رشيد المومني
في سياق اقتناعنا بالدور الاستثنائي الذي تتميز به الكتابة الشعرية والمتمثل في اجتراحاتها المتفردة لأسئلة الوجود، يحضرنا تلقائيا مفهوم الحبسة، بوصفها لحظة انتقالية تفصل بين لحظة انغلاق دائرة الفهم المقيدة بقوانينها العرفية، ولحظة انفتاحها على قوانين الزمن الشعري، التي من شأنها تحجيم سلطة «المتناهي» المحيل مبدئيا على ما هو مؤقت، ظرفي وعابر، من خلال تقييدها للتفاعل الإنساني، ضمن ما يستلزمه التواصل العام والمشترك، من تفعيل ذرائعي لإمكانيات الفهم والتأويل. وهو قانون تنعدم معه حظوة مجاورة اللامتناهي، الذي تتحرر بفضله الذات من جبروت الحجب، لتحظى بغبطة تفكيك وتجلية ما تيسر من أبعاد «الملتبس» الممعن في تخفيه. ما يدعونا للقول إن الحبسة، هي حالة من العي المطلق، التي تداهم الكائن، لتحول بينه وبين تجاوز مستوى محدود من مستويات تفاعله الفكري أو الشعوري، مع الظواهر التي تتميز عادة بانفلاتها، وغيابها عن مجال التمثل المباشر.
إنها، وتبعا لذلك، ضرب من الاعتراف الضمني، بتوقف إمكانية توسيع دائرة الفهم والتفسير، والإقرار باستمرارية حضور حاجز الغموض والالتباس، الذي يحول بيننا وبين القبض على دلالة الموضوع، الذي نكون بصدد استجلاء ما يكتنفه من غموض.
وغني عن الذكر، أن احتمال حدوث حالة الحبسة رهن بتنوع مصادرها. فثمة الحبسة البصرية، التي تحول دون فك شيفرة ما نسعى إلى رؤيته، إلى جانب الحبسة السمعية، التي تصرفنا عن تبين دلالات ما ينتهي إلى أسماعنا من أصوات، فضلا عن الحبسة اللغوية، التي يحار معها اللسان في ترجمة ما ينتاب الذات من أحوال فكرية ومشاعر روحية. علما أن كلا من مصادرها البصرية والسمعية أو اللغوية، قد يتدخل في اللحظة المناسبة، من أجل تبديد ما تحدثه من انسداد تعبيري. فكما أن تدخل المرئي قد يساهم في رفع غموض دلالة الصوت، فإن البناء اللغوي قد يكون ضروريا من أجل تسليط ما يكفي من الضوء على ما يبدو غامضا في ملامح كل من الصورة والصوت، ما يسمح بتنشيط وتحفيز إواليات التفاعل والتواصل، مع مقومات ومكونات الشيء الغامض، المعني بالفهم والتفسير.
وضمن سياق الحديث عن أهمية دور الكفاية اللغوية في تكسيرها لحاجز الحبسة، ينبغي الإشارة من جديد إلى تلك الاستحالة الكبرى التي تربك عفوية استئناس الكائن بحقائق الوجود، الحريصة دائما على الاحتفاظ بأسرارها، كي تظل طي الكتمان، بانتظار توافر شروط تلك المجاهدة الإبداعية والفكرية، المؤهلة وحدها لإشعارنا بحضور أطياف هذه الحقائق. وهنا تحديدا، يمكن الحديث عن خاصية القرب، التي تشعرك بحالة دنو «الغائب» منك، دون أن تحيط بالحد الأدنى من تفاصيله.
ومن المؤكد، أن نسبة مهمة من النصوص الكبيرة، تستند في تعميق وعينا بشعريتها، إلى أساس اشتغالها بجمالية الغامض، الذي يأخذ شكل «سر/غائب» يحتجب هو أيضا في تضاعيف الغيب «ي». وهو الإطار الذي تندرج فيه إشكاليات محايثة، من قبيل إشكالية اللامرئي الوثيقة الصلة بمقولة اللامتناهي، فضلا عن مقولات ما بعد التخوم، التي تتجاوز بنا حدود ما هو عام ومشترك.
وبالنظر إلى ما يتميز به هذا الإطار من إثارة فكرية، فإنه سيظل باستمرار موضوع مقاربات، يتداخل فيها الصوفي بالفلسفي والشعري، بحثا عن السبل الكفيلة بالكشف عما تيسر منه، إذ من الصعب المجازفة بالحديث عن إدراك الكتابة الشعرية لجوهر الغيبي، مهما استغرقتها الأحوال والإشارات الصوفية، ومهما تعددت السبل الجمالية، أو الفيزيولوجية الموظفة من قبل هذه التجربة، أو تلك.
ولعل أخطر تموضع يمكن أن يمارسه الشعر، هو التموضع المطلق في قلب هذا الغائب، المتميز باستقلالية تكوينه المفارق عن التكوين المادي والملموس للعناصر، سواء كان رهن إشارة الرؤية، أو الرؤيا.
من هذا المنطلق، يعتبر الغيبي بمثابة نداء غامض، يستبد بإنصات الشعراء الكبار، دون أن يكون له موقع خاص يحيل عليه، ودون أن تكون له دلالات محددة نهتدي بها إلى جوهره. علما بأن الاقتناع الأعمى بصدقية ما يتم إسقاطه عليه من توصيفات شعرية ثابتة، هو ما يعجل بمضاعفة تخفيه. بمعنى أن القول يظل باستمرار ضحية وهم إدراك حقيقته، فيما هي محض تكهنات ومقامات تراوح مكانها. وبالتالي، فإن كل مقاربة تتعامل مع مدونة شعرية ما، باعتبارها مستوفية لما يكفي من شروط الكشف عن الغيبي، فهي أيضا مقاربة لا تخرج بدورها عن دائرة الوهم. في حين أن المطلوب، هو التركيز أساسا على الطريق المفضية إلى ذلك الوهم. بمعنى التركيز على صيغة البحث، وعلى المسالك التي اجترحتها هذه الصيغة، وتلك هي الشعرية في أرقى تجلياتها.
إن العمق الفعلي الذي تتميز به القصيدة، ناتج عن استحضارها لجوهر الغيبي، وليس عن ادعائها معرفته، والكشف عن هويته. باعتبار أنه ادعاء يرسخ واقع انتمائها لتجربة الكشف عن المعلوم، بما هو جاهز ومعطى بشكل أو بآخر، حيث لا أثر فيها لأي ظل محتمل من ظلال الغائب.
وإذا كنا مدعوين سلفا، للاقتناع بجدوى تقصي القصيدة لمدارج الغيبي، فلأنه يتيح لها إمكانية ملامسة حدود اللامتناهي، المعبر عنه في الاجتراح اللغوي والمشهدي، لما لم يتم بعد ابتذاله والخوض فيه، أي تلك التجربة التي تنتزع القراءة من حدودها المألوفة والآمنة، كي تستدرجها إلى التخوم اللامفكر فيها. فنحن لا نتملك إلا ما هو رهن رؤيتنا الواضحة، ورهن تجربتنا الحسية. وحالما يغيب الملموس عن دائرة الرؤيا، فإنه يظل مع ذلك خاضعا لاحتمال تملكنا له، بالنظر لقابليته لأن يتحول إلى صورة، تكون في متناول استعادتنا، عبر آلية التذكر والتخييل، حيث يكون الغياب المادي للشيء، محفزا لاستحضاره من جديد، سواء على مستوى التذكر أو التخييل، وطبعا ضمن الشروط الانفعالية والشعورية، التي تتحقق فيها عملية الاستحضار والاستعادة. باعتبار أنه يظل محتفظا بمكوناته المادية، ما يجعله غائبا وحاضرا في الوقت نفسه.
بخلاف الغائب فعليا عن معرفتنا وإدراكنا، بكل شيء فيه وعن كل شيء منا، والذي لن يكون ممكنا امتلاك شكل محتمل له يسمح لنا بتأطيره ماديا ورمزيا، سواء على مستوى التذكر أو التخييل.
وتلك هي المكابدة التي تعيش الكتابة أطوارها الدائمة الصعبة والجارحة في آن. أي مكابدة تجسيم ذات أو فكرة مجردة، تقع خارج طائلة التأطير المادي. كما هو الشأن بالنسبة لهاجس تجسيم القيم والأحوال الشعورية والفكرية، فضلا عن هاجس تشخيص كل ما يؤجج نار التساؤل المعرفي. ما يعني أن تجسيد اللامرئي/الغيبي، هو الصيغة التي يحاول الشعر من خلالها، ملء تلك البياضات القاهرة، التي تستبد بتلك الجهة المتوارية من الجسد الأسطوري الذي هو جسد الوجود.
ولعل أخطر تموضع يمكن أن يمارسه الشعر، هو التموضع المطلق في قلب هذا الغائب، المتميز باستقلالية تكوينه المفارق عن التكوين المادي والملموس للعناصر، سواء كان رهن إشارة الرؤية، أو الرؤيا.