حاورته :فاتن حمودي
الأقتراب من كاتب ينحدر من منطقة شديدة التنوع بطيفها السكاني، عرب و
أكراد وشركس و شيشان، منطقة تشكل موزاييك
ثقافي شديد الثراء، يعني الأقتراب من كاتب
يعرف تماما معنى الجزيرة السورية، معنى
المكان إنسانيا، سوري الهوى، كردي الأنتماء،إنه القاص والروائي محمد باقي
محمد، يمشي في نصه من دمشق إلى حلب والحسكة ، يلتقط الحكايا والقصص
من عيون موجوعة، ويكاد لا يغمض عينيه عن عالم مركب ومأزوم، وهو الذي عاش اليتم مبكرا فوجد نفسه في مواجهة الرجولة و لا يزال يافعا، شكّلت المدرسة
وعصا المدرس الإطار النفسيّ والعقليّ والاجتماعيّ لتكوينه..
العين التي شاهدت نهرالخابور، مدن وقرى مترامية، يتكلم الكردية
لغة بيته، وقد شكّلت له اللغةُ العربية نافذة على ثقافات متعددة، اللغة ومحاولات الكشف عن عتمات و ضوء ، كيميا
الواقعي والمتخيل، وكأن الكتابة إقامة في حدود القسوة والموت، وفتح نوافذ على
الجمال دائما من خلال شخوص يرصد صمتها وغنائها وحزنها و غضبها، هو الآن في سوريا،
يعيش زمنا عارما بكل شيء الحلم الحرب النزق الغضب
وفورات التغيير والتقسيم
في هذا الحوار محاولة للإقتراب من رجل شكّلت
القصة خط حياته، وطريقة تفكيره في التقاطه للصور، ولأن الكتابة مساحة للحرية ومحاولة للتحايل على الموت فقد
أطلق في نصوصه أسئلة الوجود المقلقة، وابدع الكثير من القصص "إنّها تمطر في
الخارج"، كتب عن عن العرب في "ليالي الشمال الحزين" و في
"مدار الصمت"، وكان للأكراد نصيبا في "مأساة ممي آلان"، كتب بحس شعري دون
أن يجعل المشهد القصصي غائما،رحلته في عالم القص
بدأت في أغنية منتهية بالرصاص- 1986.ثم عن اختفاء العامل يونس-و بعدها
الطوفان، ورواية فؤضى الفصول، ومأساة ممي آلان.
حول التجربة والطريق كان لنا معه هذا
الحوار..
*" في حـلّك وترحـالك
كـــان قطيـع الغنــم، واندفــاع الطفـولـة النزقـة خارج مـدارات المألـوف
يرافقانـك، بعيداً تقـذف عصـاك، فيركض "بطـاح" لإحضارها، وتسابقه
مشجّعاً، قاطعـاً الغيضات المالحة، مخترقاً غلالة الغبار الرقيقة، لكن
"بطاحاً" كان يسبقك إليها".
نبدأ من الطفولة ..ملعب
التأسيس ..البيت الأول..الذي ربما لا يغادرنا كما قال باشلار، حدثنا عن خصوصية هذا
البيت، مكانك الأول، والطفل الذي كان يتابع بعينيه تفاصيل الحياة المفتوحة على
الطبيعة؟
- قد يُفاجأ القارىء بجوابي، إذ ليس في مُخيّلتي ذكريات تخصّني
تتعلق بقريتي ، أنا ابن مدينة، ابن بيئة تختلف في مُفرداتها، هنا ستحضر الأبنيّة
الطابقيّة، والطرق المُدجّجة بالأرصفة.. الأسواق والمحال، والبشر المُتجهّمون،
المُسرعون دائماً كمن يسوطهم أحد من الخلف، أمّا ما اختزنته الذاكرة عن قريتي "كركي
دقوري""، ومن خلال زيارات مُتكرّرة إلى بيت جدّي، هناك كنت أفاجأ
بالمدى المفتوح على الجهات الأربع، الأراضي اللاحبة المفلوحة في الخريف بلونها
البنيّ الداكن، والخضراء بزرعها المُتمايس في الربيع، ألعاب الأتراب التي لا تشبه
ألعابنا في شيء، وقطعان الماشية في رعيها ووردها وحظائرها، في " فوضى الفصول"،
استحضرت مشاهداتي تلك، دمجت الواقعيّ بالمُتخيّل، وبالتأكيد فإن لنهر الخابور ورافده
الجغجغ في التقائهما عند مدينة الحسكة صور لا تنسى، السباحة التي تترك آثارها على
ثيابنا الداخليّة، كما ويحضر محل البقالة الذي كنت أساعد
والدي فيه، بحيّ العزيزيّة الشعبيّ، اللغة (الكردية والعربية ولهجة ماردين ) كنّ
رفقتي في طفولتي المُبكرة، وعلى نحو مُبكّر تستأثر
السينما عبر أفلامها بأفئدتنا وذواكرنا الغضّة، المدرسة الابتدائيّة برهبتها
وجلالها وعصيّ مُعلميها، ثمّ وفاة أبي المُبكّرة، التي حمّلت صبياً مسؤولية أسرته!
ما وشم يفاعته وشبابه والمراحل اللاحقة من حياته بميسمها، لقد حدّدت الإطار العام
لتكوينيّ النفسيّ والعقليّ والاجتماعيّ!
*كيف تفهم الحياة،
حدثنا عن الطريق إلى الحسكة، إلى مدينتك اليوتوبيا؟
أحببت الحسكة، اليوتوبيا التي تخصّني، أحببتها لأنّها
بلا هُوية عرقيّة أو دينيّة، فهي ليست مدينة كردية أو عربيّة أو سريانيّة، إنّها
تقبل الجميع، وهي مدينة مؤنثة على عكس دير الزور مثلاً، ثمّ إنّني أفهم الحياة
بالطريقة ذاتها، أن يكون المرء طيباً محبّاً ومُتسامحاً، والمحبة تضيق عندي لتضحي
على مقاس الحبّ، أي الأنثى الحبيبة أمّا كانت أم زوجة أو حبيبة، على هذا سأقرّ
بأنّ زوجتي لعبت دوراً محورياً في حياتي، مُؤكد أنّني لم أزوّر دور المرأة داخل متوني، لقد ظلت
مظلومة، بعيدة عن أدوار البطولة، وهُزمت أحياناً، إلاّ أنّها لم تستسلم، بل بقيت
تقاوم، لكنّني لتاريخه لم أكتب المرأة الحلم!
بقي أن أشير
إلى أنّ أوّل عمل واع لعبته هو دور اليتيم، ولأقل من سنة دراسية عملت مُعلما
وكيلاً، هذه التجربة كانت وراء قصة " ليالي الشمال الحزين " لكنّني قبل
نهاية العام الدراسيّ كنت قد التحقت للعمل في مديرية الزراعة، هناك كانت بدايتي
ككاتب، ولمّا تحصلت على دبلوم في التأهيل التربوي، بعد الحصول على الإجازة العامة
في الجغرافية، التحقت بمديريّة التربية، وعلمت في غير ثانوية للبنات، فيما تصرّم
عامي الأخير وأنا أحاضر في كلية التربية التابعة لجامعة الفرات!
*" كنت تقطـع الفلــوات المرصّعــــــة
بالعاكول والخروب والأعشاب المتيبسة على ضفة "الزركـان"، وآنها لم تكن
تعــرف أن زمنـاً سيجيء لا يشبـه ما قبلـه".
أنت ككاتب قصة، ماهي مرجعياتك الثقافية، وكيف أثرت عليك القراءة،
قراءة الذات المكان، الصوت ، التقاط الشخصيات من مسرح الواقع، و لماذا تؤكد على أن
القصة قادرة على التقاط أدق التفاصيل و قد تتفوق على الرواية ؟
- نعم.. أنا كاتب قصّة، البعض يرى في القصة تدريبات
أوّلية لكتابة الرواية، إنّهم يعدّون
الرواية أكثر أهميّة، وهذا كلام يفتقد إلى الدقة، فالجنسان لا يتشابهان في شيء،
إلاّ في انّتمائهما إلى خانة النثر، الرواية عمل مُركّب.. هذا صحيح، وهي قادرة على
التقاط حركة المجتمعات إذ تنعطف، بحكم امتدادها في الزمن، ولكن ألم يعكس تشيخوف صورة
الروسي الصغير في قصصه؟! ألا يُصنّف بين كبار كتاب
روسيا؟!
أمّا الواقع فهو مرجعيّتي الأهم، ذلك أنّنا نكتب
بدلالته كيفما كان الشكل الفنّيّ الذي نكتب به، هذا يتطلّب منّا التقاط المفردات
والعناصر الهامة فيه، تلك التي تؤثر في مسارنا، والتي قد لا يراها الآخرون، بهذا
المعنى فهو يسمح لنا بالتبصّر فيه، كذات وكمكان، كيف؟ تعالوا لنتمعّن في الفروق
بين سكان الجبال والسهول، ألن تعطينا الجبال بشراً قساة، في حين أنّ السهول يتميز سكانها
بالاعتدال واللين؟! وبهذا المعنى أيضاً نحن أمام ذوات، فالكائن الحيّ يعيش في وسط،
أي في مكان ينطوي على الذات، ليمارسا عليه تأثيراً كبيراً، إنّهما ركيزتان هامتان
في تكوين شخصيّته، والعلاقة بينهما عصيّة على التفسير، لذلك تجدين مُهاجراً من
قرية منسية، إلى فيينا أو جنيف أو باريس، فإذا دنت منيّته أوصى بدفنه في قريته، من هنا أرى باشلار محقّ حين يرى بأنّ المكان لا يغادر
شخوصه، هذا حالنا مع الصوت، فاللغة للتواصل أو للكتابة أصوات، والموسيقى أصوات،
والطبيعة أصوات، هذا ينطبق على اللون أيضاً، فالصحراء لون، والسهل لون، والبحر لون
آخر، لذلك حينما نقول بأنّ شخوصنا مأخوذة من مسرح الواقع،
علينا أن نتبصّر في تأثير المكان بمفرداته عليهم، لنرسم كائنات تنتمي إلى ذلك
المكان، حتى تكون مُقنعة، فيحسبها القارىء شخوصاً من لحم ودم ومشاعر أو
أحاسيس، ذلك أنّ رصد علاقتها بالمكان والزمان والأحداث كادت أن تمحي المسافة بين
الكائن الُمُتخيل والآخر الحقيقيّ، هكذا تضحي أفعالها منطقيّة وواقعيّته، إنّه
الفنّ حين تمرّ عصاه الممسوسة بالسحر على الأشياء، وباشلار يرى ثلاثة أشكال لحضور
المكان، حضور يصفه الكاتب كما هو، لكن بعين الفنان لا بعين الكاميرا، هذا حضور
واقعيّ، وقد نقدّم المكان كما تراه شخوص العمل، فتتباين صورته بتباين حالاتهم
النفسية، وهذا حضور نفسيّ، الحضور الثالث يتحقق بأسطرة المكان، ما يكسبه حضوراً
سحرياً، فإذا تحقق للمكان أشكال الحضور هذه معاً، تحوّل إلى فضاء روائيّ أو
قصصيّ يضارع شخوصه كندّ أو كبطل!
* من من القصاصين
السوريين تقف عند تجربتهم، أو أضاءت لك تجربتهم الطريق نحو الكتابة؟
- نحن
إزاء تجربة، فمع جيل الروّاد سنتعرّف على السرد التقليديّ الرصين، عند عبد السلام
العجيلي وفؤاد الشايب وإليان ديراني، ومن قبلهم علي خلقي، لقد مثّلوا زمنهم، إذ
اشتغلوا بدلالة القدر والثبات والمصادفة، لكن النهوض الحقيقي للقصة السورية جاء
على يد كل من سعيد حورانيّة، الذي مثّل اندفاعة الخمسينات الاجتهادية، لقد تخليّ
عن مرجعيّة جيل الرواد، وعلى مستوى الأساليب جاور بين السرد وأنماط أخرى، مثل
المونتاج المُزدوّج، أو المونولوج، أو السرد الاستباقي، والتقطيع الفنّيّ، قاص آخر
كانت له بصمة مختلفة، كان سارتر قد تُرجم، فتأثر به القاص
جورج سالم، الذي عكس الوجودية في قصصه بأساليب فنيّة، ومن الساحل السوري
لمع نجم القاصّ عبد الله عبد، الذي أنجز واقعيّة نقديّة
لافتة، وبدا واضحاً بأنّنا إزاء قاص استثنائيّ، سيكون رقماً صعباً في القصّ
السوريّ، لكنّ الموت عاجله، في الستينات برز اسم زكريا
تامر، الذي وقف على توطّد دولة العسف، فحضر الرمز، واستحضار التاريخ، واعتماد
الفانتازيا، بالإضافة إلى شاعرية غنائيّة ماتعة، ومن الساحل أيضاً بزغ نجم
حيدر حيدر، الذي تنقّل بين القصّ والسرد الروائيّ، لكنّه لم يتخلّ عن القصّ،
واشتغل هؤلاء القاصّين على تعدد الأصوات، وتعدّد الضمائر، وتهشيم الزمن الفيزيائيّ
التقليديّ عبر التقطيع الفنّيّ، أو التداعي والتذكر، أو الخطف خلفاً، وستتأثّر
الأجيال التالية عليهم بتجربتهم، لكنّ أحداً منّا لن يتجاوزهم!
*أنت خريج جغرافيا،
هذا التخصص كيف انعكس على الكتابة، كيف تنظر لمشروع التقسيم الذي تتعرض له سوريا
اليوم؟
-
أسهمت الجغرافية في معرفتي بالعالم معرفة دقيقة، هذا يشمل المناخ والتربة والنبات
والحيوان والتضاريس والبشر، ما سهّل عليّ الإحاطة بالبيئات المختلفة، وجعلني
قادراً على الكتابة عن بيئات بعيدة عنّي،وجاءت كتابتي عن شخوصها دقيقة، بهذا
المعنى وسّعت الجغرافية دائرة المتخيّل في نصوصيّ، وأثرت قدرتي على الإقناع، ناهيك
عن الإلمام بالجغرافية السياسية، فإذا أردت أن أمثّل لهذا، سأقول بأنّ الصراع
العالميّ، أتى على منظومة الدول الاشتراكية، وانهار الاتحاد السوفييتي، فتحوّل
العالم إلى أحاديّة القطب، ومثّلت الولايات المتحدة لهذا القطب، كزعيمة للمعسكر
الرأسماليّ، فيما ثوى الآخرون في خانة الأطماع المُحتملة، وتذرّر العالم المُخلف
" الثالث " مع تلاشي دور دول عدم الانحياز والحياد الإيجابيّ، لذلك عارضت مشروع تقسيم سوريا، بل تغيّر موقفي اللامبالي من
فكرة الوحدة العربيّة، فيما كان جمهورها يكفر بها، في أعقاب الهزائم المتكرّرة
لأقطارها، وذلك لإيماني العميق بأنّ الكيانات السياسيّة
الصغيرة ليس لها مستقبل في هذا العالم!
* الحرب الثورة،
كيف أنعكس هذا على نصك، وإلى أي درجة شكّل افتراقا، في مجموعتك " مقتل عصافير
الظهيرة " التي تميزت خيوطها بشخصيات
مأزومة، تقترب من عالم تشيخوف، ما وظيفة الكتابة، هل تحاول أرشفة الألم، اين ترى
نفسك من خلال سوريا ، أم من خلال الكرد، اين تضع نفسك وهل لكاتب مثلك أن يدير ظهره
للثقافة العربية؟؟
- ككاتب وكإنسان أنا ضدّ الحرب، وأرى بأنّها
تحت مُختلف المُسمّيات قذرة، هذا هو تلخيص ما أردت أن أسرّ به إلى قارئي في قصة " مأساة ممّي آلان " لكنّني لم
أذهب به إلى ساحات القتال، وجنّبته مناظر القتل والتشويه والدماء المُراقة
والدمار، لقد أدنت الحرب من خلال اندياحها على الأواصر الإنسانية وقطعها!
أمّا كيف تتحصّل الأقليات العرقيّة أو الدينيّة أو المذهبيّة على حقوقها،
فإنّي أتبنّى العمل الحقوقي المدني والسياسيّ السلميّ، مع فصل الدين عن الدولة،
لقطع الطريق على السياسيّ .
أنا
كردي، أمّا الثقافة العربيّة فهي الثقافة
الأم لأنّ أهلها اندرجوا في كيانات سياسيّة، ناهيك عن دور الإسلام في ذلك، لقد
درست بالعربيّة، وتابعت الثقافة العالمية بوساطتها، لكنّي لست مع حظر اللغة
الكردية أو الآشورية، بهذا نحافظ على خصوصية المجموعات العرقيّة، وتغتني الثقافات بالمثاقفة
فتثرى، هذا يشمل الثقافة الأمّ أيضاً، طبعاً أنا أكتب بالعربيّة، فكيف أدير ظهري
لها ولماذا؟!
*من أختفاء العامل يونس التي
أقتربت منها من عوالم وائل سواح و جميل حتمل، وربما غيرهم، إلى أغنية منتهية
بالرصاص و مأساة ممي آلان، هل بتنا داخل عالم تراجيدي، أين خيط الحب داخل المأساة؟ ما وظيفة الكتابة، هل تحاول أرشفة الألم؟
-
وظيفة الكتابة من وظيفة الفنّ، إنّها تستلهم قيم الحق والخير والجمال، أمّا لماذا جاءت
" مقتل عصافير الظهيرة " على شخصيّات
مأزومة، فلأنّ مساحة الفرح في حياتهم قليلة، لقد عاشوا على حافة الخطر والفقر
والقهر، طبعاً أنّا لم أتعمّد فيها مقاربة تشيخوف، فالعبقريات لا تتكرّر كلّ يوم،
لكنّ الوقائع تشابهت بحدود!
أمّا أن أضع أرشفة الألم في مقاصدي فلا، لكنّ أقدار شخوصها كانت تراجيديّة،
ثمّ إنّ مضامين القصة القصيرة تشي بذلك، هل لاحظت مثلاً بأنّ شخوصها جميعاً
يقتلون؟! هذا سيذكّرنا بمقولة الشاعر ممدوح عدوان : ليس من المنطقيّ أن نكتب عن الحب أو الأزاهير حينما
يكون ثمّة بشر يُقتلون !
حسناً.. تعالوا لنفرز
النصوص على مستوى العالم، حتى نرى إن كانت الغلبة في صفّ الكوميديّ أم
التراجيديّ؟! ولن تكون النسبة مفاجئة، فنحن نقف بأوجاع الناس، أو بمكامن القبح
والجور التي مورست عليهم، لكنّنا نضع الجمال في مرامينا، هذا يقتضي العمل على
اجتثاث القسوة والأنانية والجشع ، وإرساء القيم النبيلة ، لهذا ارتبطت النبوّة
خارج مُصطلحها الدينيّ بدور الكاتب، إنّه يستشفّ آفاق المستقبل، ولذلك يشتغل على
مطلب يحسّ بأن ساعته أزفت!
* إذا كانت الكتابة الملاذ الأخير لمن خان حسب
جينيه، ماذا تعني لك، وكيف تجد عزلتك وملاذك؟
- الكتابة فعل حياة، لكنّها ليست بديلاً
عنها، ولأنّها تفضح الأسرار في المتن، فهي خيانة، لكنّها خيانة لا محيد عنها، لذلك
نلوذ إليها حين يعز الملاذ، أنا لست مقاتلاً، بل أرفض أن تجرح اصبع طفل، لكنّ هذا
حدث في الأزمة السوريّة، فلجأت إلى الكتابة، وعلى " السوشل ميديا / الفيس
تحديداً " وجّهت رسالة لرئيس البلاد،
أدلي فيها بتصوّري لطبيعة الأزمة، وأرفع مُقترحات للحلّ بحسبي!
*في البدء كان الحب ولم تكن
الحرب، ماذا
تقول عن الحب، وكيف تناولت المرأة في نصوصك المتعددة؟
يمارس
الحب على نحو مُشوّه في مُجتمعاتنا الذكوريّة،
إنّه علاقة تسلط تُجبّ عنه مفهوم الشراكة، في حين أنّه يقتضي التماثل لا الامتثال،
حسنا.. أليست الأنثى عندنا وعاء للمتعة في السرير، وطباخة في المطبخ، ومفرخة
للأطفال؟! فأين الحب في علاقة لا تقيم لكيان المرأة أي اعتبار؟ّ!
لهذا تراجع ذكره في متوننا، فإذا ذكر كان الإخفاق مآله، لقد خسر الرجل سؤال
الحب حين أنجز هيمنته على المرأة، وبالتالي سؤال السعادة، إنّنا ننتصر للحب، لذلك
أدنّا المنظومة الذهنيّة التي أفضت إلى
إخفاقه، إنّنا - في النهاية - لسنا شهود زور!
*الشعرية
داخل نصوصك، تفتح باب النص على شغف القراءة، حدثني عن الأدب الشفاهي، الغناء
الموسيقى وانعكاسه على نصك؟
-
الشعر ديوان المنطقة، لقد كُسرت السلسلة الثقافيّة فيها، نتيجة الاحتكاك بالغرب،
فغابت حلقاته باستثناء الشعر، لأنّ موسيقى الأخير جعلته قابلاً للحفظ شفاهاً،
وصدّر الغرب القصّة والرواية والمسرح إلينا، ثمّ إنّنا أشرنا إلى أنّ الفنون
والآداب تتبادل عناصر فيما بينها، القصة مثلاً والرواية استعارتا من الشعر لغته،
هذا سيفضي بنا إلى حضور للموسيقى والغناء أيضاً، ناهيك عن حضور ما قبل الأدبي
بتعبير رينيه ويليك، الموال والأهزوجة والأغنية والمثل إذا سيرفدون السرد القصصيّ
والروائيّ، على ألاّ تغيم أو تغيّب اللغة الشاعريّة الحدث!
*هل مضيت بروايتك "فوضى الفصول"، إلى رصد الطفل
ومآلات المكان من خلال كتابة أقرب للسيرة الذاتية؟
-
أساساً هناك ما يشبه الميثاق بين الرواية والسيرة الذاتية، فالسيرة تسهم في نسيج
السرد الروائيّ، على ألاّ تئد هذا السرد، في " فوضى الفصول " كنت أروم رصد
أوضاع البلد بعد الاستقلال، لأقف بتسعينات القرن العشرين، إذ شهد البلد - بعد
الاستقلال - نزوحاً كبيراً من الريف إلى المدينة، بطلي وطنيّ من غير أن يحوز على
تعريف مُبسّط للوطن، متديّن لكنّه لا يرى ضيراً في شتم الإله أو تكفير الآخرين، ثمّ
إنّه يمثّل لبداية التيار القوميّ، تستأثر فكرة العدالة الاجتماعية بلبّه، بيد
أنّه لن يتحوّل إلى الشيوعية لأسباب أوردتها، إنّه وطني غائم..
ليس ثمّة سيرة ذاتيّة إذاً، لكنّني استعرت من ذاكرتي ما اختزنته عن القرية
من وقائع وحالات، ثمّ أتكأت على شحنتي الوجدانيّة لأشكّل منها بطانة نفسيّة للطفل،
فتوهّم الآخرون بأنّي كنت أكتب سيرة
ذاتيّة، لقد أقنعتهم إذاً، فتابعوا العمل بشغف!
* تحيل
القاري في عناوين قصصك، إلى أبعاد سيميائية ومعرفية، تشير إلى النص و لاتكشف
أسراره، هل يشكل العناوان عتبة للنص، كيف ترى عتبات الأشياء؟
-
ينهض العنوان على التشويق، ليدفع القارىء إلى قراءة النص، إذا فهو لايكتفي بعلاقة الجوار،
بل يشاكل المتن عبر علامات تذهب بنا إلى فضاءات النصّ، دون أن تفضح أسراره، ما سيد
لعبة التشويق، بهذا المعنى يقوم العنوان بوظيفة سيميائيّة، وأخرى معرفيّة، و يشكّل
عتبة تفضي إلى القصة، إنّه تمهيد لقراءتها، لذلك أقوم على اختياره بأناة!
* في
مجموعتك القصصية "مأساة ممي آلان" يبدو أنك استلهمت الاسم من الإرث
الخاص بمنطقة الجزيرة، ما الذي تعنيه لك شخصية "ممي آلان"؟
- شخصيّة " ممّي آلان " هي الضحيّة في حرب عبثيّة، إنّه المواطن الأعزل لا
حول ولا قوة، الاسم كرديّ، هو تصغير لمحمد، إذاً هو عربي أيضاً، كما أنّه معادل
لعيسى المسيح عند السريان، هذا يقودنا إلى المنطقة الأكثر تنوعاً في سوريا، هنا
سنجد العربيّ والكرديّ والسريانيّ والآثوري والأرمنيّ والشيشاني والشركسيّ، ولوأنّ
ثقافاتها تفاعلت لكانت المنطقة الأكثر غنى بتراثها، إلاّ أنّ ضيق الهامش
الديموقراطي انحدر بالمثاقفة فيما بينها إلى تخومها الدنيا مع الأسف
المسألة ليست شخصيّة، على المستوى الشخصيّ قرأت المنتج الثقافي العربي من
محمد اليحيائي في عُمان إلى الطاهر بن جلون في المغرب، وفي بيتنا انجيل إلى جانب
القرآن، إضافة لتمثال صغير لأمنا مريم، لقد قرأت في التراثين الإسلاميّ والمسيحيّ،
ونهلت بالفطرة والتربية والقراءة من التراث الكردي، لكنّ اللغة ستقف عائقاً عند
التراثين الأرمنيّ والآثوريّ، لنتصوّر هذه الثقافات مترجمة، فأيّ ثراء، وأيّ
مثاقفة؟!
وبشكل شخصيّ كتبت عن الأشقاء الأرمن والسريان والآثوريين ، كما كتبت عن
الكرد، لكنّ الحصّة الأكبر كانت للأشقاء العرب، وسأكتب عن الأشقاء الدروز
والعلويين والإسماعيليين، وسأحني هامتي لأهلنا من اليزيديين، إنّه النسيج
الاجتماعيّ والدينيّ والأثني في سوريا، وأنا أحبّهم جميعاً، لا لأنّهم مثلي، بل
أحبهم كما هم، لكنّ الأزمة وضعتنا أمام مقاطعات حادة ومُخيفة، أمّا السؤال الأهم اليوم فهو : سوريا إلى أين ؟!
لقد انعكس انفتاحي على أنماط
كتابتي فتنوّعت، وفي مطلق الأحوال يعرف قارئي ميلي إلى التجريب، لقد جربت
أساليب القصّ كلها، لأنّ هاجس الجدّة والفرادة بقي ملحّاً عليّ!
*القراءات
النقدية تشكل جزءا من تجربتك، كيف انعكس هذا على كتابتك؟
- مسألة
النقد بدأت بالمصادفة، فلقد أعجب الصديق القاص غسان ونوس بتحليلي للقصص التي قرئت
ذات أمسية، ثمّ دعاني إلى مهرجان القصة في طرطوس بصفة ناقد، فحققت حضوراً، لقد كنت
أعدّ قراءاتي النقدية استكمالاً لأدواتي، إلى أن وقفت يوماً بالمقابسة الستين لأبي
حيان التوحيديّ، كان الجدل على أشدّه حول قصيدة النثر، فتساءلت كيف توصل الرجل إلى
رأي سديد حول العلاقة بين الشعر والنثر قبل ألف سنة، فيما نختصم نحن حولها اليوم؟!
فبدأت أنوّع في قراءاتي، لم أدّع يوماً بأنّي ناقد، لكنّني سأكتب مقالة نقدية
دوريّة في الموقف الأدبيّ قرابة عام، كنت أقف فيها بقصص العدد السابق، فما عاد تجاهل
علاقتي بالنقد مُستحسناً، لئلاّ أتّهم بالتهرّب، وبالتأكيد فإنّ الناقد يطلّ برأسه
حين أكتب نصّاً ليكاشفني بملاحظاته، لكنّه لا يربكني أو يعيقني عن الكتابة، فأنا أعرف
كيف أطلق العنان للطفل المشاغب بداخلي، كما أعرف كيف أفضّ الاشتباك بينهما لمصلحة الطرفين!