-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

مرّتان في حياتي

روبن بلمونفولد

عامر المصري

 

قابلته مرّتين في حياتي، مرّة في شارع البحر، ومرّة في شارع المحطّة. لم يكن ذئبًا ولم يكن قطًّا أليفًا، على أيّ حال، كان فقط إنسانًا. لم يكن شفّافًا ولم يكن غامضًا، لم يكن كثيرًا ولم يكن قليلًا... كان في المنتصف من كلّ شيء. في المرّة الّتي سافَرَ فيها، نادى عليه الموظف قائلًا: "أَخرج جوازك". فأخرج نصف تفّاحة من جيبه قائلًا: "هذا النصف هو جواز سفري، والنصف الآخر أكله قطّ هارب من قطارات بولندا". ثمّ كان المعبر منتصفه الأخير.

في الجامعة أحبّ فتاة تجدّل شعرها، كان يواعدها في الفناء الخلفيّ للحديقة، وفي كلّ مرّة ينطق أمامها حرفين فقط: الباء والحاء، ويصمت. وهذا ما جعلها تهضمه في سنوات الدراسة فقط. في الجامعة أيضًا، كان يدرس طوال الليل مثل نجم نسي النهار، ولهذا عُرِفَ بـ ’الدحيح‘ على الرغم من عدم إكماله لاختبار قطّ. كان يدخل الاختبار وفي ذهنه كلّ إجابات الأسئلة الممكنة... يجلس على الكرسيّ... يجيب نصف الأسئلة ثمّ يسلّم الورقة.

المرّة الوحيدة الّتي كان فيها قريبًا من امتلاك شيء كامل، كانت في الصداقة، ولكن هيهات. صادَقَ نادر في الصفّ السادس، ولسبب تافه جدًّا يتعلّق بنصف ساندويشة، أصبحا أصدقاءً. هذه كانت فرصته الوحيدة لإكمال شيء واحد إلى آخره، إلّا أنّ أقدام نادر قالت: لا. وبعد صداقة استمرّت حتّى الصفّ الثاني عشر، ركض صاحبه هاربًا إلى تركيّا للدراسة.

من شدّة حزنه على خسارة الأنصاف، شعر أنّ كلّ ما يتعلّق بالبشر آخره المنتصف، ثمّ نبتت في رأسه فكرة تتعلّق بصداقة قطّ. كان الوقت ظهرًا حين قرّر الخروج إلى الزقاق، وجلب أيّ قطّ يراه أمامه. أوّل ما رآه كان قطًّا أسودًا، في منتصف جسده قطعة من الليل. لم يقاومه القطّ أبدًا، وهذا ما جعله يحمله بين يديه سريعًا ويدخل إلى البيت. ولم تمض ساعات قليلة حتّى اكتشف عدم قدرة القطّ على الركض لتعطلّ نصف جسده.

بدأت معاناته الحقيقيّة بعد حصوله على معدّل عال في الصفّ الثاني عشر، في الوقت الّذي اعتقد فيه إمكانيّة إكمال الحياة بصورة طبيعيّة. حرّضته أمّه على الذهاب إلى الطبيب بعدما بدأت تلاحظ نومه حتّى منتصف الليل، وأكله لنصف الطعام، ووقوفه في منتصف الطريق، وكرهه لنصف البشر. ذهب إلى طبيب نفسيّ، جلس على الكرسيّ لنصف ساعة لم ينطق فيها نصف حرف. ترك الطبيب يقول ما لديه، ثمّ قال: "ليس الأمر كما أخبرتك أمّي، أنا لا مشكلة لديّ في أيّ منتصف في حياتي، إلّا منتصف واحد". وأكمل:

-         نحن معتادون على النصف يا دكتور، فنحن نعيش نصف حياة، وفي يدينا نصف بلاد، وضاعت نصف أعمارنا في انتظار الفرج. نحبّ نصف حبّ، ونبكي نصف بكاء، وتعيش أمّهاتنا أنصاف أعمارهنّ لاستشهاد أبنائهنّ. لا مشكلة لديّ في هذه الأنصاف يا دكتور... مشكلتي في نصف واحد فقط.

كشّرت ملامح الطبيب عن أنيابها، وقال:

-         أيّ نصف الّذي تتحدّث عنه؟

-         نصف التفاحة! تخيّل يا دكتور لم أعد أستطع إكمال نصف التفاحة الثاني، أنا أحبّ التفاح أكثر من أيّ شيء آخر، وعدم إكمالي للتفاحة يؤذيني، يجعلني غير راغب في إكمال أيّ نصف في حياتي. هل واجهتك مشكلة كهذه من قبل؟

صمت الطبيب نصف صمت وظلّ هذا النصف يجرّ أنصافًا أخرى حتّى انتهت الجلسة.

لم يلتفت أحد في طفولته لرسائل القدر، تلك الّتي كانت إشارات لما حدث بعد ذلك. قال والده يومًا:

-         سوف أذهب إلى البحر رفقة أصدقائي، الجوّ مناسب لاصطياد البشر...

ثمّ ضحك، ووجّه كلامه إلى ابنه قائلًا:

-         هل ترافقنا؟

فرافقه. في منتصف الطريق إلى البحر، اصطدمت سيّارة والده بدمعة امرأة في السيّارة المقابلة، فمات نصف مَنْ في السيّارتين، وكان هو من النصف الناجي. بعد فترة من الحادث قال لأمّه في ساعة عصر: لماذا لم يُصَبْ نصفي الأيمن كما أصيب نصفي الأيسر؟ كان عليّ أن أذهب مع أبي.

تخرّج صاحبنا من الجامعة بمعدّل متدنّ، يرتفع عن الحدّ الأدنى بمقدار نصف درجة. منذ تلك اللحظة بدأت معاناته في العمل، على الرغم من أنّه استطاع أن يقدّم لما يقارب نصف مليون وظيفة، غير أنّه لم يحظى إلّا بمقابلة واحدة. دخل فيها على اللجنة المكوّنة من أربعة أشخاص، وأجاب عن أسئلتهم بالترتيب.

قال الأوّل:

-         ما اسمك؟

فردّ:

-         قليل... أو كثير.

قال الثاني:

-         كم عمرك؟

فأجاب:

-         منتصف العشرين.

سأل الثالث:

-         حدّثني عن خبراتك.

فقال:

-         نصف خبرة.

سأل الرابع:

-         هل تعتقد أنّك قليل، أم كثير؟

فقال باستهزاء:

-         كثير!

أُعْجِبَتْ اللجنة بثقته، وتحصّل على عقد لنصف عام. وبعد مرور ثلاثة أشهر، كان على المسؤول أن يخبره: توقّف تمويل المشروع، أنا آسف لن تكمل معنا. في الشهرين الأوّلين أصرّت أمه على تزويجه، وكانت تقدّم له مع نصف التفاحة في الصباح كلمة: ’زواج‘. وفي المساء كانت تقول: أريد مَنْ تشاركني أعباء البيت، لقد تعبت من الحياة. ولأنّه كان رخوًا في الليل بما يكفي لينتحر بكلّ أناقة، وافق. ثمّ قال: بشرط.

-         تشرّط كما تريد يا حبيبي.

-         لا أريدها جميلة ولا قبيحة، ولا غنيّة ولا فقيرة... وسط من كلّ ذلك يا أمّي.

-         هذا كلام غير معقول، سأزوّجك كما أريد.

في اليوم التالي، كانت الأمّ في بيت جارتهم أمّ سعدي لتخطب ابنتها الصغرى ريم. وبعد أقلّ من شهر كان صاحبنا وزوجته في غرفة واحدة، بعد ليلة عرس لم تكتمل لتعطّل مولّد الكهرباء. لم تكن ريم على علم بانتصافه، إلّا بعد عدم إكماله لليلة واحدة بجوارها. فقد كان يهمّ دائمًا في معاشرتها، ثمّ في منتصف العلاقة يفرّ هاربًا مثل كلب برّيّ وتظلّ ريم تبحث عن ظلّه في الفراش. لم يمضِ نصف شهر حتّى كانت قد هربت إلى بيت أمّها، فعاتب صاحبنا أمّه قائلًا:

-         قلت لك وسط، لماذا أصرّيت على اكتمالي؟

لم تمضِ سنة واحدة على طلاقه إلّا وكان وحيدًا تمامًا بعد وفاة أمّه. كان عندما يحزن في الليل الموحش، يقف أمام مرآته المكسورة من المنتصف، تبكي عينه اليمنى، بينما اليسرى ترفض أن تهتزّ قائلة: ما دامت العين الأخرى بكت، فما حاجتك لبكاء الثانية؟ هكذا عُرِفَ صاحبنا بعين واحدة لا اثنتين.

لحظة ولادته، وقف في المنتصف. نصفه داخل رحم أمّه والنصف الآخر خارجه. قال الطبيب حينها: المسألة معقّدة، إنّ نصف جسده ليس متعلّقًا بالحياة كالنصف الآخر. وكان على أمّه أن تنتظر لوقت طويل، قبل أن يتقبّل نصفه الآخر الحياة وينزل إليها. بعد وفاة أمّه لم ينتظر أبدًا، فقد ارتأى أنّ المشكلة ليست في البشر، وإنّما في المكان.

قابلته للمرّة الأولى في شارع البحر، كان يمشي وحيدًا مثل حلم غريب. في اللحظة الّتي كنت أمشي فيها باحثًا عن قصّة جديدة، اصطدمت به. فقلت: أعتذر.. مساء الخير. فقال: لا عليك، مساء النور. قلت: عرّفنا عليك يا طيّب. فقال: كثير. ثمّ مَشى... كان الوقت فجرًا، وقد ظلّ صوت جرّ حقيبته في آذاني حتّى اليوم التالي.

في المرّة الثانية الّتي رأيته فيها، كان جالسًا على مقعد حديديّ في شارع المحطّة. كان يبدو كذئب مروّض أو قطّ أليف. اقتربت منه عمدًا، وقلت: لم تخبرني يا كثير... فقاطعني: لست كثير بل قليل... قليل جدًّا. ثمّ رأيته يركض بعيدًا تجاه شارع فرعي.

تعديل المشاركة Reactions:
مرّتان في حياتي

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة