاتها التي قطعتها من قبل. كانت الأرض ترتجّ تحت قدميّ بينما أتأمّل أشياء الحياة الصغيرة وهي تقفز إلى الأعلى, ثمّ تتهاوى نحو الأرض دون أن يكون بينها قمقمي العزيز الضائع.

 

وبعد مسير طويل رأيت بيوتًا صغيرة لها حجم كفّ يدي, حاولت أن أتحدّث إلى البشريّين الذين كانوا حولها, لكنّ زمجرتي أفزعتهم؛ فهربوا وهم يرتعشون, وأقفلوا أبوابهم. ولا أنكر أنّ سلوكهم هذا أثار غضبي؛ فصرت أنتزع أسقف البيوت؛ كي أوضح لهم حسن نيّتي, وأنّني أريد فقط أن أسأل إن رأى أحدهم قمقمي, لكنّهم كانوا يهربون وهم يصرخون كالمجاذيب. وفي الحقيقة لم يكن ذلك مسليًّا كما كان الأمر حين كنت أنفّذ مهامي كمارد. كنت قد بدأت أشعر بالتعب, وأحتاج إلى النوم, وعلى الرغم من أنّ نفسي وسوست لي بأن أغفو قليلًا تحت إحدى الأشجار, إلّا أنّ شرف المارد منعني.

المارد لا يغفو إلّا في قمقمه.

مرّت أيام وأشهر ثمّ سنوات, وأنا أسير على قدميّ أبحث عن قمقمي, لكنّني لم أعثر عليه. قدماي تجرّحتا, وقامتي المهيبة احدودبت, وعيناي اللامعتان باتتا ذابلتين كعينيّ قطّ نعسان.

 

ولم يعد الناس يهربون حين أقترب منهم كي أسألهم عن قمقمي المفقود, بل باتوا يستمعون إليّ بإشفاق وحنوّ لم أستطع تفسير السبب الحقيقي الكامن وراءهما, لكنّني رددت ذلك إلى تعاطفهم معي لفقداني قمقمي, خاصّة وأنّ الأسى قد حوّل زمجرتي المفزعة أنينًا خفيضًا, وأفقدني الرغبة في نفخ عضلات ذراعيّ بغرض المباهاة وإثارة الذعر.

 

وفي أحد الصباحات استوقفت رجلًا ذا شعر أبيض وفم فيه أسنان قليلة العدد, وسألته عن قمقمي, وبينما يحدّق في وجهي بعينين ضيّقتين, مدّ يده إلى حقيبة كان يحملها في يده, وأخرج منها شيئًا مدوّرًا, أمسك كفّي ووضعه فيها, وقال لي: هذا رغيف خبز, ابحث عنه؛ أمّا البحث عن قمقم ضائع؛ فسيقودك إلى مشفى المجاذيب.

أعطاني إيّاه, وقرّب واحدًا مثله من فمه المفتوح, وغرز أسنانه فيه.

رفعت حاجبًا, وسألته:

-         مشفى المجاذيب؟ هل هذا قمقم أيضًا؟

الرجل لم يجب عن سؤالي, بل هز ّرأسه بأسف, ومشى مبتعدًا.

وفي واقع الحال لم أكن مهتمًّا بإجابته؛ لأنّ تركيزي كان منصبًّا على الشيء المدوّر الذي كان يلسع كفّي بحرارته.

 

شممت رائحته فلم تعجب أنفي رفيع الذوق, وشعرت بحنين جارف إلى رائحة البخور في قمقمي الضائع, لكنّني لحظة غرزت أسناني فيه, كما رأيت الرجل ذا الأسنان يفعل, أحسست بدفءٍ في جوفي, وحين ابتلعته غمرتني نشوة جعلتني أشعر بأنّني سعيد وخفيف الوزن؛ فنفخت عضلات ساعديّ وصدري, وحلّقت في السماء, ثم هبطت على الأرض, واعترضت طريق ابنة السلطان الجميلة التي يهواها سيّدي, وخطفتها بتهذيب شديد, ثمّ بنيت لها قصرًا نوافذه تطلّ على الغيوم, واقتلعت البحر من مكانه, ووضعته في مغطس جسدها النحاسيّ, وانتزعت من الأعين التي تتفرّج علي بذهول, التماعات دهشتها كي تضيء سقف غرفتها و...

وانتهى الرغيف, فاستحلت ضبابًا, ثمّ تلاشيت.

فتحت عينيّ بفزع, كنت وحيدًا على الرصيف, وكلّ أعاجيبي قد تبخّرت كما لو أنّها لم تكن.

 

وفي تلك اللحظة كان كلّ ما أريده هو رغيف آخر, لكنّ صاحب الأرغفة كان قد رحل.

 

وإن سألتموني عن اللحظة التي تغيّر فيها قدري إلى الأبد, سأجيب دون تردّد: إنّها تلك اللحظة التي فتحت فيها عينيّ, ولم يكن قمقمي الضائع يشغل ذهني, بل رغيف الخبز.

 

في تلك اللحظة حلّت عليّ لعنة الخبز, ووجدت نفسي أستوقف الناس, وأطلب منهم برجاء مثير للشفقة أن يعطوني رغيفًا. معظمهم تظاهروا بأنّهم لا يرونني, وبعضهم راح يصيح:

-         ابتعد من هنا!

 

لكنّ رجلًا يملك عيني قطّ نعسان مثل عينيّ, وضع في كفّي الممدودة قطعةً مدوّرة تشبه رغيف الخبز, لكنّها صغيرة جدًا وتلمع, ولم يقل لي شيئًا, بل ابتسم, وهو يحدّق في عينيّ.

 

فكّرت بأنّ هذه القطعة المدوّرة هي بلا شك شكلٌ من أشكال الخبز, وضعتها في فمي, وكدت أغرز أسناني فيها, فصاح بي: يا مجنون! هذه نقود تشتري بها الخبز!

 

سألته بقلق:

-         أشتري الخبز؟

نظر إليّ بأسى, وقال:

-         تعال, سأدلّك على الفرن.

 

مشيت قربه, وأنا أشدّ على القطعة النقديّة في يدي, وبعد دقائق, وصلنا إلى مكان يصطفّ فيه أناس وراء بعضهم البعض في خطّ مستقيم, وكلّما غادر أحدهم حاملًا عدّة أرغفة, أصبح الخطّ الذي تبيّن أنّ اسمه طابور أقلّ طولًا, وكان ثمّة رجلان يتشاجران في منتصف الطابور, قال أحدهما للآخر: لقد كنت واقفًا هنا قبلك, لكنّني خرجت من الطابور كي أجري مكالمة.

فردّ عليه الثاني:

-         هل تعتقد أنّك في باريس؟ تخرج من الطابور, يعني أنّ دورك قد خرج معك.

-         أنت عديم الذوق والتربية.

-         بل أنت قليل الأخلاق والفهم.

 

تجاهل الرجل صاحب عيني القطّ الشجار, كما لو كان أمرًا مألوفًا هنا, وقال لي: هذا هو الفرن.

وحين رأى الحيرة في عينيّ, قال:

-         قف في الطابور, وحين يأتي دورك, ستعطي النقود للرجل الواقف خلف النافذة, وسيعطيك مقابلها عدّة أرغفة.

-         كم رغيف؟

-         سبعة.

 

شعرت بدهشة عظيمة؛ لأنّني لم أتصوّر أنّ بالإمكان الحصول على سبعة أرغفة معًا! كيف يمكن الحصول على كلّ هذه الأعاجيب دفعة واحدة؟!

 

وبعد انتظار طويل تلاشى الرجال الذي كانوا يقفون أمامي في الطابور, ووجدت نفسي أمام نافذة تفوح منها رائحة الخبز البهيجة, وعلى الرغم من أنّني كنت أحملق بفرح في عيني الرجل الواقف خلف النافذة, إلّا أنّه لم ينظر في وجهي, كان يحدّق في يدي, وحين فردتها أمامه, انتشل قطعة النقود منها, وأعطاني سبعة أرغفة.

 

تعديل المشاركة Reactions:
فصل من رواية «مئة عام قبل الخاتم» للكاتبة السورية ريمة راعي

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة