جان بابير
صدرت للكاتب والروائي جان دوست رواية الكوردي
سيبس في عام 2020 م, عن دار الفكر, بعدد صفحاتها الست و تسعين من القطع المتوسط . أردت أن أقدّم هذا التعريف لما يرتبط ذلك
بمسيرة النملة "خبات" والتغييرات التي تطرأ عليها بعد أن تدخل حقل
الكوردي سيبس .
في
البداية يجب أن نتعرّف على الكوردي سيبس، ما هو ولماذا تم استخدامه في الرواية
كدلالة رمزية ؟ إنه نوع من الفطر السام يتحلل في أرض الغابة وتُطلَق في الثانية الواحدة آلاف الجراثيم,
وحينما تستدِل إحدى هذه الجراثيم إلى العنوان المناسب, ومن مكانها الجديد فإنها تستطيع احتلال منطقة بأسرها, وهذا الصنف
من الفطريات لا يتغذّى على الأموات وحدهم وإنما على الأحياء أيضا, والنمل من
الفرائس المستحبَّة لهذه الفطريات
الجرثومية, وسنرى كما في أحداث الرواية كيف تتسلّل شبكة من الجذور الفطرية إلى
جميع أنحاء جسد خبات وتغمر دماغها بالكيماويات, وتطلق هي الأخرى جراثيمها فيصاب
المزيد من النمل بالعدوى المميتة, والكوردي سيبس يعيش على أجساد ضحاياه.
إنها
رواية خارج المألوف, وهي في الحقيقة مختلفة قالبا وحدثا, فلا يوجد أي دور يُسند لأيّ
بشري في الرواية, إنّما لكائنات صغيرة
دقيقة من الحشرات, ويستنطق تلك المخلوقات لتأخذ دورها في الحوار
والأحداث والحكمة, إذ أن أبطالها من فصيلة النمليات, ومنهم النملة خبات التي ارتبط
اسمها بعملها في اللغة، خبات تعني النضال والعمل في اللغة الكردية.
ولم
يختار الكاتب جان اسم خبات اعتباطا بل بدارية, لكي يوكل إليها دور البطولة , خبات
العاملة الفتية المتمردة المقامرة على قيود مملكة النمل , وقد حدّد الكاتب التوزيع
الجغرافي للنمل؛ منهم من يعيشون في الإقليم شرق المستعمرة التي أسماها
الكاتب بالسعيدة، الغابة الشمالية حقل الكوردي سيبس , وفي هذه دلالات رمزية إلى
التوزّع الجغرافي للكورد , ومن جهة أخرى أوضح التخندّق الأيدلوجي للأحزاب التي نمت
كالفطر.
ونقتطف هذا الحوار من نهاية الصفحة
25 أو بداية الصفحة 26 لقائد فريق الذكور من النمل "
ضحك قائد الجماعة وهزّ قرني استشعاره
الغليظين في كافة الاتجاهات ثم خاطب رفاقه:
- إن أفضل عمل قمنا به
في حياتنا هو امتناعنا عن إلقاح الملكة , هناك طائفة من النمل تدفع أرواحها ثمنا
لنزوة قصيرة الأجل, نحن من أصابنا المصباح المقدس بنوره كسبنا حياة إضافية .
-عاش المصباح المقدس.
صاح ذكر غليظ الرأس فردّد
الآخرون:
-عاش المصباح المقدس .
ثم بدأت الجماعة تتراقص
حول القائد صاحب أغلظ قرن استشعار في تلك الأنحاء, بدءاً من المملكة الشرقية
ومرورا بالإقليم الحر حتى المستعمرة السعيدة و وصولا إلى الغابة الشمالية .
في تلك اللحظة اقتربت
خبات من أفراد الجماعة الذين كانوا يحتفلون بنور المصباح المقدس ويغنون له:
- مرحبا يا رفاق .
في هذا الحدث يتعرّف فريق نمل
الذكور إلى رائحتها الأنثوية لتعرّف خبات بنفسها للقائد.
- أنا نملة تبحث عن السعادة.
ومن خلال حوراهم يتبيّن أن خبات قد بدأت بالملل من عيشها في
المستعمرة، فتبحث لتجد لنفسها مكانا آخر، وتعلن تمردها الفعلي على النمطي والسائد
لتخلق حياة تليق بها وبأفكارها خارج الرتابة، ومحاولاتها الأولى لكسر الدوائر, لكن
من حديثها مع قائد فريق ذكور النمل تصل إلى
حقيقة أن تمسح الدوائر من ذهنها وتخرج من حلقة الوهم تلك, وأنها يجب أن تتسلح
بالإرادة لتكسر لعنة دوائر الأنا, و كيف تنصهر في ال نحن. من خلا ل نور المصباح
المقدّس يتحررن من العبودية, وخلاصهن أي النملات من السطوة كأنهنّ أمام مجتمعنا
الشرقي, أو في وسط يظهر سطوة الذكور, والعمل الدؤوب للنملات الإناث في القبيلة وإحقاق
تحويلهن الثوري من خلال ال نحن, وإسقاط رمزية المصباح, الذي هو التحرر وإنارة
العقل والفكاك من القيود, لكن سنرى أن هذا المصباح يتسربل منه نور داكن ومظلم ،
ليأتي الجواب على هذه الأسئلة على لسان خبات النملة الفتية بين الذكور والإناث
صفحة 32 :
"- إن كنا عبدات في
القبيلة فأنتم عبيد شهواتكم , بل ضحايا مجرد نزوة تقتلكم .
إن أي ذكر منكم يستميت
من أجل الوصول إلى الملكة, وتدركون ماذا ينتظر من يصل إليها".
المصباحيون أو المصباحية: هي جمع
وحشر كل النمل في إيديولوجية وإطار محدَدين وبرؤية ذكور النمل تكون المصباحية هي
طريق الخلاص ، لكن خبات ترفض هالة مملكة النمل المصباحية, فهي تريد لها أن تعيش
كما تريد وترغب, لا كما يطلب منها المصباحيون مريدو النور المقدس , تريد الحرية والانعتاق
من قيود المجتمع , وهي لا ترى في نهج المصباحيين الحقيقة, فقد تكون الحقيقة في
طريق آخر, تعرُّضها لنور المصباح الداكن يشبه إلى حد كبير غسيل الدماغ , لتستفيق
و
تسأل نفسها عن هذا النور الداكن الغريب ؛ نور أقرب إلى الظلام , لتعود بمخيلتها,
أي النملة الشقراء خبات إلى عملها في حفر الأنفاق ونقل بيوض الملكة والأرزاق .
تبسّمت قليلا وقالت
لنفسها:
- نحن كنا ولا نزال نحفر
لأنفسنا سجونا نظنها مساكن، كنا ولا نزال
نتحصّن داخل سجوننا التي حفرناها بفكوكنا ، نبقى فيها إلى أن نموت . كيف؟ولماذا نطلق على سجوننا العفنة أسماء جميلة مثل: قرية ,
مملكة , بيت و وطن ؟هراء، هراء فاحش, الأوطان
ليست سجونا. صفحة 39
لنكتشف مع القراءة أن النملة لم
تعد نملة, وإن كانت تحتفظ بشكل ذلك المخلوق الصغير إلا أنها ليست هي , إنّما حل
فيها الكوردي سيبس وتفقد نشاط وحركة
النمل . في هذه الرواية أو القصة
الطويلة يعمل جان على الرمز ويشير بذلك إلى المجتمعات الشرقية عامة والكوردي خاصة ,
ويظهر القوالب الإيديولوجية الجامدة ونزعة التمرد لدى بعض النملات اللواتي يبحثن
عن حياة مختلفة، ولذا نجد بعض قريناتهن اللواتي جاءت من أماكن مختلفة , و قد جذبهن
النور الداكن للمصباح ليتلقين في ذلك المعسكر بأفكار الزعيم الأعظم على أيدي
مدربين جيء بهم من الغابة الشمالية , وتنهل من تعاليم الزعيم الأعظم لتحاجج
رفيقاتها العاملات, و قد غدت تمتلك فلسفة الزعيم الأعظم لتحطيم الأطر والقوانين
المجتمعية للنمل ليكون محور كل تفكيرها نمط حياة الزعيم الأعظم , وصارت بعد أن
تلقت تعاليمها المصباحية في معسكر التدريب تبشّر هي الأخرى بأفكار الزعيم لتكسب
المزيد من المناصرات , وبعد ذلك أصبحت تلتقي مع تلك المؤيدات في حلقات سرية ليناقشن
أفكار الزعيم معها .
خبات تغيّرت بسبب أفكارها وبحثها عن الحرية , لتتحدث إلى نفسها النملة الشقراء من الصفحة 62
"-حين تفكر في
الحرية يلقون بك في الزنزانة .
-وحين يلقونك في
الزنزانة تفكر بالحرية ، بل يزداد تعلقك وشوقك إليها" .
لكنها لم تنصاع إلى قدرها , لذا
منحها السجن وقتا كافيا للتفكير في حياتها بإبداع, كانت تطرح على نفسها الأسئلة في
الزنزانة لكي تطوّر مجتمعها أو تعتق نفسها, لتصل إلى معرفة مبنية على الجدل ، حول
الجمود الفكري لمملكة النمل, وتقف ضد الشكل الفكري للنظام الذي وضع المملكة في أزمة
ولم تدّخر جهدا لتغير المصير وتحرر عقلها من سجن المجتمع , ولتعلن ثورتها أمام
القيم المتوارثة في الحياة والعمل والجنس بنظر كل طائفة تمتلك الحقيقة, لكن خبات
تبحث عن القيم الشاملة التي لا تفرق بين طائفة وطبقة ونبذ القيم الموجودة التي
تخدم طائفتها.
خبات التي تُعتقل وتُحشر في زنزانة
انفرادية ضيقة. كانت النملة خبات جزءاً من مجتمع كبير يسحق الفرد برحى القبيلة,
لكنها في السجن تختلي بنفسها وتعرف معنى نعمة الوحدة لتسترسل في التفكير, وتتذكر
لذة الذكور وتزاوجهم مع الملكة لينتهوا بالموت , وفكرت في نفسها، بمنظومة فكرية
جديدة صفحة 66 "النشوة التي تنتهي بالموت ليست نشوة
"
أن
يموت الذكر في سبيل لذة وقتية مع الملكة التي تختار الذكور بمشيئتها و حسب أهوائها
الخاصة لتكتمل الدورة العبثية للحياة ؛ ذكر، ملكة،
تزاوج و بيوض تفقس لكي تستمر الحياة على منوالها القديم . قررت خبات أن تخرج من
الزنزانة والوصول إلى حقل الكوردي سيبس دون أن تدري أي جحيم من الفطر والجراثيم
ينتظرها صفحة 79 "
"-عليَّ الخروج من
هنا بأي ثمن ,عليَّ الوصول إلى حقل
الكوردي سيبس في أقرب وقت".
حفرت بفكيّها في سقف الزنزانة لتهرب
إلى الحرية, إلى حلمها, وبعد جهد كبير ومتواصل فتحت ثقبا في السقف لتخطو نحو
الخارج , وما أن خرجت حتى تعثّرت بالنملة الحكيمة وهي تئن , وشارفت على مفارقتها
للحياة والمملكة ، طلبت منها الحكيمة أن تجرّها إلى خارج النفق لترى الطبيعة تحت
الضوء بعيدا عن الظلمة, لتموت خارج
الجدران, واستغلت خبات ذلك بحجّة سحبها أن تهرب خارجا فقالت النملة الحكيمة :
"- الحياة سجن أينما
كنت ,أنت سجينة الأوطان سجون، سجون قد تظنها الكائنات مراتع للحرية ،بل تكافح
الكائنات لبناء المستعمرات لتعيش فيها مستعبدة ".
جنبا إلى جنب الكاتب تسرد النملة
الشقراء قصتها ,وحينما يتلبس الكورديسيبس ينوب عنها الكاتب , يأخذ بالأحداث خلفا وأماما
,وهناك أدوار في الظل كالنملة الحكيمة ورئيس جماعة ذكور النمل, الأفكار لافته
وذكية خلال تصويره للمجتمع في قالب مملكة النمل.
توقفت
عن الحركة ولم تعد تلك النملة بعد أن استحوذ الكوردي سيبس عليها, ومن أجل حلمها
تخلّت عن أشياء كثيرة ؛
فقدت ذاكرتها وكيانها وخصوصيتها بعد أن سكنها الكورديسيبس , و لم تعد تلك النملة
الشقراء , بل تغيّر عليها كل شيء من هواء ومشاهد بصرية, كانت تعيش تبدلا في غاية
الغرابة لتصبح في النهاية فطر الكوردي سيبس على هيئة نملة, ورويدا رويدا فقدت
شكلها السابق وتحوّلت إلى مسخ بعد أن نبت لها مجسّان طويلان, وخرجت من جميع أنحاء
جسدها خيوط الفطر, وسيطرت على منظومة النمل , واستبدلتها بمنظومتها الجرثومية
السامة, أصبحت خبات تتصرف كفطر وليست كنملة صفحة 95,"وفيما
هي واقفة أخرستها الصدفة, ترفعها أمواج
الحيرة تارة وتخفضها تارة أخرى ،هبّت نسمات رخية فحرّكت الأغصان وجعلتها لحنا
جنائزيا وداعيا حزينا"
وهكذا ودعت النملة الشقراء خبات
الحياة والحرية وحددت جهة مصيرها بنفسها.