إدريس الحسناوي (المغرب)
سقت الأُصُص جميعها، وحملت ذا الصُّبّارتين كي تناوِلَه بعضاً من أشعة الشمس بعد أن حُرم منها أسبوعاً كاملاً. تفقدت أشواك الصبارة وشقيقتها، فلاحظت أنها فقدت شيئاً من الحدة والمضاء. لم تكترث للأمر،واكترثت لرسالته التي لا تزال فوق طاولةٍ من خشب الأبنوس .أخذتها ثم أعادتها إلى الظرف الذي يبدو أنه لم يُفتح على مَهل .
استلقت على الأريكة المطلة على جارها الغريب الأطوار، فَشعرتْ بسِنة بدأت تدِبُّ في جسدها المنهك. لم تستسلم لها، بل استجمعت جسدها ثم قصدت مطبخها الأمريكي التصميم لإعداد قهوتها الخفيفة الظل، ذات النكهة الإيطالية المعهودة.
وضعت الفنجان على الطاولة إلى جَنْب الظرف بعد أن شربت منه القليل ثم ألقت بنظرتها إلى النافذة. إنها مسدلة، وعُشُّ زوج اليمام منتصباً ما يزال على شفيرها. أخذت سيجارة الصباح ولم تشعلها على التو. لقد فضلت الاحتفاظ بها عذراء بالقرب من المنفضة حتى تتصفح صفحتها على الفيس بوك.
إبهامها صاعداً هابطاً على شاشة هاتفها، يفلي الصور والأخبار والرسائل والتعليقات. توقف برهة، فقربتِ الشاشة من العينين المتهدِّلتين للتمعن والتدقيق أكثر. أشعلت السيجارة بعود ثقاب أمريكي الصنع وبدأت تتابع ما أثارها، إنه فيديو لامرأة رَبْعَة بضة تُشَّمِّر لَبْسَتها الشفافة عن ردفيها وتلقن متتبعيها الطريقة الفضلى لتنظيف بلاط المنزل، في عرض معلن ضمنياً لمؤخرة مكتنزة وصدر ما بين النافر والمهلهل. أثارها عدد مشاهدات الفيديو وبعض التعليقات لرجال ربما هم نساء، ولنساء ربما هن رجال...
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
- كافرة سافرة سافلة...
- دوزي لخاص (مري إلى الخاص).
- شحال(كَمْ )...؟
وتعليق آخر بصورة لبئر تشبه الثقب الأسود الضارب في عمق الأرض، أشعرتها حرارة تقترب من سبابة ووُسطى يدها اليمنى بقرب رحيل السيجارة، فألقت بالعَقِب مسرعة بالمنفضة، أما الرماد، فوجد طريقه سالكاً إلى سطح طاولة الأبنوس دون أن تشعر بذلك، تاركاً فوقه ما يشبه الشامة على بشرة قمحية اللون.
غادرت عوالم هاتفها، واضعة إياه على الطاولة ثم استلت الرسالة من ظرفها، وقرأت منها:
«أشكر الأصص التي شدتني إليك، وخاصة أصيص الصبارتين ذاتي الأشواك الصُّفر. وأعترف أني أنا المدمن على ارتشاف قهوتي الصباحية على إيقاع سقيك لها، وأني المتلصص الذي يتأملك كل صباح ليتصيد الوضع الذي عشقته حتى الجنون، وضعَ مشطك لشعرك الفاحم أمام المرآة، وعضك على مَسّاك من خشب العرعر في انتظار لَمْلَمَة خصلاته به، وجعله مثل الوردة المكتنزة التي تستعد كي تتفتح قبل أن يتنفس الصبح... فهل لي برسمك؟
أنتظر لقاءك، لا الردّ على رسالتي.
المعرِّي...».
التفتت من جديد إلى نافذة الشقة. الستار مُسْدل وباباها مغلقان، ولا سبيل لا إلى الرد على الرسالة، ولا إلى اللقاء، ولا إلى التجاهل.
غيْمٌ أَرْمل غطى زرقة السماء، ورياح غبارية أحالت المدينة شِراكاً يأسر أشباحاً. أغلقت النافذة، لكن بؤس المشهد أفلح في اختراق الغرفة والنفسية المرتابة، فبادرت بإسدال ستارة الألمنيوم الخارجية للنافذة، لتعم الغرفة ظلمة عجلت بقدوم ليلها. الليل الذي يثير فيها شغف الكتابة ونزوات أخرى.
شيء ما حركته الظلمة أخذ يتكلم في بواطنها، يخاطبها في صمت يسبق العاصفة:
«أحتاج إلى رجل يضمني إلى صدره،أشتَمُّ عرَقه وأحتمل لَفْحَ نارِ جسده المُتَوقِّد... رجل أنْكَمِشُ في حَيْزومِه، وليكن كَمّاشَةً تعتصرني وتُصَيِّرُني خمرة تسكره وحده...».
رَوَّضت ذاك الشيء شيئاً فشيئاً، بالقراءة أحياناً، وبالرقص شبه عارية على إيقاع كمان مشرقي أحيانا أخرى، لكنها لم تستطع نسيان النافذة.
- هل سافر؟ وإن كان الأمر كذلك، لِمَ أسَرني بحبال رسالته تلك؟
ربما حَدَسَ جموحي، فاختار الرسن المفتول المتين. لكن سأنتظره، وسأثني عطفي وأتظاهر بتجاهله حين يعود، وبأن رسالته كأنها ما تزال حبيسة صندوق رسائل الفيلا. وبعد ذلك سأتصيد لقياه وهو عائد إلى شقته ليلاً، وأشعره أن الأمر كان مصادفة، ثم أخبره هادئة متزنة أنه أزعج زوج اليمام بعد عودته، وأنه أجبر الزوج على تحويل مشروع عشه إلى السنديانة المقابلة لنافذة غرفة نومي.
إنه صباح يوم الأحد، والمدينة كعادتها لم تستفق باكراً، سانحة الفرصة لطيورها كي تغرد طليقة، ولقطط وكلاب شوارعها كي تداعب بعضها البعض وتتكاثر بعيداً عن سخريتهم وكاميرات هواتفهم وأدخنة سياراتهم. مانحة للعشاق الذين لا يزالون على أسرتهم منحة ومتعة أن يَرْشَحوا ما بقي في جعابهم من تبعات اقتراب آدم للشجرة، ثم يخلدون للنوم ثانية بعد تاكتيك ساذج ومتعة لا تتعدى ثوان معدودات، ينهي بها المتعانقون حرباً لا منتصر فيها ولا منهزم.
استيقظت كعادتها كل صباح أحدٍ على مشارف الظهر، فركت عينيها واستجمعت جسداً متثاقلاً لا يخف إلا بعد حمام بارد ودهن وعطر باريسيين وقهوة إيطالية خفيفة الظل ترتشفها في الشرفة المطلة على نافذته.
آه... النافذة مشرعةُ الستارةِ والدفتين، وداخل غرفته، رأت بالكاد رجالاً بأزياء رسمية. نياشين، هواتف محمولة، حواجز، كاميرات تصوير... لم تشعل سيجارتها الصباحية المعهودة، فتوجهت إلى باب الإقامة لتجيء بخبر يفك حيرتها.
سألت البواب:
- با أحمد... ماذا يحدث في شقة الغريب؟
أجابها بصوت خفيض وقلب منفطر:
- مات المعري، ولم نشعر جميعاً بذلك... وجدوا جثته متحللة.
رغبت في العويل أو في أن تتمرغ في بهو الإقامة مثل الطفلة التي سرقوا منها عروسها القصبية في عيد ميلادها. كظمت البركان إلى أن تصل غرفتها وتحرر شظاياه، فهي تخبر فطنة با أحمد جيداً، ولا تريد أن يعرف الحقيقة، وخاصة في هذا الظرف المشتعل بالتحقيقات والفرضيات.
جاءت من بهو الإقامة بحزن يزن الجبال، جاءت تحمله مثل سيزيف، ليس على ظهرها، بل في قلب قُّدِّر له أن يُفجع إلى الأبد.
مات المعري، والسبب جلطة دماغية حادة مفاجئة. هذا ما أقرَّته الشرطة العلمية، فغِيض الماءُ، وحزنها فياضا ما يزال.
بعد أسبوعين أتى قريبه الوحيد الذي لم يكن يزوره إلا في الأعياد، أتى لإفراغ الشقة، مستعيناً با أحمد.
كُتُب، كُتُب، فُرشات، علب صباغات متناثرة وقليل من الملابس وأربع مرمدات طافحة بأعقاب السجائر وجَهاز متواضع لمطبخ يظهر أنه كان لا يلجه إلا لماماً، ولوحة زيتية أَسَرَت با أحمد لكنه لم يُبْدِ ذلك لقريب الفقيد.
- كم تريد مقابل مساعدتك؟
- الفقيد مدين لي بالكثير، أريد فقط أن أتذكره بتلك اللوحة.
فأشار إليها، وأطال النظر فيها. نظر القريب إلى اللوحة، فلاحظ ما لاحظ، وردَّ عليه:
- أرغم أنها منقوصة؟
فأجابه با أحمد:
- وليكن... أرجوك... أرجوك.
أخذ اللوحة بعناية إلى بيته أسفل درج الإقامة، أشعل المصباح متلهفاً وقال في نفسه:
- إنها هي أو تشبهها، لكن هل ستقبل الهدية؟ الهدية التي رسمتها ريشات مات صاحبها وفي قلبه شيء من ماجدلين؟
تردَّدَ في البداية، وبعد ذلك تجرأ فطرق بابها وأهداها اللوحة دون أن يلفها في ما يلفون به الهدايا.
تأملت ماجدلين اللوحة في الشرفة المطلة على نافذته منكسرةً مهزومةً، فقالت في دواخلها : إنها أنا...
أخذت رسالته وقرأت من جديد:
«أشكر الأصص التي شدتني إليك، وخاصة أصيص الصبارتين ذاتي الأشواك الصُّفر. وأعترف أني أنا المدمن على ارتشاف قهوتي الصباحية على إيقاع سقيك لها، وأني المتلصص الذي يتأملك كل صباح ليتصيد الوضع الذي عشقته حتى الجنون، وضعَ مشطك لشعرك الفاحم أمام المرآة، وعضك على مَسّاك من خشب العرعر في انتظار لَمْلَمَة خصلاته به وجعله مثل الوردة المكتنزة التي تستعد لكي تتفتح قبل أن يتنفس الصبح... فهل لي برسمك؟
أنتظر لقاءك، لا الرد على رسالتي...
المعرِّي...».
نقل المعري ما رأى، لكن الموت سرقه، ولم يتمكن من رسم مَسّاك العرعر الذي ينتظر في فمها متى تمنحه معانقة شعرها ولملمته كي يكون مثل الوردة التي تستعد لأن تتفتح فجراً.
اختارت للوحة أن تكون قبالة سريرها وارتدتِ الحداد.