جان بابير
صدرت رواية "وصايا الغبار" في عام 2011 للكاتب
مازن عرفه عن دار التكوين للطباعة والنشر,
وتقع في 662 صفحة من القطع المتوسط , تتوزع على 26 فصل وعنوان ,وغالبا ما تبدأ عناوين الفصول
بأسماء الشخوص والأعضاء الرئيسيين في العمل.
العناوين:
ورد \أبو
رعد\ السيد لؤي \صديقي\لميس \سهام \المُذرة\الشيخ حسني \ الشيخة حسنية \
خدوجة
البكر \رئيس البلدية \إياد عادل \لول المدير \رجل الرقابة\رجل الصحراء\البدوي
العنيف\ الحاج خليل \المعلم "أبو حسان "\المعلم الذكي \الشيخ خالد \
الشيخ ماهر \صانعة الحكايا \الحوريات\العميل إكس \ السكرتيرة سيكس\مضيفة الجنة
الأمريكية \تالة 1\\ تالة 2\تالة 3\الخاتمة الزوجة \أنباء من الصحافة العربية\ النهاية \
البداية.
تبدأ الرواية بفصل تحت عنوان ورد يبدأ
السرد , أنا الراوي وعضو العمل الرئيس , يستيقظ في فراشه صباحا ليجد بالقرب منه في
فراشه فتاة ومن خلال حديثهما نعرف بأن اسمها ورد, لكن الراوي لا يتذكر أنه استدعى
فتاة بهذا الاسم, ويبدو أنه لا يعرفها, بعكس الفتاة التي تعرفه جيدا.
لماذا لم أفكر بالقهوة من قبل
كذريعة لأوقظ ورد؟ لا أعرف كيف تحبها في الصباح ، سادة أم وسط أم حلوة؟ يفاجئني
التفكير برغباتها ، على الرغم من أنني لا
أعرف هذه الفتاة ، أو ربما لا أتذكرها، أصلاً أنا لا أتذكر كيف حضرت إلى غرفتي ! ص12
رواية" وصايا الغبار" لمازن عرفة نستطيع
أن نقول عنها أنها سيرة ذاتية للمحطات الغريبة التي عاشها في جذب ودفع الحياة في مجتمع تخلط فيهه المصالح
الشخصية مع نرجسية رجال الدين وتسلق رجال الأمن وحزبيين مؤدلجين من تيارات سياسية
مختلفة ونساء لا يبرحن خياله ويكتمن أنفاسه، تعج الرواية بشخصيات مركبة التقى
الكاتب بها ، ورد ولميس وشيماء الذين احتلوا مساحة كبيرة من مراهقته وشبابه المبكر,
ومن خلال
هذا السرد يعود الرواي إلى طفولته المبكرة وتبادل الرسائل مع ابنة الجيران إلهام واكتشافه
للحب بعد عبوره سياج الطفولة البريء إلى
طيش المراهقة ، لكنه الى الآن لم يختبر الجسد ولا أسراره الدفينة لينتقل إلى فتاة أخرى
بعد أن يتجاوز السادسة عشرة فتاة مميزة بجاكِتها الأحمر اسمها هند متذرعا ومتحججا
للقائها لممارسة رياضة الجري, ومع رحيل هند وابتسامتها الجريئة عن خياله، تحتل
مكانها سهير القريبة التي تكبره بثلاثة أعوام, وليتعرف لأول مرة إلى الجسد ومكنوناته
وانتشائه, وتستمر المداعبة طويلاً، ليلاً ونهارا في ضباب الأيام والأحلام ، سكنت سهير في ذاكرته بثديها الغض الطري وحلمتها
البنية الغامقة ليبدأ بعد ذلك بمصادفة ساقه مع ساق جورجيت العارية تحت الغطاء لتغادر
جورجيت بشبقها الذي لا يروض وتبقي ملامسة ساقها المشتعل في ذهنه، وتأخذ مكانها
رولا وليتعرف من خلال روزنامة الأيام إلى ألوان
ملابسها الداخلية ونوع القماش المصنوع منها وإلى بكائها الصامت ، وقد أحبها بصمت ،
و هي غادرت في يوم ما دون أن تودعه , تركت له فقط بكائها.
وكأنه
بذلك كان يُجري جردا لعلاقاته السابقة في ذهنه المتقد أمام رؤية ورد, وبرغبة عارمة
طلب من ورد الزواج حتى يبقى دائما بالقرب منها لتستهزأ منه بضحكة قوية وتقول له:
"تتزوجني ، كيف ؟ أنا لست حقيقية ، أنا وهم من صنع خيالك
وذكرياتك ، أنت خلقتني من
رغباتك وحنينك"ص22
وحين عودته من السفر يتعقب أخبار العشيقات الصغيرات والأصدقاء ليكتشف أن كل شيء تغير في البلاد, الشوارع ,الأسماء ,الوجوه , كبناء تداعت جدرانه ولا يمكن بأي شكل إصلاحه وترميمه, كلهن تزوجن، إلهام التي أصبحت كاتبة تقارير أمنية وكبرت قبل عمرها، أما هند سليلة العائلة الشيوعية, فقد تزوجت من بدوي تاجر ماشية ولم تعد تعنيها الطبقة العاملة، وتزوجت سهير من أحد أقربائها وسافرت معه إلى أحد دول الصحراء لتتحول إلى معمل لتفريخ الأبناء، وجورجيت هربت مع شاب من غير دينها, ورولا ينتهي بها المصير في مشفى الأمراض العقلية، لينتقل الكاتب عرفه بعد ذلك إلى ذاته التي أسقطها بشكل جلي في الرواية ,وفي داخل أحداثها يكتب كتابا عن العوالم الداخلية للإنسان وأوقات عمله في المركز الثقافي والموظفين المفروضين عليه من قبل الجهات التي تحفظ استقرار البلد والروتين اليومي للمناسبات والفعاليات الثقافية , الصديق الشاعر وإرهاصاته بين ليل المجون والنبيذ ,ونهاره بين الشاي والدماثة ,وقبلها أبي رعد أحد حراس الدولة الساذج ,أبي رعد رعوي وضحل الثقافة ،و مرافقه النحيل الذي لا يفقه شيئا, يسأل صديقه ينظر إليه "أبو رعد " فيخرج ورقة مسودة مكتوب عليها بخط اليد ,يحدق فيها ويبدأ بالحديث وهو يقرأ أسماء كما دونت "المؤلفون الثلاثة هم ابن عربي ، والجلاح ، والسهران ورد ". يلفظ آخر اسم بصعوبة ، ويردف بسرعة "أحد أئمة الجوامع من أصدقائنا ومخبرينا الذين نعتمد عليهم، وهو ثقة لأنه يتحضر لمنصب روحي رفيع , قال في تقريره لنا إن الأول ابن عربي بالرغم من ماركسيته فهو من النهج الذي انشق عن الخط السوفيتي القديم واقترب من القوميين ص64.نكتشف مدى تغلغل البوليس والاستخبارات في مفاصل الدولة التي تشتري ذمم و بالمحسوبية والولاء ,وكيف نرى مدى جهله وعدم معرفته أنه يخطأ حتى في اسم الحلاج.
الكاتب: جان بابير |
"وأعاد
النظر إلى الورقة "الجلاح."فيتدخل
صديقه ليصحح الاسم "الحلاج "، فيتابع "أبو رعد
""
مستبدلا
جيم الاسم بالحاء الجلاح، الحلاج ، ومستفسرا هل هو خطير على أمن الدولة ،نظر إلى
الورقة من جديد فقرأ اسم السهروردي "
السهران ورد".
وهربا من واقعه المر المليء بالتصحر والرمال
المتحركة يلجأ الراوي البطل الى واحة مخيلته و من خلال انعكاسها تتالى عليه على شكل صور ، أساطير ,حكايات وصلوات, يرتل اسم لميس
كتسبيحة زاهد في
خياله ،لكنها فقط موجودة في عقله الناهض باستمرار
، تتحرك ،تعترضه من جديد, يغدو الوهم حقيقة كواقع ملموس ومجسد.
ومن الشخصيات المحورية إياد الشيوعي النقي بلونه الأحمر وعادل
الراديكالي المتزمت بتعصبه الإسلاموي,
لتفتح الرواية باب الأحداث في سوريا على مصراعيه على المأساة وتكشف الأقنعة
عن وجوه الانتهازيين والمتسلقين ، ترسم الرواية خطا صاعدا للمحسوبيات والمتنفذين
وحديثي النعمة في شخصية أبي خليل وتنذر بالعنف الذي سيعصف بالبلاد.
ينتقل الكاتب إلى عالم الحوريات والجن, يجبر
نفسه على الخروج من الظلمة التي تحيطه إلى طرق النور والفردوس المشتهى ، وينسى
الأزمنة والأمكنة عائدا الى مراتعه التي غادرها ولم تغادر مخيلته المتقدة شيوخ
السلاطين ، الذين يقمعون البشر روحياً باسم السلطة السماء ،
يحلق إلى
سماء متخيلة ممن خلال عوالمه "يكفي أن أذكره بالشعر والنبيذ وعشق لميس ، وكيف يكتشف الأشياء
والأمكنة والأزمنة والكلمات حوله من خلالهما ، حتى يستسلم أمامي، كان هذا في البداية
، لكن مع الزمن عندما عرفني أكثر ، وعرف عشقي للموسيقى والمطر ، وحنيني لورد ، حتى
أصبح هو يستشعر جانباً من مكمن ضعفي وأسباب قلقي الدائم ،أستسلم أمامه ، فيبتسم
وينتشي "ص 89
أعطى الكاتب مازن عرفة
لكل شخصية وظيفة في بنائه الروائي ولكل منهم دورا، الصديق صاحب دار النشر وأبو رعد الأمني, حتى
اسمه لا يخلو من معنى الرعب والشيخ
حسني وحكايات الجن الذين يتقمصون الحيوانات والبشر والشيخة حسنية التي أعلنت
حرب بلا هوادة على الشياطين بالدعاء والتسبيح
،وجود لميس يأخذ حيزا كبيرا من الأمكنة والذهن يتسلل الى
دواخلها ,عينيها العميقتين السواد ، الشارع البيت العمل وتتساقط مطراً في فضاء
الغرفة ، ولا يغفل أن يتشارك لحظات من خياله مع ورد ليشغل باله بالسير الطويل حتى
تدخل خلسة ورد من النافذة أو نافذة خياله ,هي عكس لميس ساكنة هادئة لا تشعل البيت
بالفوضى والضجيج, يتنازع بينهما وهما
تملأن حياته بالفوضى المحببة لديه .
يعود
الراوي عرفه بذاكرته إلى الوراء, إلى عالم الغيبيات وليالي البلدة الريفية
الصغيرة واحتكاكه الأول مع العالم
الماورائي ، فما أن تشتعل قناديل الكاز في البيوت المتناثرة حتى تنسج معها خيوط
الحكايا عن عالم الجن والعفاريت والغيلان
والمُذرات ، وتتحرك الكائنات اللامرئية ، في
حكايات البلدة البسطاء كقناديل تبدد ظلمتها ، كأبطال خارقين وأحيانا أشخاص مسالمين
يفترشون غرفهم ، كائنات غير مؤذية لأحد ، لكن وجودهم ضروري لملئ حياتهم بالمعنى
واختصار الليالي.
يتلاعب الآن "أبو حسين
" بالحكاية ليعطيها طابع الإثارة "وفي أثناء ذلك يكون الضبع قد قام
بالتبول على ذيله ، وفي كل مرة يجانب فيه الرجل ويصدمه يرشه بقطرات من بوله الكريه
الرائحة التي تعلق عليه، فيتحول إلى فريسة له ، في حين تترك الرائحة تأثيراً يزيد من
الرعب. وهكذا يصبح الرجل مشلولاً من الخوف ومنوماً ومنقاداً ،فيدفعه الضبع إلى
وكره ليأكله".ص139.
شيئا
فشيئا غادر الجن والغولة والمُذرة من البلدة, ومن أحلامها ، ونضب الماء من ورحلت الكثير من الأشجار واحتلت
أماكنها البيوت وهكذا انتهت الحكايات ، ولفظت الأحلام من ذاكرتها الحنين.
و يتدخل الشيخان خالد وماهر في الرواية وحديثهما عن الحواري ,
يوصلنا الكاتب إلى صانعة الحكايا التي تطرز من أحلامهم حكايا ملونة, كما حكايتها
تحتفظ بشبابها ولا تترهل وتعيش في أحلام العشاق.
رواية أشارت بإصبع الاتهام إلى ما سيحدث في سوريا وتنبأت بالأحداث
قبل وقوعها , راقبت الواقع والحياة من جوانب مختلفة «وصايا الغبار»، للروائي السوري «مازن عرفة»، استندت
على حكايات وقصص بطريقة متقنة ،ولم تخلُ
بعض الصفحات من إظهار اللبيدو تارة في
الظل و تارة تحت الضوء .
على مدى
562 صفحة تتوزع الأحداث والشخصيات بحبكة جميلة, يدير الروائي مازن عرفه دفة
الاحداث بطريقة تشعرنا بمتعة عظيمة , فننزعج تارة ونبتسم تارة أخرى , لن تشعر من
وصال الصفحة بالأخرى وتصب جام تفكيرك دون أن تشعر بالملل، في ذروة اللذة تكتشف
جوانب مخيفة
بمتعة
مغايرة للتي نعرفها لنصطدم بصور ولوحات تستقبلك على طول الصفحات لكي ينجو الروائي
عرفه حتى من نفسه, وذات صباح يوم يدفعه شعور ضاغط عند ذلك البناء الذي يجذبه بقوة
ينصاع لصوته الداخلي ويقرر أن يمضي الى داخل البناء ,وهناك يرى لافتة سوداء كبيرة كُتب
عليها "مستشفى الأمراض العقلية
"لقد فهم أخيرا أن المصابين بالأمراض العقلية هم خارج البناء ، أما سكان الداخل فهو مخصص للعقلاء أمثاله .