فرح علي
بالنسبة للوجوديّين بشكلٍ عام، لا يولد أحد مع ماهيّة معيّنة، أي أنّ الإنسان يُدفع إلى الوجود على أنّه لا شيء. إنّه لن يكون شيئًا إلّا فيما بعد، وعندئذٍ سيكون على نحوٍ ما يصنعه بذاته. فكلّ ما نحن عليهِ هو نتيجة لاختياراتنا. فـنحن نبني أنفسنا من خلال مواردنا الخاصّة والموارد التي يمنحنا إيّاها المجتمع. نحن لا نخلِق قِيَمنا الخاصّة فقط، بل نخلِق أنفسنا.
تضع الفيلسوفة سيمون دي بوفوار على الرغم من موقفها الوجوديّ طوال حياتها- حدودًا لهذه الفكرة الوجوديّة المركزيّة حول خلق الذات والتعريف الذاتيّ، على النقيض من فكرة جان بول سارتر عن حريّة الإنسان المطلقة في الكينونة والعدم. تُقدّم دي بوفوار صورةً غامضةً لحريّة الإنسان، حيث تُكافح النّساء ضد العيوب الظاهرة للجسد الأنثويّ.
في كتابها “الجنس الآخر“، أشهر أعمالها، تَرسم دي بوفوار نوعًا من التاريخ الوجوديّ لحياة المرأة، عن كيفيّة تغيّر موقف المرأة تجاه جسدها ووظائفها الجسديّة على مرِّ السنين، وكيف يؤثّر المجتمع على هذا الموقف. وهنا تُثير دي بوفوار السؤال الجوهريّ المتمثّل في تجسيد الإناث: هل العيوب المفترضة للجسد الأنثوي هي عيوب فعليّة موجودة بموضوعيّة في جميع المجتمعات، أم أنّها تعتبر عيوبٌ من جانب مجتمعنا فحسب؟ أجابت على هذا السؤال من خلال دراسة استكشفت فيها المراحل المختلفة لحياة الأنثى. توضّح بأنّ الجسد الأنثويّ يتم تقديمه على أنّه إيجابيّ وسلبيّ في آنٍ، تكون المرأة مقموعةً وحرّةً على حدٍ سواء وجسد المرأة هو منشأ هذا التناقض، حيث تقوم المرأة بتمويه وإخفاء أجزاء حيوانيّة من جسدها لأنّها غير مقبولة في نظر الرجال، وكذلك تتعلَّم المرأة منذ نشأتها كيف تجلِس وكيف تتكلّم وكيف تعمل وكيف تقوم بأيّ أعمال اجتماعيّة. فهي من خلال هذه المفاهيم تترسّخ فيها معاني الأنوثة فلا تقوم بأيّ أعمال تُناقض معايير الأنوثة المكتَسبة.
يعتمد هذا الأمر على مدى اعتبار المرأة نفسها موضوعًا حرًّا وليست موضوعًا لنظرة المجتمع. فتحرير المرأة رهينٌ بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها، الجسديّة والنفسيّة.
لاحظ سارتر أنّنا نقوم بتعريف الأشّياء وكذلك الأشخاص الآخرين، وفقًا لنظرتِنا ومفاهيمنا. تأخذ دي بوفوار هذه الفكرة وتطبّقها على مفهوم الرجال عن النساء. إنّ مفهوم “المرأة”، كما تقول دي بوفوار، هو مفهوم ذكوريّ. المرأة دائمًا هي “الآخر” إنّها هي الموضوع وما يجِب أن تكون عليه المرأة يتم إعطاؤه من قبل الرجال. أي أنّ الرجل أساسٌ جوهريّ في صياغة الذات الأنثويّة بكاملها.
من أقوال دي بوفوار:
«لا يُمكننا أن نقارن بين الأنثى والذكر في النّوع البشريّ إلّا من الزاوية الإنسانيّة. ولا يُعرف الإنسان إلّا بأنّه كائنٌ غير مُعْطَى وأنّه يصنع نفسه بنفسه ويقرّر ما هو عليه». وكما قال (ميرلو بونتي):
«ليس الإنسان نوعًا طبيعيًّا بل هو فكرة تاريخيّة، والمرأة ليست واقعًا لازمًا بل هي صيرورة، لذلك ينبغي مقارنتها مع الرجل في صيرورتها، أي ينبغي تحديد إمكانيّاتها. إنّ ما يعيب كثير من المناظرات، أنّها تريد أن تقتصر المرأة على ما كانت عليه أو ما هي عليه الآن».
ووفقًا لبوفوار فإنّ البيولوجيا بحدّ ذاتها لا تشكّل عائقًا للنّساء، بل كيّفيّة تفسير المرأة لها هو ما يجعلها إيجابيّة أو سلبيّة. حالات كالحمل وانقطاع الطمث مثلًا ليس لها معنى في حدّ ذاتها؛ ولكن في مجتمع معادٍ أو قمعيّ، يُمكنهم أن يتعاملوا معها على كونها عبئًا وعيوبًا، وتستسلم النّساء لقبول المعاني التي يمنحها لهم المجتمع الأبويّ. وبحسب دي بوفور«لا يولد الإنسان امرأة بل يُصبح كذلك» بفعل التأثيرات الاجتماعيّة. أيّ أنّ ما أصبحت عليه المرأة اليوم هو شيءٌ مصطنع اجتماعيًّا من قبل الذكور وليس بسبب الحتميّة البيولوجيّة.