شعيب ملحم
شهد القرن العشرون ولادة العديد من المدارس الفلسفية المعنية بعلوم اللغة والنقد واللسانيات والثقافة والمجتمع والإنسانيات، ومن هذه المدارس علم الظواهر، الوجودية، البنيوية، ما بعد البنيوية والبراغماتية الحديثة، التحليلية، وآخرها المدرسة التفكيكية، التي يعتبر الفرنسي جاك دريدا (1934ـ 2004م) رائدها الأول، وتنطلق نظريته من أسلوب فهم العلاقة بين النص والمعنى، وربط قراءات النص بما يناقض المعنى المقصود، وبهذا المعنى فإن الناقد التفكيكي يساعد النص على الإفصاح عن تناقضاته، لأن النص يتضمن أسباب دماره، فعملية التفكيك ليس هدفها خلخلة بناء النص؛ لأن النص ذاته يقوم بخلخلة نفسه بنفسه، وما يقوم به التفكيك هو السماح للنص بالإعلان عن سقطاته لا إرادياً، وأن التشكيك واستخدام التأويل والتأويل المفرط، غالباً ما يفتح الباب لتعدد القراءات للنص الواحد.
جاك دريداهذه المقدمة المبسطة والمختزلة جداً، نراها ضرورية كمدخل لقراءة الكتاب البالغ التعقيد، والذي نعتقد أنه يحتاج إلى تفكيك لفتح الطريق إلى إمكانية فهمه لغير المختص، وهو ما حاول إبراهيم محمود في تقديمه والذي احتل ثلثي الكتاب، وكما قال: إنها أكثر من مقدمة، ولا أقارب نص دريدا كثيراً، أو بطريقة يُشتم منها نوع من الوصاية عليه، بل نوع من الإضاءة لتجعله أكثر إمكانية لقراءته. ونص دريدا لا يتعدى كونه محاضرة مطولة وتحديداً عن الترجمة، وتتوزع عناوينها: هذا التاريخ ، هذه الأنساب واللغات، حمولة الترجمة، مع مهمة المترجم، ورشة بنيامين في الترجمة، ما يترقب الترجمة، أما المقدمة التي تتجاوز (142) صفحة فهي عبارة عن مروحة واسعة لاستعراض أفكار وآراء كبار الفلاسفة العالميين في هذا المجال، ومن عناوين المقدمة (بين بابل الإله وألسنة البشر، نتذكر ما لا ينسى، أبعد من بابل بالذات، ما يعدنا به الانفجار الصادم).
(بابل) المدينة البابلية وبرجها الشهير، تقع في مجالين، بابل التاريخية، وبابل المنتمية إلى الذاكرة، وبابل الكتابة والشفاهة، الغياب والحضور فلا يوجد غياب ولكنه حضور على طريقته، وبابل تعني في اللغة الأكادية (باب الإله).
وفي الترجمة، لا يمكن ترجمة اسم العلم (بابل والبلبلة)، لان يغدو اسم علم، واسم جنس، ولا وجود لرابطة تطابق بينهما، وبما أن الساميين أرادوا إخضاع العالم لمنطقهم، فإن ذلك يعني (عنفاً استعمارياً) بالنسبة للجماعة الانسانية، لكن الإعاقة تمت عند تطويعهم لقانون الترجمة الضرورية والمستحيلة، وبهذه الطريقة تصبح الترجمة هي القانون، والواجب والدّين، لكن الذي لا يمكن سداده، وهو ما يمكن تسميته بالإنجاز البابلي، وحيث إن الدين لا يفسر ذواتاً حية، إنما أسماء على شاطئ اللغة، والألسنة كانت موجودة قبل اللغة.
من هنا تأتي حرية المترجم المرتبط بـ(اللغة الخالصة)، ويمارس تنمية اللغة من خلال تعدي تخوم اللغة المترجمة، وتحويلها أيضاً، مما يسهم بعملية الإضافة بوصفه رمزاً، (فهو لا يعيد الإنتاج، إنما يجمع عبر الإضافة والتماس مع الأصل بطريقة عابرة، وفي نقطة معنى تكون لا متناهية الصغر).
يتساءل دريدا: كيف يمكن تصور هذه النقطة؟ وبأي قياس نقدرها؟ يجيب: إن الاستعارة هنا هي في مقام السؤال والجواب، هي لا تعني الامتداد في خط مستقيم لا متناه، إنما تعني الاتساع باعتماد الإضافة، ومن هنا على الترجمة ألا تكون مشابهة للأصل، إنما تعمل عبر حركة محبة بتفاصيلها الدقيقة جداً، أي أن الأصل والترجمة يبدوان كأجزاء للغة الأكبر، وهذا يؤدي إلى مجموع لا تناقض بين انفتاحه والوحدة، وأن الأصل يكبر ضمن الترجمة، وأنه ينمو ولا يعاد إنتاجه، واللغات تتصالح وتتكامل فيما بينها، بوعد الوصول إلى (مملكة موعودة وممنوعة في الآن عينه، وتلك أكثر الإشارات خاصية بابلية).
دريدا في محاولة الإحاطة بموضوع الترجمة، يطرح قضية الإبداع والتأويل، وما لا يقوله ظاهر النص، وحرية تمكن المترجم من روح اللغة، التي يترجم منها إلى اللغة الأخرى، ويسخر مما يردده الإيطاليون بأن (الترجمة خيانة)، وهذا يقودنا إلى قول أحد المفكرين (ما إن تسعى أية ترجمة لأن تكون حرة حتى تنعت بالخيانة)، ومما يجدر ذكره اعتماد (دريدا) على مؤلفات فلاسفة آخرين، أبرزهم: فالتر بنيامين، وموريس دي كاندياك.
ربما يمكن القول، إن الاختزال والاختصار يقعان إلى حد ما إلى جانب الترجمة، وهذا ما حاولناه، برغم صعوبة وتعقيد النص ومحاولة ربط جانب كبير من طروحاته المتعددة، نرجو أن يكون قد حالفنا التوفيق.