حسين محمد علي
أما الحيطان فلم تكن جرداء حيادية ، بل كانت تتناغم مع إيقاع البيت وترتيباته، والصور كانت جزءاً من الزينة والإيمان،
لها رمزيتها الدينية والقومية؛
فهي أيقونات من التراث الأرمني الديني؛ كالمسيح المصلوب ومريم العذراء الحاضنة لروح الله بوجهها الهادئ الجميل، وصور لكهنة الأرمن الطوباويين،
وصورة الخضر عليه السلام ، وصور شهداء المذابح حيث كان لها كلّ التقدير؛ فهي بالنسبة لهم دينامو الشحن الدائم،
قومياً تُقام أمامها الابتهالات بكثير من الحزن الوجيع، ولا يخلو أي بيت من صلبان بأحجام وزخارف مختلفة .
وبالمناسبة فإن دخول المسيحية لأرمينيا كان أبكر من دخولها لروسيا، ومن هنا فإن الكبار كانوا حريصين على أداء الصلوات في الكنيسة على مدار الأسبوع وبخاصة في الآحاد، ولم يكن يسمح بدخول النساء إلى الكنيسة بدون غطاء للرأس .
أما بيوتنا فقد كانت عادية لدرجة البؤس؛ المعالم الريفيّة بادية عليها، لكننا مع الأيام بدأنا نستعير بعض المظاهر من الأرمن؛ فقد غدت عندنا ستائر على الشبابيك، لكنها لم تكن مترفة أنيقة، وحيطان غرفنا كانت مزينة بصور بدائية بالأسود والأبيض، كانت أغلبها للجد الكبير بسحنة مخيفة وملامح مطموسة بسبب بدائية التقنيات التصويرية في تلك الأزمنة، لم تكن البراويز جميلة، كانت مجرد مستطيل من الخشب، كانت لنا أيضاً رموزنا الدينية؛ ففي كل بيت لوحة لاسم الله ونبيه محمد )صلى الله عليه وسلم )، إضافة لصور متخيلة لأنبياء الله كإبراهيم الخليل وهو يهمُّ بذبح إسماعيل والملاك القادم بالكبش، وهناك صور للحسن والحسين وعلي بسيف ذي الفقار .
ومن طقوس الزينة في كل بيت تقريباً الخملة المصنوعة من حبات الحرمل ) بوغير( ، وكانت وظيفتها في وعينا أنها تدرأ الحسد والعين عن البيت، واستمراراً للتقاليد المنحدرة من الريف كانت الفتيات يطرزن على الخام الأبيض نقوشاً جميلة بالخيوط الملونة )قناويج( بكثير من الصبر والدقة؛ استعداداً ليوم زفافهن. وأكثر اللوحات انتشاراً لوحة أسطورية رامزة،هي لوحة ( شاه معران ) عبارة عن عقرب برأس فتاة واسعة العينين، ولوحة أخرى شائعة هي فاطمة المغربية كنا نسميها بالتركية ) دنيا كوزلي (؛ أي جميلة الدنيا، كانت عندنا الفتاة تتباهى بعدد طرزاتها لجهاز عرسها العتيد.
وفي كل بيت مرآة بدن كبيرة؛ هي بالأساس جزء من جهاز العرس، وصندوق أزرق مزخرف بالمخمل؛ هو مستودع لثياب المرأة والرجل في بداية حياتهما الزوجية، يُعرف عن الأسر الكردية كلفها بأفرشة النوم واللحف والوسائد واللحف كمظهر للوجاهة
الاجتماعية، وحشواتها كانت من الصوف والقطن . أما المفارش على الأرض فكانت اللبابيد الصوفية المنقوشة بأشكال هندسية رتيبة وهي من صنع الأرمن . أما الأرضية في الوسط فكانت من الحصر النباتية والبسط الجميلة المصنوعة يدوياً على ألوان تمتد على الأرض ) تفن( ، وهذه البسط لها أنواع ومصطلحات )حجال ، بالاس ، جارجم ( .
أما الأواني فكانت غالبيتها من النحاس؛ السطول
والصحون والصواني والأباريق وأوعية عجن الطحين بمختلف الحجوم وطاسات الشرب
والملاعق، وحرص الوجهاء من الأكراد على تخصيص غرفة كمضافة؛ لاستقبال الضيوف،
والتقيد بتقديم القهوة المرة وفق طقوسها المعروفة في التحضير .
وفي يوميات الحياة في البلدة صيفاً - والصيف باب الرزق مفتاح المدينة كما قال الفيتوري يوماً - أحد طقوس الصيف الممتعة هو النوم في خلاء الدار ) الحوش(، كنا نأوي إلى فراشنا على أسرّة من الحديد
أو الخشب، ولكل فرد سريره الخاص، وأحياناً هناك سرير كبير بمساحة فارهة وبأرجل
طويلة ينام فيه معظم أفراد الأسرة، نصعد إليه بسلم خشبي صغير. هذا النوع كان يصنعه
نجّارو أورفا بشكل خاص، أذكر كنّــا نأوي إليه بكثير من العذوبة خوفاً من العقارب
المتربصة، وهناك كنا نتراشق بالمخدات ولا نهدأ إلا بعد أن نتلقى ضربات من الأحزمة
الجلدية على مؤخراتنا، ثم نخلد للنوم، ونحن نحلم بقمر ينزل إلينا من عليائه،
والقمر هو قنديل السهر في ليالينا الصيفية، كان النوم باكراً ما لم يكن هناك زوار،
حيث لم يكن هناك ما نتسلى به مثلما هو اليوم، فالبكور هو سمة حياتنا في تلك
الأيام.
ولا بد أن أذكر بعض مشكلات الصيف المزعجة؛ كغارات
البعوض ليلاً، حين يشتد الحر، ويهدأ الهواء، ومشكلة الزوابع المثيرة للغبار عصراً
بالرغم من مساحات الخضرة والماء المحيطة بالبلدة .
وفي صيرورة الأيام وتداولها هناك متّسع للحديث عن الأجهزة الحديثة، كانت تتسلّل إلى البيوت بشكل خجول. أذكر أن أجهزة الراديو كانت نادرة في البيوت، قلّة من العائلات اقتنت هذا الجهاز السحري ذا الحجم الكبير كالصندوق بشاشة صغيرة بأسماء العواصم والمحطات وببطارية كبيرة بحجم علبة الحلوى وبصوته الهادر الصافي يصدح بالأغنيات العربية والتركية وبآيات الذكر الحكيم في بواكير الصباح ، وقد علمت أنّ أول جهاز للراديو كان في قصر (حرجو بيك)، وفي البلدة قيل : إن أول جهاز للراديو كان في بيت (حبش إسماعيل ( قبل الحرب الثانية ، حيث تابع الناس أنباء الحرب من خلال محطة ( BBC
) الإنكليزية بالعربية. وشخصياً شاهدت هذا الجهاز في بيت) مصطفى عباس) ، كان بحجم كومودينة وبغمازة زرقاء و إبرة تدور من محطة لأخرى،
وبخاصة إذاعة دمشق . أمّا الانتشار الحقيقي للراديو فقد كان في بداية الستينات، وبالذات حين أحدثت إيران قسماً كردياً في إذاعتها وباللهجة الكورمانجية، كانت مدّة البثّ ساعة واحدة عصراً ، وقد كنت أرى شغف الكرد للاستماع إلى هذه الإذاعة .ولأول مرة كنا نسمـع أغنيات
( محمّد عارف جزراوي ومريم خـان وكاويس آغا ) في أغنيته الشهيرة "خالو"
.
وفي نفس الفترة كان هنـاك بثّ مطول بالكردية مـن إذاعة )إيريفان ( ، ثم تتالت محطّات البثّ بالكردية من العراق وغيرها بموازاة انتشار الوعي القومي لدى الأكراد .
وبالنسبة لي فقد كان حدثاً غير عادي شراء شقيقي لراديو حديث بنظام ترانزستور صغير الحجم قوي الأداء من ماركة فيليبس من (شكري آغجان (، كان ذاك ( عام 1963 ).
وقبل الراديو عرفت العائلات الأرمنية جهازاً آخر هــو الحاكي ( الكرامافون أو بيك آب )
ببوقه النحاسي الكبير؛ هذا الجهاز يدير أسطوانة سوداء كبيرة برأس به إبرة ، لم يكن هذا الجهاز كهربائياً، بل كانت حركته ميكانيكية على مبدأ حركة البندول النابض في الساعات القديمة. وللتاريخ يُسجَّل أن البلدة لم تعرف التلفاز إلا في بداية السبعينات من القرن العشرين، أول جهاز أتى به رجل عربي وضعه في المقهى الذي أقامه في منطقة البريد القديم قرب المحطّة، هو نفسه كان مقرّ (
تانير) الأرمني، وقد نصب سارية طويلة ) أونتيل( لالتقاط البث التلفزيوني بالأبيض والأسود، فيما
بعد نمت غابة من أعمدة البث فوق الأسطح، كانت القنوات الملتقطة تركيّة، وكنتَ ترى
إقبال الناس على مشاهدة المسلسلات والأفلام التركيّة مثل أفلام
( فاطمة كريك وجنيد أركان ونوري ساسي كوزل . (
البيوت التي كانت سبّاقة لاقتناء هذا الجهاز كانت تعاني من وطأة استقبال المشاهدين حتّى تكتظّ الغرف بهم! بالمناسبة كان بثّ القناة السورية متأخّراً .