-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

للوجوه بقية تطاردني !


حسين محمد علي/ كوباني 

أين المفرُّ من الوجوه التي تسدُّ عليّ الطريق ؟ وأنا مَن أخرجها من قمقم الذاكرة، وها هي تحاصرني ، وهي مطالبة بحقها فرى في كلماتي .. ما في الذاكرة يصبح ملكية عامة حين نطلق سراحه إلى الشمس والهواء والبراري، وتعلن الوجوه عن حضورها البهي ، وترفض أن تكون نسياً منسيّاً تحت أوراق الروزنامات المتساقطة. مِن حقّ كلّ هؤلاء الذين كانوا فوق هذه الأرض وهذه الجغرافية أن يكون لهم حضورهم فوق هذه الأوراق .

          مَن ينسى ) كلوس الأرمني(  أول مَن صنع بوظة الحليب كما نسمّيها ( دوندرما ) ، وهو يحمل وعاء البوظة الخاص المحكم ، ويدور به في السوق والحواري ، ويملأ البرشامات حليباً طيباً مثلجاً للكبار والصغار المتحلّقين حوله .

         من ينسى ) أكوب أفندي ( في محاولته الناجحة لصنع المياه الغازية  )الكازوز(  بعد أن عرف سرّ صنعه من أقدم ماركة كازوز عرفناها ؛ وهي ( ستيم وليلى ).

        من ينسى العمّ ) محي ( الملّيس السابق في الجيش الفرنسي، الرجل النشيط، وهو يحمل الجرّة النحاسية على ظهره يسكب شراب التمر هندي، وهو يلفظ الظاء سيناً ) بوس بوس بوس بارد(.

العمّ محي بائع التمر هندي )


         من ينسى الإدلبي ) طرزان(  ، حين اقتحم سوق البوظة فجأة ، ودخل في منافسة شرسة مع كلوس وبيت آشجي ؛ لصنع بوظة مثلجة ، مستخدماً مهواة من الخشب ، حتى تصبح متجانسة متماسكة كالعجين، وإمعاناً في التحدي كان يعلّقها على كُلاَّبة ( جنْكل ) ، ويتركها ليراها الناس، ويعطوها شهادة البراعة وهي تقاوم الذوبان !

         من ينسى ( عبدو طالب البابي ) بائع الفواكه في السوق القديم ، وهو ينادي على أنواع فاكهته بعبارات موموسقة منغومة كقوله : أصابع البوبو يا خيار ! خوابي العسل يا تين ! ع السكينة يا جبس ! ويرفض تخفيض سعرها حتى لو تلفتْ وآلت إلى الكلاب !!

        من ينسى صانعي المشبك اللذيذ الشفاف ؛ الحلوى الوحيدة المعروفة في بكور الصباحات على يد صُنّاعه البارعين الذين أصبحوا ماركات مسجلة في ذاكرتنا ( نبو شيخ حسن وشيخو مشبكجي ( والأخوة من بيت رجب وبخاصة ( حنيفي ) ؛ هذه الحلوى  كان يتهافت عليها الريفيون بكل نهمٍ لدرجة أن زيارتهم إلى كوباني لا معنى لها ، إذا لم يتناولوا المشبك مشفوعاً بالخبز !

         باعة المشبك هؤلاء كانوا أيضاً يقدّمون نوعاً من الطبخ ؛ وهو المعلاق المطبوخ مع البندورة والبصل ) جيكر(  ، وهو وجبة طيبة والشهادة لله  !إلى جانب الرز والفاصولياء ، والصحن لا يكلف أكثر من نصف ليرة في تلك الآونة حين كانت الليرة تعادل غراماً من الذهب !

          من لا يذكر منا ) إيبكي بودله» المجنون« الشيخ حيدري ) في غاراته الجنونية على كوباني بين وقت وآخر ، هذا الطويل ذو العيون الزُّرق الزجاجية، كان يُقال : إنّ نوبات الجنون تصيبه في الربيع  ! وفيما عدا ذلك فقد كان يلتزم قريته  )بيرناصر(  إنساناً سويّاً، كان لنا في البيت وجهاً مألوفاً؛ فهو من مخولة والدتي يأتي إلى والدي في دكانه، وكثيراً ما كان يودع عند والدي مبلغاً من المال برسم الأمانة ، وقد يغيب بعدها شهوراً ، ولكنه ما إنْ يعود يطلبه  دون أن ينسى ، وهو ما عليه من مسّ ، ولله في خلقه شؤون ! وكانت عبارته التي يردّدها، وهو يذرع السوق جيئةً وذهاباً :

( ياهو! هاهو ! لقد اقتربت الساعة )!

          من ينسى الإدلبي المسكين ( عبد الوهّاب( ، أول مَن صنع الشعبيات ) شغل أريحا( ، وأول من عرّفنا على أكلة ) الفلافل(  وكذلك  )الهريسة ) ؛ هذا الرجل النحيف الضارب إلى الحمرة لم يكن له بيت، كان يقيم مع أخ له كسيح في الجامع القديم ، شقيقه الكسيح كان يجلس على الحصير - وهو من القش - يستعطف المارّة ببعض النقود.

          من ينسى ) بركل بلّو(  حالة إنسانية أليمة ؛ فقد أصابه مسّ من الجنون بعد أن نال شهادة الكفاءة  )بروفيه(  ، ومالها من اعتبار في تلك الأيام ! هو إلى هذه الساعة من كتابة هذه الأسطر يذرع سوق البلدة وشوارعها جيئةً وذهاباً دون كلل ، يهذي ، يتمتم ويملك قدرة على إطلاق عبارات ملغزة تثير العجب وتستدعي التفكير فيها، وقد أُوتي المسكين خطاً جميلاً أيضاً. أعتقد أنه كان ضحية لعلاجات السحر والشعوذة القاسية التي ما زالت آثارها باديةً على وجهه وصدغيه وصلعته؛ هي ندوب محفورة بقسوة بفعل الكي والحرق.

         من ينسى ) بيس بيدو ( الأرمني قاطع التذاكر لرحلة الباص  )بوسطة ( إلى حلب ، رجل مربوع  قصير القامة أشيب ، ينتعل الحذاء الجلدي الأحمر المعروف في تلك الأيام ، في يده دفتر سميك يسجّل فيه أسماء الركّاب) بالأرمنية طبعاً ) ، صوته المميز كان يصل إلى كل أطراف البلدة ، لا بل إلى قرية ( مقتلة ) ، وهو ينادي ( حلب حلب( ، وتقوم الدنيا ولا تقعد إذا أخطأ الراكب في الجلوس في مكان ليس له ، وغالباً كان تغيير مكان الراكب المسكين متعمّداً إذا جاء راكب من معارفه في اللحظة الأخيرة أو من موظفي الدولة المهابين ، فالمقاعد الأمامية تحجز لهم حتماً ، والراكب المسكين كان يقبل الأمر صاغراً ، بل يعتذر من ) بيس بيدو ( ؛ أي بيدو السيِّئ ، وكان اسمه على مسمّى حقيقي ، وهذه الفظاظة الخلقية هي دأب مَن عمل في الكراجات .

          من ينسى ) حمو شوفير سيدي ( ببوسطته الهرمة ذات الأربعين مقعداً والمغطاة بعباءة من الغبار وشبابيكها المفتوحة على الشمس والمدى ؛ لأنّ معظمها كان من دون زجاج على مدار السنة ، عبر هذه الشبابيك كان الركاب يمجّون القيء على جانبي البوسطة في منظر مقزز.

         هذا الباص كانت له رحلة يومية إلى ) قراجي شيخان ( ؛ إلى قرى عشيرة شيخان المتناثرة الضائعة كطيور القطا ، وقد أعجبني تعبير الشوايا العرب عن هذا النوع من الباصات  )حوّام القرايا( ، كانت رحلة هذا الباص تنتهي غروباً إلى قرية ) مزغنة( ، لا أقل عن سبع ساعات من عناء السفر والعودة صباحاً باكراً من نفس المسار إلى كوباني ، مارّاً بعشرات القرى المرمية على مساحات الفقر والعطش واليباس والكرم والطيبة ، هذا الباص كان صندوقاً للعجائب أشبه بسفينة نوح فيه من كل زوجين اثنين ، في الداخل وعلى سطحه مشتريات من كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من مواد تموينية وخضار ومستلزمات زراعية من رفوش ومعاول وأمشاط ومحاريث وأعمدة للسقوف وأكياس الخَيش ... في الطرق الترابية الوعرة كان الباص يشقُّ طريقه متكاسلاً، وخلفه سحبٌ من الغبار وفي الداخل مخلوقات ملَّ منها الصبر، وليس غريباً أن تجد إلى جانبك معزاة أو خاروفاً يشاركك في جزء من المقعد، وكان عليك أن تتحمل عطسات المعزاة المتحسّسة من الغبار! وأحياناً تحسّ ببرودة رذاذ على أذنيك قرب النافذة المكسورة ، سرعان ما تكتشف أنها من البول المنساب من الدواب الذي يسكن في الطابق الأعلى !

(حمو الشوفير سيدي) هو من قرية (طاشلوك فوقاني الشيخانية)، كان رجلاً صاحب نكت وسخرية ناعمة يتقبّلها منه أهل تلك القرى فكل قرية عنده لقبها ، يعاونه شاب يُدعى ( خلّو ) ، يشرف على صعود الركاب ونزولهم ، ويُؤمِّن بعض التواصي للناس من البلدة ، كنت تسمع مــن

( حمو ) كلمات لاذعة بحق) خلّو) الذي كان يستسلم للنوم من عناء الطريق ، وكثيراً ما كان ينطق بكلمة ) هوووش(  على مسامع الباص الحرون ، حين لا يستجيب المكبح لدعسات قدمه فيطلق العنان للزمور المبحوح احتجاجاً !

تعديل المشاركة Reactions:
للوجوه بقية تطاردني !

Şan

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة