خالد جهاد / الأردن
لطالما
كانت معلوماتنا عن اليابان محدودة ومتواضعة، وغالباً ما كانت تتركز حول التقدم العلمي
والبيئة والانضباط والعمل المنظم والدقيق اضافةً إلى الأعمال الكارتونية التي وصلتنا
من هناك وحققت شهرةً عالمية، لكن اليابان أيضاً بلد له عاداته وتراثه العريق، وسحره
الخاص، وأسراره التي تجمع بين الطرافة والغرابة، وفنونه الشعبية ومن أهمها المسرح..
ويمتاز
المسرح الياباني بتفرده وعراقته حيث يعد من أقدم المسارح في العالم، ويمزج بين العلاقة
بين الإنسان والطبيعة التي تملك أهمية قصوى في الثقافة اليابانية، ولكل مسرح رمزية
معينة في الطبيعة تختلف باختلاف نوع المسرح، ويتألف من أربع أنواع من المسارح وهي..النو
أو النوغاكو، الكابوكي، البونراكو، والبوكاغو..
النوع
الأول.. مسرح نو.. وهو من أقدم المسارح الاحترافية في العالم، ويعتمد في تفاصيله على
الرقص والموسيقى، وكانت تنصب لعروضه خشبة المسرح في الهواء الطلق، ويدعم سقفها أربعةٌ
من الأعمدة الخشبية، ومن أهم مكوناته الكاغورا وهو نوعٌ من فنون الإيماء المسرحي، ويتم
تأديته عن طريق الرقص والحوليات التي كانت تنظم في شكل أشعار ثم يقوم بعض الرهبان البوذيين
المتجولين بقراءتها، ويتخذ من شجرة الصنوبر رمزاً له، فالشجرة حسب المعتقدات اليابانية
هي مسكن الآلهة ومأواها، ولذلك أصبحت جزءاً ثابتاً في مسرح النو، الى جانب حضورٍ قوي
للناي، والذي تمثل أنغامه صوت الآلهة وقوى الطبيعة الحية، وهذا الملمح في المسرح الياباني
خصوصاً وسائر الفنون اليابانية القديمة عموماً يشير إلى تجذر علاقة اليابانيين بالطبيعة
وتأملهم لها واتخاذها مصدراً للإلهام، ومسرح النو يتكامل مع فن شعبي اسمه الكيوجين،
ويسمى كلاهما معاً بمسرح نوغاكو..
ويرجع
هذا الفن إلى القرن الثامن الميلادي، وتطور حتى وصل إلى شكله الحالي في القرن الرابع
عشر، بفضل الممثل كانامي وولده زيامي، الذين كتبا العديد من النصوص المسرحية التي تشكل
حصيلة مسرح النو ويبلغ عددها ٢٥٠ مسرحية، وهو من أقدم أشكال المسرح الياباني واسمه
مشتق من كلمة يابانية تعني المهارة أو الموهبة ومعناها الأدق هو الفن، وقد تم اختصار
الاسم من ساروغاكو نو نو إلى نو، وهو أيضاً أكثر الأشكال المسرحية اليابانية واقعية،
وتم استخلاصه من مسرحيات دينية يابانية قديمة، وتبنى الدراما فيها على استخدام الأقنعة،
حيث يظهر الممثل وهو يرتدي قناعاً يساعده على رواية قصته، ويحتاج هذا الفن إلى ممثل
متمكن يستطيع إضفاء الحياة على القناع الجامد ذو الملامح الصارمة والتمكن في الأداء
التمثيلي والصوتي والقدرة على تقمص الشخصية كي يستطيع إيصالها للناس، دون أن ننسى أن
كل الشخصيات حتى النسائية منها كانت تؤدى بواسطة الممثلين الرجال لأن عمل المرأة في
المسرح كان محظوراً، وكانت تأدية الرجل لدور المرأة على خشبة المسرح من أكبر الصعوبات
التي يواجهها الممثل الياباني في مسرح النو والمسرح بشكلٍ عام..
وقد
عرفت الأقنعة استخداماً واسعاً في اليابان القديمة منذ آلاف السنين وكانت تصنع من موادٍ
طبيعية مختلفة كالخشب والصلصال والورق ودهان الورنيش، وأقنعة مسرح النو متنوعة وتفوق
الثمانين نوعاً، وتصنع من قطعةٍ واحدة من خشب السرو الياباني "الهينوكي"،
ويقوم الحرفي بطلائها بمزيجٍ من الغراء والجبس، ثم ترش بعدها بالرمل، ثم يتم تشكيل
ملامح القناع بواسطة الألوان وإضافة بعض التفاصيل التي تميز شخصية القناع، سواء بماء
الذهب أو الحبر أو الرصاص، ورسم الظلال التي تحدد ملامح الشخصية ويساعد في ذلك أداء
الممثل وزاوية الإضاءة التي يقف فيها، وتتخذ الأقنعة خمس شخصيات أساسية منها الآلهة
والشيطان والرجل والمرأة والعجوز، كما أن الشخصية الرئيسية هي من يملك امتياز ارتداء
القناع، ومن بعض أنواع أقنعة النو القديمة..
١- الجيجاكو: ويعد أقدم قناع وُجد في اليابان، وقد استخدم في الدراما اليابانية القديمة
الراقصة خلال القرن السابع عشر، وتتكون أقنعته من أربعة عشر نوعاً، وتعتبر مختلفة عن
أقنعة النو الأخرى وذلك لأنها تغطي الوجه بأكمله، بما في ذلك الأذنين أيضاً، ويزين
هذا القناع شعر مستعار يوضع على رأس الممثل بعد أن يرتدي قناع الجيجاكو، وغالباً ما
يستعمل هذا القناع في أداء أدوار الشياطين أو الإنسان الخارق، كما يعتبر مصدر إلهام
كبير لسائر الأقنعة الهندية والإندونيسية والصينية..
٢- البوجاكو: استخدم أثناء فترة "الهييان "وهي فترة مزدهرة في التاريخ الياباني
دامت ٣٥٠ عاماً بين عام ٧٩٤-١١٨٥،وكان معروفاً
بأحجامه المختلفة، وبملامحه التي تشابه ملامح وجوه التماثيل البوذية، كما كان يصنع
من خشب السرو ويغطي الوجه كامله ما عدا الأذنين، وجدير بالذكر أن استعمال هذا القناع
ظل حكراً على الحفلات الراقصة الدينية التي تنحو نحو التجريد والتسامي..
٣- الجيودو: وهو القناع الخاص بالطقوس الاحتفالية الدينية البوذية، وكان يتخذ هذا
القناع وجوه الآلهة والتنانين والأرواح الحارسة، استخدم هذا القناع في أواخر فترة الهييان
مروراً بفترة الموروماتشي وهي أيضاً إحدى فترات التاريخ الياباني..
وظهرت
في فترات زمنية لاحقة أقنعة أخرى تستخدم في الطقوس الدينية ذات الأجواء الاحتفالية
ومنها:
١- الهانيا: وهو قناع خاص بدور المرأة الشريرة الغيور، تزين هذا القناع قرون حادة
وعيون معدنية تبرز عليها ملامح الغضب، وغالباً ما يتخذ هذا القناع اللونين الأحمر والأسود
دلالة على الغضب والحقد والانفعال..
٢- الكو أوموتي: وهو قناع الفتاة الشابة الجميلة، ويبرز ملامح تنم عن الوداعة والدلال
والخجل، وله حواجب حليقة غالباً ما يرسمها الحرفي بالرصاص أو يكتفي بإلصاق نتف صغيرة
من ريش الغراب، ويتميز هذا القناع بأسنانه السوداء التي تعكس انتماء الشخصية إلى طبقة
النبلاء..
٣- الأوتوكو: وهو قناع الرجل الوسيم، ويمتاز هذا القناع بعينيه اللتين تبرزان مدى
ذكاء هذه الشخصية..
٤- الأوبا: وهو قناع مصمم لتمثيل دور المرأة العجوز، وله شعر شائب أشعث، وعادةً
ما تحمل الشخصية مكنسةً في يدها أو أداة فلاحية لتقليب التربة..
٥- الشيكامي: وهو قناع الشيطان، وله أنياب ذهبية حادة وأحياناً قرون ناتئة، غالباً
ما يكون باللون الأحمر، كما أن عينيه يكونان مطليتين بالذهب، ويمتاز ملامحه بالغضب
الشديد مثل قناع الهانيا..
6- التشوجو: واستعمل هذا القناع للإيحاء بالشاعر الياباني "أريوارا " أو
الأمير "غينجي "، إلا أنه أصبح يستعمل فيما بعد في شخصية الرجل الشاب الوسيم
كما هو الشأن بالنسبة لقناع الأوتوكو..
كما أن للمسرح النو خصائص عديدة منها:
١- المسرح ( الخشبة ) : ويشبه ديكور المسرح تصميم البيوت اليابانية القديمة
المبنية من الخشب عديم الأثاث، وتزين واجهته ثلاث شجيرات صنوبر (وهي أيقونة مسرح النو)،
له سلالم يصعد عليها الممثلون لأن خشبة المسرح كانت مرتفعة عن المتفرجين، وغالباً ما
كانت تغطى بسقف خشبي، وعلى يسار المسرح يوجد مخرج مغطى بستار يقوم فيه الممثلون بارتداء
الأزياء والأقنعة وانتظار أدوارهم، وقد اتخذت خشبة مسرح النو هذا الشكل في فترة الشوغن
وهي فترة من تاريخ اليابان وعنوان كان يطلق على الحاكم العسكري آنذاك..
٢- الممثلون: يتوزع الممثلون بين مؤدين للأدوار وعازفين ومغنين، كلهم من الرجال، والمؤدون
يكون عددهم قليلاً لأجل تسليط الاهتمام على الشخصية الرئيسية التي تدعى "الشيتي
"،وهو الوحيد الذي يكون من حقه ارتداء قناع النو، أما "الواكي " فهو
المسؤول عن تقديم الشيتي إلى المتفرجين من خلال مناداته وتوجيه الأسئلة إليه، والواكي
يتقدم إلى المنصة بدون قناع، والزي هو ما ينبه المتفرجين أنهم أمام شخصية الواكي (دائما
ما يكون الواكي شخصية آدمية ذكورية )، وعندما يتقدم الشيتي إلى المنصة يقوم الواكي
بالتراجع إلى الخلف بضع خطوات، أما الشخصيات الأخرى فهي شخصيات ثانوية لا تحمل أي اسم..
وتتكون
فرقة النو الموسيقية من عشرات المغنين يتموضعون على يمين المسرح، ويقومون شأنهم شأن
المؤدين بالتعبير عن الأحاسيس والانفعالات، أما العازفون فيجلسون في وسط المسرح خلف
المؤدين مشكلين بذلك جوقة صغيرة، وهم غالبا ما يستعملون الناي المصنوع من الخيزران
إضافة إلى الطبول، وتهدف المعزوفات إلى خلق أجواء
تصور القطعة المسرحية، كما أن موسيقى مسرح النو تتميز بالبطء الشديد شأنها في
ذلك شأن موسيقى مسرح "الكابوكي " الذي سنتحدث عنه قريباً..
٣- بنية المسرحية: وتمتاز بثلاثة انتقالات مفصلية هي :
"الجو":
أي البداية، وتتميز بالبطء والأجواء الشاعرية التأملية، وهو شرط صارم في مسرح النو..
"الها":
أي الانفجار، وفيه تتسارع الأحداث وتتعقد..
"الكيو":
وتعني العنف، فيها تتسارع الأحداث إلى أن تصطدم بجو من الصفاء الذي تختتم به مسرحية
النو..
وهناك
نوعان من الأبطال في مسرح النو:
بطل
آدمي(أمير، محارب، امرأة عجوز) أو بطل متخيّل(آلهة، شيطان، روح شريرة)..
ويعتمد
فن النو إلى حد كبير على الموسيقى، وأيضاً هناك فن الكيوجين والذي يكمل فن النو والذين
اندمجا لاحقاً، وهو عبارةٌ عن فواصل مسرحية هزلية بين فصول مسرح النو تقدم فقراتٍ ساخرة
حول الإنسان كما كان يفعل القصاصون الآسيويون..
وقد استلهم هذا الفن من ثلاثة مكونات أساسية له وهي:
أولاً:
التقليد المقدس للرقصات الدينية البدائية.
ثانياً:
التقليد الأرستقراطي لرقصات البلاط الإمبراطوري.
ثالثاً:
التقليد الشعبي النابع من المهرجانات الزراعية والطقوس الشعبية المحلية.
وينقسم مسرح النو إلى ستة أنواع هي:
١- مسرحية
الآلهة
٢- مسرحية
المحاربين
٣- مسرحية
النساء
٤- مسرحية
النساء الحمقاوات
٥- مسرحية
الأرواح الشريرة
٦- مسرحية
تتضمن طقوس شتوية ومقطوعات غنائية وهي أقدم أشكال هذا المسرح
وازدهر
مسرح النو أو النوغاكو بين عامي ١٦٠٣-١٨٦٧، حيث دعمه الأمراء الإقطاعيون في أنحاء اليابان
وقاموا بتدريسه، وتراجع الاهتمام به في حقبة الإمبراطور الياباني ميجي بين عام
١٨٦٨- ١٩١٢، لكن العديد من الممثلين اليابانيين قاموا بالحفاظ على هذا الفن ورعايته
لحمايته من الاندثار، حتى تم الاعتراف به وبقيمته الهامة كجزءٍ من تراث الشعب الياباني،
وتم الاعتراف به أيضاً كتراث انساني غير مادي من قبل منظمة اليونسكو، وقد اتخذ أشكالاً
عديدة بين الطبقات النبيلة وأيضاً بين الطبقات الشعبية، والتي أسست لأنواعٍ أخرى من
المسرح في اليابان والتي سنتحدث عنها في المقالات المقبلة، وهذا ما يجعلنا نتأكد أن
الحياة متعددة الأوجه وحافلة بالثقافات وأكبر من أن نراها من منظور واحد، ولكل شعب
مساهمة وفكرة أثرت هذا العالم.