حاوره: إدريس سالم
القسم الثاني والأخير
· ممّا جاء في الصفحة السابعة من «سرير على الجبهة»:
«إلا أنّني لم أكن أعرف أهميّة بنايتنا الإستراتيجيّة، على مستوى الأحلاف العسكريّة الدوليّة العابرة للقارات، والحملات العالميّة لمكافحة الإرهاب...».
ما حقيقة رمزيّة هذه البناية الإستراتيجيّة؟ وما أوجه الشبه والاختلاف بينها، وبين زمكانيّة «الغرانيق»؟
تطلّ البناية، التي كنتُ أسكنها في بلدتي، على الساحة الرئيسة، وهي التي كان يتجمّع المتظاهرون فيها عند اندلاع «الانتفاضة»، وفيها حدثت عمليّات القمع الدمويّ للمتظاهرين.
ومن هذه البناية كانت تنطلق أيضاً مجموعات أمنيّة للاعتقالات، وتحوّلت إلى مركز تحقيق وتعذيب، وكانت تتناثر حولها جثث الاغتيالات من جميع الأطراف. كلّ هذا يحدث وأنا أسكن فيها، ليس كمُراقب فقط، وإنّما مع خضوع شقّتي للمداهمات الأمنيّة المستمرّة، وخضوعي للمراقبة المستمرّة، والتحقيق. وبالتالي كانت البناية، هي والساحة، أحد المراكز الأساسيّة، التي تمّت استعارتها لتقديم مجرى الأحداث في «الغرانيق». وطبعاً ستمتدّ الأحداث في الرواية إلى كامل بلدتي، الواقعة في الريف الغربي لدمشق، بعد أن تمّ استعارة كثير من الشخصيّات فيها.
لكن انطلاقاً من المعالم الأساسيّة للبلدة والأحداث والشخصيّات فيها، فقد تحوّلت برمزيتها إلى نموذج لجميع البلدات السوريّة المنتفضة، إذ أن ما حدث فيها جرى أيضاً في جميع البلدات المنتفضة، على مستوى سوريا.
تنتصب البناية نفسها، كموقع سكني احتلّه العسكر، في «سرير على الجبهة»، كمحور أساسي أيضاً، إلا أنها برمزيتها تتحوّل إلى جميع البنايات، التي احتلّها عسكر النظام، ومن ثمّ تتسع مع أحداث الرواية لتصبح البلاد كلّها. ومن هنا ينبغي فهم الإسقاطات في الرواية كلّها عبر «السخرية» و «الكوميديا السوداء»، وذلك لفهم الانطلاق من «الخاصّ» إلى «العام»، من البناية إلى البلاد كلّها.
طبعاً أنا أكتب رواية، ولا أوثّق أحداث سياسيّة أو يوميّة، لذلك لا تأتي الأحداث بالمباشرة، وإنّما بتقنيات روائيّة تكسر حدود الزمان والمكان، وتُدخل المتخيّل بالمُعاش اليومي، وعلى رأسها الفانتازيا، المغلّفة بـ «واقعيّة سحرية» و «كوميديا سوداء».
· تصوّر«الكوميديا السوداء» في رواياتك المفارقة الصارخة بين السلوك والقيَم، وتتسلّح بالسخرية والجنون والهذيان والمحاكاة الساخرة، وبالتالي تستطيع مواجهة مفارقة انهيار القيم الإنسانيّة النبيلة في ظروف الحرب، وبروز مظاهر العبث والإخفاق والسقوط التراجيديّ في حياة الإنسان السوريّ. وفي الوقت نفسه تترك الأبواب مفتوحة النهايات على احتمالات متعدّدة.
ما غايتك من استخدام تقنيات «الفانتازيا السوداويّة» و «الكوميديا السوداء» في رواياتك؟ أتعتقد أنها الوحيدة القادرة على تشخيص الواقع السوريّ وطرح الحلول، أم أنك بذلك تعمل على تأسيس الكتابة الغاضبة التحريضيّة؟
أن تعيش حياتك اليوميّة في بناية، تحوّلت إلى موقع عسكريّ محصّن، محميّ بمدرّعات ورشّاشات، وحراسة مشدّدة مستمرّة، وتحوي مركز تحقيق، مشحون بكوابيس التعذيب والمداهمات، فتغدو الشقّة سجناً منفرداً، تمارس فيه حياتك اليوميّة، دون عائلة أو أصدقاء، أو حتى جيران، لكن مع إمكانيّة الدخول إليه والخروج منه متى رغبت نهاراً... أليس هذا غرائبيّاً وسورياليّاً؟!
أن تنتفض مئات المدن والبلدات والقرى بمظاهرات سلميّة تطالب بالديمقراطيّة و «تداول السلطة»، في وجه عائلة مافيات، تمتلك البلاد مزرعة شخصيّة، تورثها لأبنائها، وعلى رأسها ديكتاتور، يريد أن يحلّ مكان إله، فيوجّه جيوشه «الطائفيّة الإنكشاريّة» الخاصّة إلى القمع الدمويّ للمتظاهرين... أليس هذا غرائبيّاً وسورياليّاً؟!
أن يحضر إلى البلاد إسلاميّون متشدّدون، ساديّون ومريضون نفسيّاً، من أطراف الأرض، وكلّما استولوا على بضعة أشبار من البلاد، قرّروا أن ينشئوا عليها خلافة، ويطبّقوا عليها «أحكام الغزو والسبي» من القرون الوسطى, وبدعم من دول، تدّعي أنها تعيش في عالمنا المعاصر، فيصبح لدينا عشرات «خلافات داعشيّة»... أليس هذا غرائبيّاً وسورياليّاً؟!
أن تحكم البلاد مافيات ميلشيّات، وضعوا على رأسها أبلهَ، مسح العمران بالبراميل المتفجّرة، وحوّل البلاد ببشرها إلى ميدان تجريب أسلحة حديثة لدول كبرى، تُستعمل في المنازعات الدوليّة، ومن ثمّ يوزّع ثروات البلاد – المزرعة؛ موانئ ومطارات، ونفط وغاز وفوسفات... وأرض وهواء، مجّاناً مقابل الحفاظ على عرشه، فوق تلال من الجماجم والركام... أليس هذا غريباً وسورياليّاً؟!
أن يموت أكثر من مليون سوريّ، في المعتقلات، وتحت البراميل المتفجّرة، وفي معارك حروب إقليميّة ودوليّة على الأرض السوريّة، ومعهم مليوني جريح ومعاق، وأن يُهجّر سبعة ملايين سوريّ، داخل البلاد وخارجها، في إطار تغيير ديموغرافي مجنون، وبموافقة دوليّة... أليس هذا غريباً وسورياليّاً؟!
كيف ستكتب رواية عن هذا الجنون المنفلت من كلّ عقل ومنطق... لن تستطيع، إلا إذا كنت مجنوناً أكثر بكثير، مهووساً، كي تواجه هذا الكابوس والانفلات المرعب. لن تسعفك الواقعيّة، ولا المباشرة، ولا الوثائقيّة، ولا السرديّات التقليديّة. لذلك، لم أقرّر أنا كيف أكتب، بل هو هذا اللاواقع الغرائبيّ، الذي أعيشه، مثلي مثل أيّ سوريّ، هو الذي يكتب.
من الصعب اكتشاف سرديّة تقليديّة في مسار رواياتي، فهي مجموعة فسيفسائيّة من أحلام اليقظة، والكوابيس، والهلوسات، والمونولوجات، تنتظم ليس فقط بالكوميديا السوداء و «الغروتيسك»، بل وبالأجواء «الكافكاويّة»، وبكسر حدود الأمكنة والأزمنة عبر «الواقعيّة السحريّة»... لكنها جميعاً بأجواء خاصّة بي، مرتبطة بحياتي ومحيطي، إنها عوالمي الخاصّة. أعتقد وهي أيضاً عوالم السوريّين، التي كانوا يواجهون بها الطغيان اليوميّ، إلا أنها كانت تتراكم وتتكاثف في داخلهم حتّى وصلت إلى درجة الانفجار، والخروج إلى الشارع، في تحدٍ لسلطة العسكر، والأمن، و «الشبّيحة الإنكشاريّين».
· وكأنك بهذا ترفض الرواية التقليديّة السائدة بسرديّاتها، التي تتطوّر فيها الأحداث عادة من بداية إلى نهاية مروراً بذروة؟
أنت تعرف أنه بعد أن أنهيت دراستي الجامعيّة في قسم اللغة الفرنسيّة وآدابها في جامعة دمشق، حصلت على الدكتوراه في تخصّص «علم الكتاب» من بولونيا. وفي عام 2007م، نشرت مؤلّفاً ضخماً بعنوان «سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصّيّة إلى سلطة اللامرئي».
ويتحدّث هذا الكتاب عن أننا نعيش في مرحلة انتقاليّة من عصر «الكتاب الورقيّ» إلى عصر «الصورة الإلكترونيّة», وأن قرّاء الكتاب الورقيّ يختفون شيئاً فشيئاً من الواقع. لم يعد أحد يقرأ الآن كتاباً ورقيّاً في الرياضيات أو الاقتصاد أو النقد الأدبيّ أو السياسة، على سبيل المثال، إلا المتخصّص جدّاً في مجاله. ورغم ذلك، فهو كثيراً ما يلجأ إلى شبكة الإنترنت.
أما الجيل الشاب، فإنه استعاض عن الكتاب الورقيّ بوسائل التواصل الاجتماعيّ الإلكترونيّة. وليس ببعيد، ونحن في مطلع الألفيّة الثالثة من القرن الحادي والعشرين، أن تستغني المدارس مع الزمن عن التعليم بالكتاب الورقي، وتتجه إلى الكتاب الإلكتروني، عن طريق شبكات الإنترنت. وستتحوّل المكتبات الضخمة في المستقبل غير البعيد إلى متحف لحفظ كنوز الكتاب الورقي، ويختفي روّادها. وأنت تشهد الآن شبه اختفاء الجريدة الورقية، بل تجري معي هذه المقابلة لصالح موقع إلكتروني، من السهل الوصول إليه لأيّ قارئ، بغض النظر عن موقعه الجغرافيّ... «العالم أصبح قرية إلكترونيّة».
لكن تُستثنى من هذا الرأي حتى الآن الرواية الورقيّة، التي تعيش حالياً عصراً ذهبياً على مستوى العالم، لتلبيتها احتياجات سوسيو – نفسيّة معاصرة على مستوى الأفراد. أما أفولها وتحوّلها إلى رواية إلكترونيّة، فيحتاج إلى زمن متدرّج، ربّما قريب أو بعيد، لكن في المستقبل سيختفي الورقيّ لصالح الإلكترونيّ.
وأضيف هنا أنه ليست كلّ الروايات تُقرأ الآن. فلم تعد الرواية التقليديّة تستطيع التعبير عن أزمات الإنسان المعاصر، ولا تلبّي احتياجاته الأدبيّة – النفسيّة، لذلك لا تجد قرّاء لها. ولا أميّز هنا بين الإنسان في منطقتنا أو في العالم الغربيّ – الصناعيّ، فإنسان منطقتنا ممزّق بالقلق والخوف من الأنظمة الدينيّة، والديكتاتوريّات، والحروب، والاضّطهاد العرقيّ، وبالمقابل فالإنسان الغربيّ منهك بالسيطرة الآليّة، والتفكّك الاجتماعيّ، والأمراض النفسيّة، والاستلاب الروحي. وعلى رغم الخلاف بين العالمين، فكلاهما يعيشان حالات الخوف والقلق والرعب، من الحاضر ومن المستقبل. وشعبيّة الرواية المعاصرة – ما بعد الحداثيّة هي في قدرتها على التعبير عن هذه الأجواء الكئيبة داخل الإنسان، إلى حدّ اندماج عوالم القلق، والتوتّر، والكوابيس، والهلوسة.
وهذه هي عوالم رواياتي؛ عوالم الجنون، والخوف والقلق، لكن في التصاق شديد بالحياة اليوميّة للناس البسطاء، إلا أنني ألطفها بـ «سخرية الغروتيسك»، و «الكوميديا السوداء»، و «اللامعقول», و «الفانتازيا».
وغرائبيّة رواياتي هي التي تجعلها تجد نجاحاً معيّناً بين أوساط الشباب، فيما يعبّر العجائز عن رفضهم لها؛ لأنها تخترق سكينتهم، بدعوى كسر محرّمات الجنس والسياسة والدين. حتى أن بعض النقّاد ممَن كتبوا عن رواياتي لا يحيطون بها سوى بقدر الإشارة إلى الحدث السياسي، الذي يستشفّونه منها. ومع ذلك، فقد كُتب حتى الآن عن رواية «الغرانيق»، التي صُدرت منذ عامين فقط، تسعة عشر مقالاً نقديّاً ومقابلة، بينما كانت «وصايا الغبار» موضوع دراسة ماجستير في إحدى الجامعات الجزائريّة.
· هل أستطيع إذاً فهم انكسار الأزمنة والأمكنة، على سبيل المثال، في «سرير على الجبهة»، ضمن هذه الرؤى؟
إذ ألاحظ العديد من أزمنة الماضي، تتداخل عبر الحكايات في نسيج الحاضر. أما الحاضر نفسه يبدو فضفاضاً، بين لحظات حلم يقظة تحضر كوَمَضات، وبين زمن مطلق، ينفلت من تخومه. وحتى أزمنة الحاضر نفسها تتداخل فيما بينها بطريقة مجنونة... حكايات قابيل وهابيل، ابن بطّوطة، ابن فضلان، سفرْ برْلك، حكايات الجدّات، ذكريات الطفولة... تتداخل مع حكاية احتلال العسكر للبناية، لتتقاطع مع أفلام، وروايات، ورقصات، وعوالم متوازية. ومع ذلك أجد أنّني أضبط سياق الأحداث، فأعرف أين أنا دائماً؛ أنا في الشقّة التي احتلّها العسكر.
هذا صحيح تماماً... الذي يجمع كلّ هذه الانفصالات، والتدخّلات، والاشتباكات، في النهاية، هو الراوي بضمير المتكلم «أنا»، الذي يعيش في بناية احتلّها العسكر. وهذه السياقات الزمنيّة، رغم أنني كتبتها بعفوية، دون تخطيط واضح، إلا أنها مقصودة، وتشكّل أساس الرواية.
حاول العسكر أن يدمّروا ليس فقط الحكاية المروية من قبل الذاكرة الشعبيّة، بل وأيضاً تدمير «الأساس الماديّ» لها. حدث هذا منذ أن استلم العسكر السلطة في البلاد، منذ منتصف القرن الماضي، لكن هذا الفعل تجلّى بشكل مركّز وممنهج منذ «الانتفاضة السوريّة».
وعلى سبيل المثال، كانت الأرياف تحفل بالسهرات المسائيّة، على المصاطب الطينيّة، أمام المنازل القديمة، تحت أشجار الجوز والتين، يجتمع الأهالي، يعشقون ويسمرون ويروون. هذا الريف هو الذي يعطي الهويّة الثقافيّة الأنتربولوجيّة للبلد، بنتاجاته الفلكلوريّة، المرويّة والمشغولة، مقابل زحف الاسمنت في المدن. «الشبيح الإنكشاريّ»، القادم من مستوطنة عسكريّة منغلقة، ولد وعاش فيها دون حكاية أو تاريخ، سوى النهب والسلب والتهريب برعاية السلطة وبقوّة السلاح، هو مَن يقود الجرّافة ويدمّر البيوت والحقول، بدعوى أن تخفي إرهابيين، ثم يقود طائرة ويرمي منها البراميل المتفجّرة، ويمسح بها المدن والبلدات بشكل منهجيّ وعشوائيّ، تحت مشاعر حقد طائفيّ تاريخيّ.
هذا الشبّيح لا يعني له شيئاً، كم بذلت أجيال في بناء المنازل، التي تختزن ذكريات الحياة، وكم سقت من دمائها أشجار الحقول التي تتجاوز أعمارها المئات من الأعوام. وهو بفعله هذا لا يرغب فقط أن ينهي الحكاية المرويّة، بل وأيضاً أن يدمّر الأسس الماديّة لوجودها واستمرارها، يحاول اقتلاع الذاكرة الشعبيّة المتجذّرة في التاريخ، ويحضر مكانها توهّمات العسكر القادمين من الجبال، انغلقوا على أنفسهم في مهنة الموت والقتل.
لن يكتفي هؤلاء العسكر بتدمير الحكاية، بل وسيشاركهم الإسلاميّون بنسج توهمات قروسطيّة ضد أصالة «الحكاية الشعبيّة»، ويحضرون بدلاً منها «حكايات صحراويّة بدويّة»، وينشروها بحدّ السيف وبالدم. العسكر والإسلاميّون لا ذاكرة لهم سوى الدم.
ما حاولته في «سرير على الجبهة» هو استحضار الحكاية الشعبيّة بكلّ أصالتها، وبكثافة، عبر ذاكرة جدّتين، الأولى هي جدّتي لوالدي الريفيّة، والثانية هي جدّتي لوالدتي المدينيّة، ومن ذاكرتي أنا شخصيّاً، وبخاصّة طفولتي، للوقوف بوجه ترّهات العسكر والإسلاميّين. صحيح فيهما نوع من الحنين، لكنه ليس مرضياً، أنه نوع من الحنين الشاعريّ، يؤصّل لمستقبل نبيل بهوية إنسانيّة منفتحة.
وأنت ككرديّ، نبيل ومنفتح إنسانيّاً، تدرك أهمية حكاية جذورك وأصالتك، المزروعة في التاريخ والجغرافية، وتميّزك هويّاتيّاً، في وجه تدمير منهجيّ، تسعى الأنظمة القمعيّة كلّها في المنطقة لفرضه على الشعب الكردي. «شعب دون حكاية، هو دون تاريخ وجغرافية وأصالة».
· أشرت في الفصل الحادي والعشرين من «سرير على الجبهة» أن حياة المواطن السوريّ تداخلت بين المواقع العسكريّة – الأمنيّة والمناطق المدنيّة بطريقة ساخرة جداً.
وفي الصفحة (68)، تكتب:
«ويعلن معاون الباص عن المواقف الشعبيّة المتتاليّة، كأنّه بائع صحف يدلّل عليها في الطرقات: «قاعدة الصواريخ الروسيّة»، «مركز الخبراء الكوريّين»، «حقل الرمي»، «كتيبة الدبّابات»، «وحدة الكيمياء»، «مركز الحرب الإلكترونيّة»، «مفرق المطار العسكريّ»، «إدارة مكافحة التجسّس»، «معسكر فدائيّي الصاعقة»، «الوحدات الخاصّة»، «سرايا الدفاع»، «سرايا الصراع»، «معسكرات الشبيبة المظلّيين»...».
ألا ترى معي أن هذا التداخل زرع تداخلاً فكريّاً – عنصريّاً بين الطوائف والأقلّيّات والأكثريّات السوريّة؟
هو ما كان يحدث في الحقيقة، فكلّ هذه الوحدات والعناصر العسكريّة، التي تم إنشاؤها تحت شعار «تحرير فلسطين»، كانت موجّهة عمليّاً ضدّ الشعب، وما حدث أنها سلّمت أيضاً قسم من الأراضي السورية إلى «إسرائيل».
لكن هذا يكشف أيضاً عن عسكرة المؤسّسات، والمجتمع، والحياة اليوميّة، والثقافة، والعقول، التي سعت إليها «السلطة العسكريّة – الأمنيّة»، التي تحكّمت حتى بالهواء الذي نتنفّسه.
وبما أن البنية الأساسيّة للعسكرة تعتمد على بنية طائفيّة انكشاريّة – مافياويّة، محترفة للقتال والعنف، فقد كان كلّ موقع عسكريّ يحتم إنشاء «مستوطنة عسكريّة» بقربه، وعلى الأغلب على رؤوس التلال، لم يقتصر سكانها على محترفي السلاح، وإنما أيضاً على الأقارب والجيران وأهل الضيعة، في هجرة ديموغرافيّة واسعة، ليتشكّل منها مزيج عسكريّ – مدنيّ، تجمعه سمة ميليشياويّة، توزّعه بين الجيش ومؤسّسات الدولة تمّ استغلال حالة الفقر والشقاء التاريخيّ في أصوله، لاستغلاله في بناء دولة أمنيّة – بوليسيّة... وبناء على هذا يصحّ سؤالك، أنما التداخل الذي تذكره فقد كان سلبيّاُ على المجتمع السوريّ.
· لِم كلّما طالب الشارع العربيّ وشوارع القوميّات المضّطهدة بحقوقهم، وضرورة إجراء الإصلاحات، خرجت الأنظمة في الشرق الأوسط، مدّعية بوجود مؤامرة كونيّة من الخارج؟
ما حقيقة هذه المؤامرة من وجهة نظر روائيّة – نفسيّة؟
المفارقة في عالمنا المعاصر أن دول «الغرب» الصناعيّة المتقدّمة تجاوزت ببناها الاجتماعيّة والاقتصاديّة الفكريّة متطلّبات «الحداثة» إلى مرحلة أعلى ومتقدّمة مرتبطة بمرحلة «ما بعد الحداثة»، والتي تعني فيما تعني «العولمة»، و «الشركات العابرة للجنسيّات"، والاعتراف بثقافة «الجندر» والمجموعات العرقيّة والمهنيّة والهامشيّة، واحترام حقوق الإنسان.
بالمقابل فإن مناطق «الشرق الأوسط»، التي حاولت طبقاتها المتوسّطة، المتشكّلة الحديثة في مرحلة «ما بعد الاستقلال»، ملامسة «عقلانيّة الحداثة»، فقد فشلت؛ بسبب قمع الديكتاتوريّات «العسكريّة» و «التخلّف الدينيّ» الذي أنعشته بترو – دولارات الدول الخليجيّة.
ومن المعروف أن «الطبقة المتوسّطة» هي المشكّلة لـ «الهويّة الوطنيّة والإنسانيّة» والحاملة لها، هي التي تميّز دولة ما بتقدّمها الحضاريّ في العالم.
لم تكتفِ الديكتاتوريّات وإسلاميّات التخلّف بإفشال «الطبقة الوسطى»، بل وبإفقارها، ومن ثم القضاء عليها معنويّاً وماديّاً. ومن ينجو من أفرادها يهاجر إلى «الغرب» وبذلك، ارتدت مناطق الشرق الأوسط إلى بنى «ما قبل الحداثة»؛ بنى «العائلة» و «القبيلة» و «الطائفة»، التي كلّ منها تمجّد رأسها كإله، وتتعسكر للمحافظة على بناها التقليديّة، لا فرق إن كان ذلك يحدث بالبندقية أو السيف. وهي ترفض أيّ تحرّك – حتى لو كان «سلميّاً ديمقراطيّاً» – ضد بُناها، بل وتستنجد بقوى إقليميّة ودوليّة، فاشية ودينيّة – قروسطيّة وبمافيات واحتكارات أسلحة ومخدّرات – إذا ما شعرت بخطر تدميرها... من هنا فهم جنون العنف، الذي تواجه به هذه أنظمة الدول في منطقتنا، التي تستند على هذه البنيات ما قبل الحداثيّة، أيّ تحرّك ثوريّ أو مطلبيّ مرحليّ ديمقراطيّ لشعوبها.
أما الغرب، بوجهه الإمبرياليّ، وجّه احتكارات السلاح والنفط والمخدّرات والشركات الاقتصاديّة العابرة للجنسيّات، فلا تعنيه أبداً التحوّلات الديمقراطيّة في منطقتنا، بل يفضّل التعامل مع «ديكتاتور عسكريّ فاشي» أو «ملك» أو «أمير قروسطيّ محافظ»، دون اهتمام بدمويّتهم، ماداموا يحقّقون مصالحه.
وينطبق هذا التحليل، على سبيل المثال، على الشعب الكرديّ. لكن الكرد لهم مشكلة وجوديّة أعمق، فهم شعب متجذّر في التاريخ والجغرافية، ولهم أصالتهم الأنتربولوجيّة، ويمتلكون لغة وثقافة خاصّة تعبّر عن وجودهم، وعن تراكم الخبرات والحياة خلال مسيرة التاريخ، كما لديهم الكثير من المبدعين، الذي يسهمون بتطوّر الفكر الإنسانيّ المنفتح انطلاقاً من بيئتهم المحلّيّة...
كلّ هذا يجعل من حقّهم أن يمتلكوا كياناً مستقلّاً، ليس فقط سياسيّاً، وإنما أيضاً وجوديّاً، يعبر عن آمالهم وطموحاتهم. لكن المشكلة الكبرى للشعب الكرديّ وجوده جغرا – سياسيّاً في أربع دول، تتمثّل إما بديكتاتوريّات عسكريّة أو أنظمة دينيّة شوفينيّة أو ديمقراطيّة شكليّة تقوم على التطرّف العرقيّ، وهي تقمع شعوبها الأصليّة، فكيف بمجموعات عرقيّة مغايرة؟ فإذا كان النظام العالميّ القائم لا يسمح للكرد الآن إقامة دولة مستقلّة تجمعهم، فإنه يتغاضى أيضاً عن قمع مجموعاتهم داخل هذه الكيانات السياسيّة الأربع.
والقمع تاريخيّاً لم يقف عند حدود الاضّطهاد اللغويّ والثقافيّ والإنسانيّ، بل وصل في أحيان كثيرة إلى حدّ الإبادة الجمعية.
· أخيراً، بم منشغل «مازن عرفة» على الصعيد الكتابي؟ وهل لديه مشاريع قادمة، يريد الإفصاح عنها لموقعنا، بشكل حصريّ وخاصّ؟
عندما تنتهي حياتي، تنتهي روايتي، ولذلك سأبقى أكتب، وأكتب حتى آخر لحظة.
أطلقت ذات مرّة دعابة، بأنني قرّرت أن أعيش حتى (١٢٥) من عمري؛ كي أكتب ما اختزنته في عوالميّ الداخليّة... وبعد ما أصاب منطقتنا من كوارث ودماء، أجّلت موتي حتى (١٥٠) عاماً.
لدي عدد كبير من النصوص، هي شهادات لأناس أعرفهم، بعضهم نَجَا من الموت مُهاجراً، والقسم الأكبر منهم مات في المعتقلات، أو تحت البراميل المتفجّرة، أو غرقاً في البحر. وبما أن معظم هذه الشهادات ترتبط بي أو كنت شاهداً عليها، بمعنى أنها تمسّني شخصيّاً، فقد سجّلتها بالفانتازيا الخاصة بي وبتقنياتي التعبيريّة المأساوية. أبحث الآن عن شكل تقني تعبيريّ جديد؛ لجمع الأهم من هذه الشهادات في عمل روائي جديد.
ذات مرّة كتبت شهادة مأساويّة عن أقارب سوريّين هاربين من الحرب، غرقوا بطريقة مأساويّة جدّاً وحزينة في البحر بين ليبيا وإيطاليا، الطريق الأصلي للهروب قبل طريق تركيا – اليونان (وقد نشرت هذه الشهادة قبل عامين في موقع «صالون سوريا»).
عندما أنهيت كتابة الشهادة وأنا في سوريا، تلقّيت اتصالاً من ابنتي البالغة من العمر وقتها (١٤) عاماً من تركيا (إذ إن زوجتي وابني وابنتي هربا مع عائلة زوجتي إلى تركيا ومن ثم إلى ألمانيا)، وقالت لي «أبي، منذ عام غرقنا في البحر جميعاً، انقلب فينا زورق تهريب عتيق، ونجونا بأعجوبة؛ لأننا كنّا مازلنا قريبين من الساحل التركي، علّمتنا السباحة، فوصلنا إلى الشاطئ بصعوبة... لم نخبرك وقتها؛ حتى لا تزعل وتخاف علينا».
يومها، بكيت، لم أعرف هل أبكي لعائلتي، أم للغرقى وهم يهربون، أم للمعتقلين، الذين لم نرَ جثثهم، بعد أن بُيعت أعضاؤهم البشريّة لعصابات دوليّة...
معظم هذه الشهادات تمسّني شخصيّاً بطريقة ما. لذلك أشعر بدَين حقيقيّ لكلّ هؤلاء المعذّبين، الذين ماتوا أو نجوا... أن أكتب عنهم دائماً.