علي السباعي
-
يا ألهي .. كم هي صغيرة هذه الحياة ؟
سرعان ما تجد نفسك في فلك لا متناه , ضائع فيه رغم كل
محاولاتك للخلاص منه . فجأة ! تخطفك مصيدة شباكها من حديد , فتصيدك كما تُقيَّدُ
الحشرة الصغيرة في شباك العنكبوت , فتشعر حينها بدنو منيتك , قالها " شهريار
" وهو ينظر من شرفة قصره المطل على أحد شوارع بغداد , تنهد , وقال كأنه يتنبأ
بشيء خرافي:-
-
ما أروع أن يكون البشر كائنات خرافية عملاقة , لفضلت أن
أكون فراشة .
ابتسم ,
ونظر إلى أعلى , فوجد السماء صافية , هادئة , رغم كل الدخان القادم إليها الذي
يطوف فوقها يلفها يحوم في شوارعها , وكان هذا الدخان الغريب بدأ بابتلاع دار
السلام كلها , ابتلاع حياتها كلها بلقمة واحدة , فأضاف بصوت مسموع :-
-
إما أن أكون فراشة وكل الناس من حولي مخلوقات خرافية.
أتاه صوت من الغرفة المجاورة لمخدعه , صوت نسائي خلاب
تسوده بحة معذبة , معقبا بمزاج لاذع على كلام الأمير :-
-
شهريار ! أنت فراشة وأنا زهرتك , زهرتك التي تمتص منها رحيقا
عذبا . أتسمعني ؟
أجابها والأملُ يمازجُ نبرةَ صوتهِ :-
-نعم ! أسمعُكِ يا شهرزاد , فأنَّ ما فيَّ عبارة عن
فراشة , فراشة صغيرة تمتص رحيقها من ضياء البهجة الذي يشع بإفراط من خدود الأزهار
... شهرزاد كل ما فيَّ يتمثل بمأساة حقيقية , كابوس , بل أنا اكبر من أن أُسمِّي نفسي
كابوسا أنا ...
قاطعته ... قائلةً :-
-
انه عالم الكائنات الخرافية العملاقة الذي عيشتنا فيه
رعبا . أليس كذلك ؟
يبتسم شهريار مرغما , يسرح قليلا محدقا في خراب بغداد ,
في كثرة الازدحام والضجيج أمامه , فانه يرى بغداد خربة , فيحدثها قائلا:-
-
أنه الإحساس بالغربة . ما أعيشه - الآن – يا شهرزادي.
قالها شهريار بلوعة وبكى :-
-
نحنُ غرباءٌ !!! فرغمَ كلِّ هذا المجدِ , ومعَ كلِّ هذا
الكبرياءِ , أجدُ نَفسي – الآن - :
أشعرُ بالغربةِ , وأشدُ لحظاتِ حياتي غربةً تلكَ التي
أكونُ فيها وَسطكُم داخلَ بغدادَ , مدينتي , فألفت نفسي كفراشة ترقصُ بارتعاشاتٍ
عشوائيةٍ , متخبطةٍ أمامَ ضوءِ الحياةِ الساحرِ.
ينظرُ شهريار ناحيةَ السماءِ , سماءِ دارِ السلامِ , لِيقول
:
-
نحنُ فراشاتُ غريبةُ تبكي بصمتٍ عندما انطفأت كلُّ شموسِ
بغدادَ بغتةً , وكأنَّ هذه الشموسِ شموعا لأرواحنا ...
قاطعته شهرزاد بمودةٍ :
-
نحنُ فراشاتِك التي عَزفْتَ على قيثارتِهنَّ , دوماً
لحناً حيّاً ...
قاطعَها معلقاً بأسفٍ:
-لحناً حزيناً دوماً ...
عارضتْهُ بمرحٍ:
-فبدونِ حُزْنك يا شهريار نموتُ , نذبلُ , ونذوي من فرطِ
الحياةِ.
فيعُقِّب شهريار :
-
شهرزاد ... أنه عزف جديد لحصاد ما زال قائما . يا شهرزاد
انك تعيشين حصادا لكل حياتك الماضية , فحزنك الذي يسكنك منذ زمن – للان – يحصدك ,
ويحصد كل أمانيك الماضيات بمنجلٍ أسنانه تقتات على آمالك , أحلامك , وطموحاتك التي
تأكل معك , وتنام معك , وتسير معك , وتروي القصص والحكايا بدلا عنك.
تُعقِّب شهرزاد مازحة :
-
كأننا حقا فراشات غريبة ترقص على ضوء شمعتك , نرقص
غربتنا في حياتنا بأحزاننا المزمنة ...يقاطعها شهريار بسؤال مثل منجل حاد,وهو ينظر
صوب بغداد الآن :-
-
أتشعرين بالغربة مثلي يا شهرزاد ؟
-
أجابته وقد جمعت كل خسارتها وأحزانها وفقدها وغربتها - الآن
- قاطعة باترة حازمة صادقة :-
لا.