خالد جهاد / الأردن
هناك الكثير من
الأعمال الفنية والثقافية التي ارتبط ازدهارها بمرحلة ٍ معينة وظروف ٍ خاصة ساهمت
في بروزها، فتحولت إلى ظاهرة ٍ خاصة وصناعة ٍ قدمت الكثير، ومنها الدبلجة التي
ارتبطت عربياً في الأذهان في أوجها ببلدين هما الأردن ولبنان اللذين احتضنا هذا
الفن المنسي، والذي يحتاج إلى أدواتٍ معينة وطبيعة أداءٍ خاصة، وبدأ مع الأعمال
الكارتونية التي شارك في دبلجتها دولٌ هامة مثل سوريا والعراق وكان لكل منها نكهته
الخاصة وبصمته المميزة، وازدادت المنافسة لاحقاً بدبلجة بعض البرامج والأعمال
الوثائقية، ثم دخلت عصراً مختلفاً بشكلٍ كلي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي
مع بداية دبلجة الأعمال والمسلسلات القادمة من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية
بشكلٍ رئيسي، والتي كانت ظاهرة ً تجتاح العالم بأكمله تحت مسمى (التيلينوفيلا)
ومعناها الدقيق بالإسبانية هو الرواية التليفزيونية، وكانت تطلق على المسلسلات
التلفزيونية الطويلة والتي شاهدها عددٌ كبيرٌ من الناس في العالم العربي ضمن سباقٍ
محموم بين قطبي الدوبلاج في الأردن ولبنان، فكان التدهور في أوضاع الإنتاج الفني
في لبنان بعد فترة الحرب الأهلية والتي تسببت بكسادٍ كبير هي سبب اتجاه غالبية
الممثلين اللبنانيين نحو الدبلجة، والذي تزامن أيضاً مع تراجع انتشار الأعمال
الفنية الأردنية بسبب عددٍ من المشاكل الإقليمية مما جعل الفنانين الأردنيين أيضاً
يقومون بالخطوة ذاتها، فكان معظم هؤلاء الفنانين أصحاب خبرةٍ وأداءٍ تمثيليٍ عالي
نقلوه معهم إلى ماوراء المايكروفون، الى جانب اهتمام بعض المنتجين في البلدين بهذا
الفن فأولوه اهتماماً كبيراً وضخوا فيه من عطائهم تماماً كالممثلين، وكان أبرز ما
يميز هذا الفن هو استخدام اللغة العربية الفصحى ونطقها بشكلٍ سليم ومتمكن مع
مراعاة ٍ لمخارج الحروف وقواعد النحو والصرف، وعززت الخلفية المسرحية للكثير من
هؤلاء الفنانين تجربتهم في الأداء الصوتي
والدبلجة، فوصلت إلى مختلف الدول العربية سواءاً كان عبر أعمالٍ نفذت في الأردن أو
لبنان..
وظلت هذه الأعمال
برغم انقسام الآراء حولها من حيث القيمة والمضمون والأفكار وموائمتها للمجتمعات
العربية التي كانت تقبل عليها رغم انتقادها لها جزءاً من ذاكرة الجمهور، خصوصاً في
فترة التسعينيات التي كانت من أهم الفترات التي شهدت طفرةً في أفكار برامج الترفيه
حول العالم، وكانت اللغة العربية أحد الأسباب الرئيسية التي كانت تجمع المشاهدين
العرب حولها بالتساوي لشعورهم بأن اللغة كانت عاملاً يقربهم من بعضهم دون الحاجة
إلى استخدام لهجةٍ عربيةٍ معينة مما يخلق حاجزاً نفسياً مع المشاهدين من باقي
البلاد عكس ما يحصل اليوم، والذي بدأ مع موجة المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة
السورية المحلية والتي شهدت نجاحاً باهراً دفع بقية الدول العربية لإصدار دبلجةٍ
بلهجاتها المحلية تحت ذرائع مختلفة، مما عزز انعزال كل مجتمع وانغلاقه على نفسه
بعد أن أصبح أكثر من بلد يقوم بدبلجة نفس العمل إلى لهجته الخاصة..
ورغم ذلك كانت ذائقة
المتلقي واقباله على أعمال ذات مستوى ً مقبول فنياً ملحوظاً، فيما كانت الأعمال
ذات المستوى المتدني لا تلقى رواجاً إلا على نطاقٍ محدود، ومع دخول الألفية
الثالثة تراجعت مشاهدة هذه الأعمال لصالح موجاتٍ جديدة عربياً في الغناء والسينما
والبرامج التلفزيونية، وكانت مقدمةً لخلق نماذج مختلفة، أثرت في عقل المشاهد وذوقه
واستعداده لتقبل أنماط كان لا يتقبلها سابقاً، ومنها اللغة والمفردات حتى في
الأوساط البسيطة إضافةً إلى تراجع القراءة
وجعل التلفاز هو مصدر المعلومات الأساسي، مع التركيز على المحتوى التجاري
والهابط مجاراة ً للموجات الجديدة التي تدر عائداً مادياً وتحقق نسب مشاهدة ٍ
عالية قبل بدء مرحلة التوجه الكبير إلى مواقع إلكترونية بعينها ومنصات خاصة
لمشاهدة المحتوى الذي يختاره الجمهور بنفسه ويقبل عليه ويدفع أحياناً لمشاهدته،
عدا عن احلال المواقع الإلكترونية مكان الصحف الورقية بشكلٍ تدريجي أدى إلى
اختفائها اليوم تقريباً، واختفى معها زمنٌ بأكمله وتدهورت فيه اللغة مع انتشار
استخدام اللهجات المحلية كبديل عن الفصحى حتى في الإعلام، ولكن تظل هناك رغم هذا
الواقع محاولاتٌ جادة من العديد من المنابر الثقافية لإعادة الألق والاعتبار لها، فيتضح
لنا أن الأعمال المدبلجة وفن الدوبلاج بشكلٍ عام في مطلع التسعينيات إلى جانب
تجارب الدبلجة للأعمال الكارتونية للأطفال كانت ذا أثر ٍ إيجابي، من حيث نشر
استخدام اللغة العربية وتقريب المسافات بين المشاهدين والشعوب العربية وجمعهم حول
عمل ٍ واحد وهذا ما لا يتحقق حالياً، عدا عن تراجع إنتاج الأعمال التاريخية بل
وإنتاج بعضها بلهجاتٍ محلية، كما ونرى استخدام اللهجة العامية في الترجمة التي
تظهر أسفل الشاشة لحوارٍ بأي لغة ٍ أجنبية في بعض الدول العربية مما يدق ناقوس
الخطر ويعد مؤشراً واضحاً على تراجع مكانة اللغة العربية، فأصبحت الأعمال التي كنا
نتندر على حواراتها ولغتها جزءًا من مرحلة ٍوواقعٍ كان دليل عافيةٍ ومؤشراً على
تماسك في مجتمعاتنا العربية التي تطورت شكلياً فيما تراجعت أفكارها وذائقتها
وهويتها ومشاعرها بشكل ٍ كبير..