حاوره: إدريس سالم
يطرح
مازن عرفة في روايتيه «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية» أسئلة إنسانية وجودية
عميقة؛ عن الحرب والموت، التهجير القسري والمنفى، الغربة الداخلية والعزلة النفسية،
مرارة الذكريات عن بلاد مدمّرة والحنين لحياة اختفت، يكاد أن يتحوّل إلى نوستالجيا
مرضية. هي أسئلة عن معنى الكينونة الإنسانية، في عوالم الحروب العبثية الوحشية
المستمرّة في مجتمعاتنا، بارتباطها بعوالم الجنون والضياع، التي تميّز عالمنا
المعاصر. ولأن الأسئلة تمسّ الإنسان في كينونته ومعنى وجوده، سرعان ما تنفلت من إطار
محلّيتها، فيما يُسمّى بـ «الحكاية السورية»، لتغدو عالمية بآفاق أوسع في إطار «الحكاية
الإنسانية»، حيث تنكسر حواجز الزمان والمكان، فترتبط بوضوح بوجود الإنسان، أينما
كان.
من
خلال أجواء هذه الأسئلة المطروحة، التي يعيشها المؤلّف هو نفسه، ترتسم نصوص
هذيانية، مبهمة غامضة، بقدر تعقيدات العوالم التي يعيشها السوري، سواء في منفاه
الخارجي أو الداخلي. وإذا ما حاولنا تفكيك شيفرة بعضها، فقد نستشفّ بعضاً من رؤى الانشطارات
النفسية والروحية في الذات والكينونة له، سواء في إطار وجوده في بيئة مجتمعات
شرقية، مدمّرة بأمراض أحلام اليقظة العُصابية، في العودة إلى نرجسية الماضي، أو في
تموضعه ضمن العلاقات المعقّدة بين عوالم الشرق والغرب، بفعل التهجير القسري، الذي
يعانيه باستمرار.
يؤطّر
عرفة هذه الأسئلة جميعها برؤى منظومة فكرية. فلسفية، يجد نفسه بها تعبيرياً عبر سردية
أدبية، ينحاز فيها دائماً وأبداً إلى الإنسان الضحية، الإنسان المعذّب المتألّم،
بفعل الاستبداد والطغيان والتهجير القسري عن موطنه. يُحمّلهما على ما يعيشه هذا
الإنسان من اغتراب نفسي وروحي، تتبدى عبر هلوسات كابوسية وهذيانات مرضية وتمزّقات
نفسية، تتجاوز الحالات الإنسانية «الفردية» إلى الحالات المجتمعية «الجمعية». وهي
بالمحصّلة نتاجات عالمنا المعاصر، المميّز بتعقيداته المتوحّشة الهذيانية على
المستويات جميعها.
يطرح عرفة في سردياته الروائية قضايا إنسانية شائكة ومعقّدة، ويوظّفها في محاولة فهم تأثير دمار جنون الحروب على الإنسان، ومدى تأثير خطاباتها العبثية على إثارة الغرائز البشرية البدائية المتوحّشة في سفك الدماء. ينقب هنا في أخطر الأماكن وأكثرها عمقاً وجنوناً، التي لا تقودنا إلا إلى أجوبة مبهمة غامضة، تترجرج بين الواقع المدرك، واللاواقع الكامن في اللاوعي، بين الذاتي الممزّق والاجتماعي المشوّه. (إدريس سالم).
وأمام
هذه التعقيدات، يلجأ عرفة إلى المقاربة بأدوات غير تقليدية في السرديات الروائية؛
يتّجه إلى عوالم الواقعية السحرية، والسُّريالية، والكوميديا السوداء، وعوالمه
الهذيانية الخاصّة بتقنيته الروائية، التي يبتكرها بتجربته «ما بعد الحداثية»، الخاصّة به. يعمل على فهم
تحوّلات الإنسان في عوالم الموت والتمزّق المحيطة بنا، في محاولة فهم ما يحدث لنا
وحولنا، على أمل إيجاد معنى إنساني أفضل لوجودنا.
«الغابة
السوداء» تعكس واقعية سحرية مأساوية عدمية، فيما تميّزت «داريا الحكاية» بالهلوسات
والكوابيس والاستيهامات واللامعقولية.
وللحديث
أكثر عن ذلك، كان لموقع «سبا» الثقافي هذا اللقاء، وهذا الحوار، بجزئه الأوّل:
السؤال الأوّل: كلّ مَن يقرأ «الغابة
السوداء» أو «داريا الحكاية» سيشعر بأنك كتبت سيرته الذاتية، بطريقة تخييلية
وواقعية معاً. كيف نجحت في ذلك، واستطعت أن تكتب مكان كلّ إنسان سوري مدمّر حالم
بأن يكون روائياً وراوياً لحكايته أو حكاية غيره؟
منذ بداية مراهقتي، وأنا أكتب المذكّرات شبه اليومية، كنوع من المواجهة
مع الذات الضائعة باستمرار، ومع العالم الخارجي المعقّد حولنا، في محاولة فهمهما. حدث
هذا في إطار التساؤلات الأساسية عن معنى وجودنا الإنساني (من أين؟ وكيف؟ ولماذا؟
وإلى أين؟). وما زالت الكتابة تتطوّر في هذا المنحى، سواء في كتابيّ الفكريين، أو
في مشروعي الروائي، الذي وصل حتى الآن إلى روايات سبع.
«تهرب الأديان من مواجهة الذات والواقع، وتنكر الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان. كلّ ما تفعله هو تشكيل شرنقة غيبية لمريديها، تسكب على العقل ستاراً من الحتمية والقدرية، لا دور للإنسان فيها سوى الاستكانة». (مازن عرفة).
لم تستطع الأديان، وهي أول ما يواجهنا في مجتمعاتنا الشرقية منذ طفولتنا، تقديم أيّ إجابة على هذه الأسئلة، سوى الهروب من مواجهة الذات والواقع، وإنكار الأزمة الوجودية التي نعيشها. كلّ ما تفعله هو تشكيل شرنقة غيبية لمريديها، تسكب على العقل ستاراً من الحتمية والقدرية، لا دور للإنسان فيها سوى الاستكانة. وهي لا تكتفي بذلك، بل وتجرّد هؤلاء المريدين من إنسانيتهم بجرّهم إلى توحّش التعصّب الديني الأعمى وعنفه الدموي. وفي النهاية لا تقدّم أيّ جواب سوى المزيد من التقوقع العُصابي، ورفض الآخر بسفك دمائه.
في مرحلة تالية متقدّمة في الوعي، بدأت تتطوّر التساؤلات في الكتابات
اليومية إلى تجاوز «الوطأة الدينية»، المرتبطة بعبادة «إله غيبي»، خلقناه نحن
أنفسنا بالاستيهام، إلى «الوطأة الديكتاتورية»، المرتكزة في مجتمعاتنا الشرقية على
«عبادة الفرد»، كمزيج تركيبي من «الستالينية»، و«الاستبداد الشرقي» معاً، وهو ما
لا نجده في مجتمعات أخرى.
وسرعان ما أخذت تتوضّح لي إن فكرة «عبادة الإله» بطقوس قطعانه من رجال
الدين، وفكرة «عبادة الفرد»، بطقوس قطعانه من العسكر، ليستا إلا وَجْهَي العملة الواحدة
للاستبداد في مجتمعاتنا الشرقية، القائمة في جوهرها على «العنف اليومي». وهو ما
رفعناه إلى درجة «القداسة»، بتوهّمات عُصابيتنا المرضية، في مجتمعات تتخبّط في
الغيبية والتخلّف. وهذا ما جعل التساؤلات الوجودية الأولى لدي أكثر حدّة في مجابهة
الواقع.
في الثورات العربية، أخذتِ الأسئلة الوجودية، تتحوّل إلى شكل أكثر مواجهة ومباشرة مع تحدّيات الواقع الجديد، مبتعدة عن ترفها الفكري الثقافي. (مازن عرفة).
لكن مع انفجار «الثورة السورية»، في «إطار الربيع العربي»، أخذتِ الأسئلة
الوجودية تتحوّل إلى شكل أكثر مواجهة ومباشرة مع تحدّيات الواقع الجديد، مبتعدة عن
ترفها الفكري الثقافي الأولي. إذ سرعان ما تمّ مواجهة الأحداث السلمية في بدايات
الثورة بعنف وحشي منظّم من قبل النظام الديكتاتوري العسكري، لتلحقه التنظيمات
الإسلامية القادمة من مخلّفات القرون البائدة في عملية قمعها، وإن كان من الجانب
المعاكس له، فتتحوّل البلاد كلّها إلى ساحة لسفك الدماء، وئّدَتِ الثورة السلمية
وطموحاتها الإنسانية الديمقراطية في مهدها.
احتلّ العسكر البناية التي أعيش فيها، فهربتْ أسرتي والسكّان المدنيين
منها، وبقيت أنا فيها متحدّياً، بارتباط روحي بمكتبتي التي أجمعها منذ طفولتي. لكن
سرعان أن تحوّلتِ البناية، ليس فقط إلى موقع عسكري محصّن، بل وأيضاً إلى مركز
اعتقال أولي، يجري فيه التعذيب بوحشية، قبل النقل إلى المعتقلات الدائمة. عشت
عندئذ في سجن سُريالي، تخلّلته المداهمات المستمرّة لشقّتي والتحقيق معي. لكن تركني
العسكر أعيش فيها، مشكّلاً بظنّهم «درعاً بشرياً» في وجه إمكانية قيام «المنتفضين»
بالهجوم على البناية.
حدث ذلك في ظلّ انتشار ميليشيات النظام الديكتاتوري والميليشيات الشيعية
والقوّات الروسية في بلدتي، ومعهما كانت تتمّ الاعتقالات اليومية العشوائية
للمواطنين بظروف مهينة، بعض منها ينتهي بتصفية مباشرة، فيما يتردّد حول البلدة صدى
أصوات البراميل المتفجّرة، تُلقى على المناطق المتمرّدة المجاورة. وكثيراً ما كنت
أستيقظ صباحاً وأجد جثثاً في الشوارع، أو على الطرقات، في مناطق خطوط التماس مع «المنتفضين»،
بعضها يُترك أيّاماً، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها.
في هذه الأجواء الكابوسية، تحوّلتِ الكتابة اليومية لدي إلى نوع من حالة
دفاعية نفسية صامتة، في ظلّ الحصار اليومي، تقاوم الجنون الدموي حولي، وبها استطعت
الاستمرار في الحياة. ساعدتني على النجاة، كفعل مقاومة، وإن كان سلبياً، بغضّ
النظر عن استغلال نصوصي فيما بعد في أرضية توثيقية لفانتازيا رواياتي القادمة. وليبرز
عندها السؤال الأكبر بين الأسئلة الوجودية (لماذا؟).
في اليوم الأخير من هروبي الغرائبي من البلاد، وأنا غير مصدّق نجاتي من
الاعتقال والموت (هل هو الحذر أم المصادفة، أم كليهما معاً؟)، أحرقتُ أكداساً من
مذكّراتي الشخصية، التي كنت أسجّلها منذ مراهقتي، أيّ منذ أكثر من أربعين عاماً،
موثّقاً فيها حياتي وتساؤلاتي الوجودية. كنت قد استفدت من بعض هذه الأوراق في
روايتي الأولى «وصايا الغبار»، التي صدرت وقتها في سوريا عام 2011م، بطريقة
إشكالية. لكن سيدهشني فيما بعد اختزان ذاكرتي لكتاباتي بطريقة أذهلتني أنا نفسي، وخاصّة
بقدرتي على استرجاعها في كتابة مشروعي الروائي.
وعبر الأمان والاحترام الإنساني الذي قدّمه لي بلد حضاري مثل ألمانيا، وهو
ما افتقدته طوال عمري في بلدي،ـ وجدت أنني قد نشرت حتى الآن ستّ روايات، والسابعة
ستصدر قريباً، وأنا غير مصدّق، أنني في هذا العمر المتقدّم، حيث بدأت كتابة
الرواية في الخمسينيات من عمري، قد فجّرت فيها كلّ مخزون تجاربي الشعورية
الإنسانية المتراكمة في الذاكرة والروح، إلى جانب التجارب اليومية المُعاشة الآن
باستمرار.
السؤال الثاني: هل يعني هذا أن مشروعك الروائي يمثّل بشكل ما مسيرة حياتك،
عبر مراحل متتالية محدّدة عشتها؟
عندما أرجع إلى مسيرة حياتي، منذ منتصف ستّينيات القرن الماضي وحتى الآن،
التي وثّقتها بفانتازيا رواياتي، أجد أنها لا تمثّلني فقط، بل وتعبّر عن مراحل عاش
تحت وطأتها أفراد مجتمعاتنا السورية، بتنوّعات الأفراد والمجموعات الثقافية فيها.
ويمكن إجمال الجانب السلبي فيها بما يلي:
«النظام الديكتاتوري العسكري»، وسعيه إلى عسكرة البلاد والحياة اليومية والاجتماعية والثقافية والعقول
والأرواح، برمزية «البوط العسكري».
«الهجمات الإسلاموية»
المستمرّة على مجتمعاتنا، بكافّة أشكالها الشعبوية والتنظيمية، بدءاً من حركات «الإخوان
المسلمين»، وصولاً إلى «الوهّابية السلفية الصحراوية»، المتجدّدة حالياً، ومحاولاتها
جميعها «أسلمة البلاد» بكلّ تفاصيل الحياة العامّة واليومية، برمزية «السيف
الإسلامي».
«الثورة السورية»
والتطوّرات، التي حلّت بها من السلمية إلى العنف المجنون المترافق بنموّ النزعات
المتطرّفة؛ الدينية والطائفية والعرقية والعشائرية والعائلية، من كافّة أشكال «ما
قبل الحداثة»، التي ناضلنا سابقاً كثيراً للخروج منها، على الرغم من سقوط النظام
الديكتاتوري الوحشي.
«تجربة المنفى الخارجي»
القسرية ضمن محاولات التغيير الديموغرافي للبلاد، بالترافق مع «المنفى الداخلي»،
الذي يرافقنا باستمرار في حياتنا اليومية.
السردية الروائية هي الأقدر على التعبير عن أهوال حياتنا، المترافقة دائماً بالعنف والدم، والقهر والإذلال. (مازن عرفة).
لكن بعد كتابين فكريين، قرّرت اللجوء إلى الشكل الروائي؛ للتعبير عن ذاتي ومسيرة حياتي، بالارتباط مع هذه الجوانب السلبية. ورأيت أن السردية الروائية هي الأقدر على التعبير عن أهوال حياتنا، المترافقة دائماً بالعنف والدم، والقهر والإذلال. وكان الجانب الشعوري الشخصي الطاغي على رؤيتي للأحداث يمثّل بطريقة ما مشاعر الأفراد الذي عاشوا وما زالوا يعيشون هذه الجوانب، فغدت تجربتي الفردية المُعاشة ببساطة تجربة روائية «جمعية». وبسبب هذا التعبير الشعوري، وبالارتباط مع هذه العلاقة بين «الأنا الفردية» و«الأنا الجمعية»، فإن الكثير من الأفراد وجدوا أنفسهم، في خضم سرديات رواياتي، رواة للأحداث، وفي الوقت نفسه شخصيات تُروى عنها الأحداث. إنها «الحكاية السورية» باغتراب الإنسان في بلده، لكن أيضاً بأحلامه وآماله من أجل بناء كرامة إنسانية.
وبهذا فليس فقط «الغابة السوداء»، و«داريا الحكاية»، بل كلّ مشروعي
الروائي هو تاريخ فانتازي لحياة الإنسان السوري، الذي ينتظم كما يلي:
«وصايا الغبار»: (المقصود هنا غبار الصحراء الوهّابية الوحشية، التي وصلت إلينا في نهاية
القرن الماضي). والرواية تؤرّخ فانتازياً للنصف الثاني من القرن العشرين، حيث شكّلت
«الديكتاتورية العسكرية» و«السلفية الوهّابية» في سورية وَجهَي عملة استبداد واحدة.
«سريرعلى الجبهة»: (عن احتلال العسكر للبناية التي كنت أسكنها، وتحويلها إلى
موقع عسكري ومركز اعتقال، فغدت رمزاً لكلّ البلاد المُعسكرة). وتُبرز هذه الرواية
بأقصى درجات السُّريالية وحشية النظام الديكتاتوري العسكري ما بعد قيام الثورة السورية.
«الغابة السوداء»: (وهو اسم المنطقة التي أقيم بها في ألمانيا). وترمز إلى
الظلمة التي ترافق روح الإنسان السوري، أينما يحلّ؛ بسبب الاغتراب الروحي الذي
يعيشه، حتى في المهجر، وكيف تخفّف سردية «الحكاية» من ظلمتها، بل وتحوّلها إلى
غابة منيرة في داخله.
«داريا الحكاية»: (داريا هي نموذج لإحدى البلدات السورية المدمّرة بالكامل
بالبراميل المتفجّرة، والتغيير الديموغرافي). والرواية هي إعادة إحياء هويتها
الأصيلة، ثقافياً وأنثروبولوجياً، عبر «حكايات» يرويها ضحايا النظام الديكتاتوري.
«ترانيم التخوم»: (هي التخوم المتلجلجة غير المرئية، بين الواقع الفعلي المُعاش
وعوالم المحاكاة الافتراضية). وتعبّر عن أزمة ضياع المُهجّر السوري قسرياً في بلاد
الغرب، تحت تأثير صدمة الحرب والتهجير، من جهة أولى، ومن ثم صعوبات الاندماج في
مجتمع غربي، من جهة أخرى، والذي وإن كان متقدّم حضارياً، ويحترم حقوق الإنسان، إلا
أنه بارد عاطفياً، يفتقد الحميمية الشرقية بالنسبة له.
«نزوة
الظلال والاحتمالات»: (ستصدر قريباً). وهي محاولة لتلمّس أجوبة وجودية
عن أسباب العنف والموت المجّاني العبثي، الممارس من قبل أيّ مستبدّ ديني عسكري،
عابر للأزمنة والأمكنة و«الحكايات».
السؤال الثالث: كيف استطعت الدمج تقنياً في رواياتك بين «الأنا الفردية» و«الأنا
الجمعية»، كانعكاس لمسيرة مراحل أحاطت بالمجتمعات السورية، منذ منتصف القرن
الماضي، وما زالت مستمرّة حتى الآن، بحيث يشعر كلّ إنسان سوري مدمّر وممزّق بأنه
يروي حكايته الشخصية عبرها؟
تتحدّث رواياتي جميعها بضمير المتكلّم. «الأنا الفردية»، التي هي في الوقت
نفسه «الأنا الجمعية» السورية، ومن ثم «الأنا الإنسانية» بالمعنى الشامل. راوي
ضمير المتكلّم هو الأقدر على الغوص في عمق المشاعر الإنسانية للفرد في إطار الجماعة،
والتعبير عن معاناته في ظلّ الانتهاكات اليومية لحقوقه الأولية، وصولاً إلى
اعتقاله المجّاني، وحتمية تصفيته عندئذ، ومن ثم اختفاء جثّته في إحدى المقابر الجماعية،
دون اسم أو مكان.
راوي ضمير المتكلّم هو الأقدر على الغوص في عمق المشاعر الإنسانية. (مازن عرفة).
كلّ هذه «الأناوات» (الفردية والجمعية والإنسانية) هي انعكاس لما أعيشه
أنا، كجزء من الحوادث اليومية. تتحرّك شخصية ضمير المتكلّم في سيرورة الرواية بقلق
مستمرّ، حيث لا يعرف راويها، الذي هو أنا نفسي، ماذا تخبّئ له الأيّام القادمة، حيث
تكمن احتمالات الجنون والانفجار، وصولاً إلى الموت الوحشي العبثي. أعيش يومي
المأساوي، وأنا بذاتي لا أعرف ما الذي ينتظرني غداً، في عالم مضطرب مجنون، يحيط
بي.
وبما أني أكتب رواياتي باستمرار كانعكاس لحياتي اليومية، فأنا لا أعرف بالضبط
سير الأحداث فيها، وبالتالي نهاياتها، لا أستطيع التحكّم بها، لأنني لا عرف ما هو
القادم في غدي. لذلك، تكثر الكوابيس والهلوسات والانفصال عن الواقع، كتعبير عن
الخوف العميق في داخلي من اللامتوقع القادم. وهو ما يجعل رواياتي مفتوحة، ضمن
سلسلة متتالية من اللامعقول المأساوي، وهو ما يمثّل عملياً حياة السوري الممزّق في
حياته اليومية، فيجد نفسه فيها.
أتذكّر عندما حدث الاجتياح الأول لجيش النظام الديكتاتوري وميليشياته
الطائفية لبلدتي، بعد اندلاع المظاهرات السلمية فيها عام 2011م، كيف وقفت بشكل
مجنون على شرفة شقّتي في الطابق الثالث، أراقب البلدة التي اختفى سكّانها فجأة.
كانت أوراقي البيضاء أمامي، وأسجّل ما أشاهده يحدث أمامي . كتبت وقتها «كأن الإله
خلق المدينة، ونسي خلق أناسها». ثم بدأ القصف وإطلاق الرصاص في أطراف البلدة، ودخلتِ
الدبّابة الأولى إلى ساحتها، حيث تقع البناية التي أسكن فيها، من أجل الاستطلاع.
وما إن اكتشف الراصد في برجها وجودي على شرفة شقّتي، حتى وجّه مدفع الدبّابة نحوها.
تلبّسني وقتها شعور بليد باللامبالاة، والانفصال عن الزمان والمكان، دون إحساس
بخطر إمكانية رمي قذيفة باتّجاهي. لم أعرف ماذا أفعل سوى البقاء واقفاً مثل تمثال،
والعرق يتصبّب مني غزيراً، ودون التفكير بالارتماء داخل شقّتي هارباً. يبدو أن
رامي الدبّابة توقف محتاراً ماذا يفعل أمام بلادة وقوفي، مكتشفاً أنني لا أشكل خطّراً،
فتحوّل المدفع عني بعد لحظات ترقّب، فأسجّل مباشرة بسخرية «يبدو أن العين المعدنية
اكتشفت أنني لست أميراً صحراوياً في إمارة إسلامية، يقود جيوشه المؤمنة من على
الشرفة، ولا ألوّح بسيف، أو بلطة، أو ساطور...» (الغرانيق ص 318). ثم استمررت
بتسجيل كلّ ما أشاهده من تفاصيل المداهمة أمامي، التي وصلت بالطبع إلى بنايتي،
بتحطيم أبواب البيوت، والاعتقال العشوائي لمَن تواجد فيها. يومها نجوت بأعجوبة، إذ
لم يدلِ المُخبر الملثّم على شقّتي، يبدو أنه لم يلمحني في مظاهرة ما، أو ربما تركني
مصادفة، أمام كثافة الاعتقالات وقتها... عندما أراجع ما حدث لي يومها، أفهم كم كنت
مجنوناً، مغامراً بحياتي، لكن ما سجّلته لحظتها، شكّل أحد الفصول الحيّة والقوية في
رواية «الغرانيق».
كأن الإله خلق المدينة، ونسي خلق أناسها. (مازن عرفة).
أقدّم هذا المثال، كنموذج لانعكاس الوقائع اليومية في رواياتي. يسجّل بطل
الرواية، الذي هو أنا، ما يعيشه في لحظة، دون توقّع ماذا سيحدث تالياً، لأنني
حقيقة لا أعرف. كان من الممكن أن تُقصف الشرفة وأصاب، وكان من الممكن أن يتم
اعتقالي ولا أرجع إلى البيت، لكني كنت أشعر أنني أعيش كابوساً حقيقياً. ضمير
المتكلّم «أنا» ليس ابتكار شخصي في رواياتي، بل هو أنا الذي يعيش الحدث، دون معرفة
سيرورته ونهايته. والسوري القارئ لهذه الرواية هو نفسه يعيش يومياً تجارب القلق
والخوف واحتمالات التصفية هذه، فيجد نفسه في هذه الشخصية، وكأن أحداً يروي له حكايتي؛
حكايته؛ حكايتنا، بل يبدو أنه هو مَن يرويها.
الروائي العالِم، يبدو مثل إله شامل، عارف بالأمور، يتدخّل في بناء الشخصيات، دون أن يترك الحرّية لتحرّكها، إلا بما يرسمه لها. (مازن عرفة).
بالعكس من الراوي بضمير المتكلم «الأنا»، فإن «الروائي العالم» يبدو مثل
إله شامل، عارف بالأمور، يتدخّل في بناء الشخصيات، دون أن يترك الحرّية لتحرّكها
إلا بما يرسمه لها. كأن الأحداث مرتبطة بقدر من الحتمية والقدرية تُسيّر حياة
الشخصيات، تخفيها براعة المؤلّف في التخييل وتمثيله نصّاً. لذا لا أستخدمه أبداً
في جميع نصوصي.
في الوقت نفسه، لا أتلبّس فقط
الشخصيات الإيجابية الحالمة بحياة أفضل فقط، بل وأيضاً القلقة والمضطربة، وأحياناً
الشريرة، وهو ما أعيشه أنا حقّاً، حسب المواقف والظروف التي تحيط بي، ويعيشها معي
أيّ فرد، الذي هو نتاج البنى الاجتماعية والظروف المتشابهة نفسها. وجميعها تمثّل
عند تسجيلها لحظات صدق مع الذات ومع الحدث، دون رتوش البطولات الاستيهامية،
والمعايير الأخلاقية المفترضة.
بل إن تعدّد الشخصيات في الرواية الواحدة لدي هي دائماً صدى لتمزّقات «الأنا
الفردية». هي تعبّر عن الشروخ النفسية الانفصامية المتعدّدة، التي يعيشها الفرد،
أيّ كان، في مجتمع مضطرب ممزّق، تحت سلطة أنظمة قمعية، تعتبر أن الأفراد هم
أعداءها.
![]() |
موفق قات |
السؤال الرابع: كيف توصّلت إلى فكرة نمطية الفرد في مجتمعاتنا ضمن رؤية «بنية
جمعية» واحدة كفعل؟
على الرغم من التمايزات والفوارق الإنسانية الهائلة للأفراد في
مجتمعاتنا، بالارتباط مع غنى التنوّعات الحياتية الثقافية والأنثربولوجية فيها،
إلا أنهم في المحصّلة هم نتاج بنى اجتماعية مستبدّة قمعية واحدة، بأشكال متشابكة
يعيشون تحت وطأتها بشكل يومي، بل ويتماهون معها:
-
«العسكرة»، وهذه لم تسقط مع انهيار النظام الديكتاتوري السابق، بل مستمرّة
في طريقة تفكيرنا المتوارثة، حيث الحلّ العنفي يتجاوز القانون المفتقد أصلاً.
-
«الدعوة الدينية اليومية لـ «العنف الجهادي»، كجزء من الطقوس الدينية، ويتم
الدعوة له في المساجد ووسائل الإعلام، وبدءاً من مراحل الطفولة الأولى.
-
«الاستبداد الشرقي» المتأصّل في بنيتنا الفكرية الثقافية، في أشكاله
البطريركية المختلفة، بدءاً من أبسط أشكاله الذي تمارسه العائلة (الأب والأمّ
أيضاً) على أطفالها.
- «العنف الترييفي» و«العنف العشائري»، مقابل «الخبث التجاري المديني»،
وهو ما يشكّل في مجتمعاتنا أساس «العسكرة»، و«التجمّعات الميليشياوية»، أيّ أساس
العنف.
-
عقلية البداوة، القائمة على «الغزو والسبي والغنائم»، وما يقابلها حالياً
«ثقافة التعفيش».
تشكّل جميع هذه الأشكال القمعية، بتنوّع نماذجها، نمطية معيّنة، يعيش
الأفراد تحت وطأتها، بغضّ النظر عن تمايزاتهم الشخصية. لهذا فإن «الأنا/ الفردية»
هي «الأنا/ الجمعية» نفسها، أو بالأحرى انعكاس لها عبر الفعل الاجتماعي.
تظهر هذه النمطيات بشكل خاصّ، فيتبادل الفرد نفسه لعب دوريّ «الضحية» و«الجلّاد»،
حسب الظروف التي يقع فيها. ومن ثم ما يرتبط بها من مفاهيم «الثأر الشخصي/ الجمعي»
العبثي، ليست فقط في أشكاله العائلية والعشائرية، بل والدينية والطائفية والأثنية،
في مجتمعات منفلتة من القوانين والتشريعات، سوى تلك التي تخدم السلطات القمعية.
تظهر هذه النمطية عبر ممارسات نموذجية، نحن جميعاً نتاجات اجتماعية
تاريخية لها:
-
مفهوم «الأب البطريركي» في مجتمعاتنا، الذي تتمّ ممارسته بدءاً من الزعيم
الكبير المؤلّه إلى أصغر فرد بائس في المجتمع.
حاجة
الأفراد دائماً إلى «زعيم/ إله»، يقدّسونه، ويسيرون وراءه كالقطيع.
-
الانفعالية المزاجية الشرقية، والميل السريع إلى العنف اليومي، بمجرّد أيّ
تحريض فردي أو جمعي، باسم «المقدّس».
-
النظر إلى «دونية المرأة»، وربط شرف العائلة الشرقية بغشاء البكارة، في
مجتمع يقونن إلهياً زواج الرجل بأربعة إنسان (إلى جانب الاستمتاع بما ملكت الإيمان،
بقدر الثروة التي يمتلكها الرجل البطريركي).
-
سيطرة الفكر الديني الغيبي القائم على الخرافات، العاجز بالكامل أمام
العلم، واكتشافاته، وأشهر هذه الغيبيات «دار النعيم البورنوغرافية»، بحوريات
استيهامات الرجل البطريركي، و«دار التعذيب السادية»، كنتاج أمراض عُصابية، تتأصّل
جذورها في عنف «الاستبداد الشرقي» و«البداوة».
ومَن يحاول الفرار من ثنائية «الضحية/ الجلّاد»، ومَن يحلم بحياة إنسانية
عادلة، تنتظره قوانين عنف «البداوة» و«التكفير»، وصولاً إلى القضاء على أيّ
استقلالية للحياة الفردية/ الجمعية، بالتي تصل إلى مسح الهوية الإنسانية لها، وكلّ
الميراث الثقافي ـ التاريخي الذي يميّزها. والسيئ في حياتنا أننا نحن بالذات نشارك
كأدوات في وَئد أحلامنا، مثل المرأة التي تخضع للقوانين الدينية المهينة لكرامتها،
بل وتشكّل أداة على تطبيقها.
السؤال الخامس: وقد يلتمس أو يتّخذ الإنسان الممزّق والمتشظّي في رواياتك
وعوالمك الكابوسية من حكاياتك أداة شفاء نفسي. هل تعتقد أن الأدب قادر على عكس
الظلام داخل النفس الإنسانية؟ والأدب أيشفي الإنسان من آلامه؟ وبمعنى أدقّ وأعمق هل
ترى أن قراءة أعمالك، تشكّل نوعاً من العلاج النفسي للقارئ، حيث يتحوّل من تجربة
المحنة والصدمة، التي خلّفتها الحرب إلى منحة وهبة للحياة، وأمان داخلي رغم الألم؟
لا تتعلّق الإجابة على هذه الأسئلة بالخلاص
الفردي المباشر، بل بالخلاص الإنساني الروحي العميق، سواء على المستوى الفردي أو
الجماعي، وكيف؟ لأبدأ بهذه الحادثة مع
طفلي:
«منذ زمن بعيد، سألني طفلي الصغير، ذو
الأعوام الأربعة، وهو يتأمّل السماء: «إذا كان الله موجوداً في السماء، فلماذا لا
يقع على الأرض؟». سألني هذا السؤال بعفوية وبساطة سؤاله نفسها، عندما كنّا نسير في
الشارع ظهراً، وصوت المغنّية «فيروز» يصدح من مذياع أحد الحوانيت: لماذا تغنّي
الآن فيروز، والوقت ليس صباحاً؟» (ترانيم التخوم).
هكذا، يولد الإنسان،
طفلاً بسيطاً بريئاً، يتساءل عن معنى الحياة بجرأة، دون خوف من
أيّ سلطة قمعية.
لكن مع الزمن، يفقد هذا الطفل براءته شيئاً فشيئاً، وهو يتقدّم في مدارج الحياة، بسبب
المحرّمات التي تفرضها عليه منظومات الدين والتقاليد والسلطة السياسية. تصبح
ثلاثية «الدين والسياسة والجنس» من المحرّمات الشرقية في مجتمعاتنا المتخلّفة،
التي تراقبها، ليس فقط السلطات الدينية والاجتماعية والسياسية، بل ورجل الدين والمخبر
السياسي، المزروعين داخل كلّ فرد منّا. وأنا أتساءل في رواياتي، كيف يمكن العودة
إلى براءة الأسئلة الطفولية الأولى، دون خوف من أيّ سلطة أو ميراث قمعي؟
تستهويني
فكرة الظلمة المزروعة في ذواتنا، بعد فقدان البراءة الطفولية الأولى، منذ أن قرأت
في بداية شبابي رواية «قلب الظلام» الشهيرة، للروائي الإنكليزي ذي الأصول
البولونية «جوزيف كونراد». كان قد كتبها في نهاية القرن التاسع عشر، في مراحل
التغلغل الاستعماري الأوروبي في قلب أفريقيا لاستغلال ثرواتها. لم تكن الظلمة
(الشريرة) موجودة في مجاهل الأدغال الأفريقية، وإنما في قلب المستعمر الأوروبي
الغازي القادم إليها باسم نشر التحضّر، والذي نظر إلى شعوبها بدونية واحتقار، ومارس
عليها أقسى شروط الاستغلال البشع. «الظلمة» و«الظلام» هما الشرّ داخل الإنسان الذي
يحمل الخراب معه أينما يحلّ.
«إذا كان الله موجوداً في السماء، فلماذا لا يقع على الأرض؟». (ترانيم التخوم).
سينقل المخرج
الأمريكي فرانسيس كوبولا رواية «قلب الظلام» وبالأفكار نفسها إلى عالم الحرب
الأمريكية الوحشية ضد فيتنام. وتحلّ هنا مجاهل الأدغال الكمبودية بدل الأدغال
الأفريقية. ومن جديد تنتقل الظلمة مع الإنسان ـ الإله الشرير إليها، وبالرؤى
نفسها.
مع الزمن تتطوّر
لديّ فكرة إن المجموعات البشرية الأصلية، في مختلف بقاع العالم، تحمل البراءة في
داخلها؛ في ثقافاتها الأنثروبولوجية، وأساطيرها المتآلفة مع براءة الطبيعة، وطقوس
ممارساتها اليومية، تعيش في دواخلها مثل «غابة عذراء». لكن عندما يحضر الإنسان
الغازي المتوحّش، باسم التحضّر أو نشر الأخلاق أو الدين، فهو الذي يحمل الظلمة
الشريرة معه في داخله، وينشرها بالعنف أينما يحلّ. وما ينطبق على الأفراد هنا، يجد
مثيله في المجتمعات أيضاً.
هكذا، أتخيّل
براءة الإنسان وصفاءه في مجتمعاتنا الشرقية التي تولد معه، في أغانيه وأفراحه
وتفاصيل حياته اليومية البسيطة. لكنها سرعان ما تتحوّل في داخله إلى غابة مظلمة،
مليئة بالخوف والكوابيس، بفعل المحرّمات المفروضة عليه بالعنف، باسم قوى غازية
شريرة مدمّرة، من خارج بساطة بيئته، سواء كانت هي قوى دينية أو اجتماعية أو
سياسية. تنمو هذه الظلمة في داخله وتُعرش في روحه، بطريقة تجعله خائفاً مهزوماً،
لا يجرؤ على طرح أسئلته الإنسانية الطبيعية. وسرعان ما تتغلغل هذه الظلمة إلى
لاوعيه، فيغدو إنساناً مكسوراً مدمّراً. يغدو عندئذ عنفه المرضي، الموجّه ظاهرياً
ضدّ «الآخر»، هروب من مواجهة ذاته المريضة، المختنقة بالظلمة.
وصلت إلى ألمانيا
مهجّراً قسرياً، وأقطن الآن في مدينة تقع في منطقة «الغابة السوداء». وبمجرّد
سماعي كلمة «السوداء» تواردت إلى ذهني حكايات عن امتلاء هذه الغابة بالحيوانات
المفترسة، مثل الذئاب والدببة، وأنها تذخر بأساطير كائنات شريرة، تجعل الإنسان ينفر
من ارتيادها، حتى في النهار، ولهذا هي سوداء، أيّ شريرة. وسرعان ما ربطت هذه
الفكرة بالظلمة داخلي، وداخل كلّ سوري، التي يحملها أينما يتحرّك، خاصّة تلك المتعلّقة
بكوابيس المجازر والجثث ودمار الحياة في سوريا.
عندما تحدّثت
عن انطباعاتي إلى أصدقاء ألمان، ضحكوا من أفكار الكوابيس التي تلاحقني في الصحو
والمنام، وتفسيري للحوادث حولي عبرها. وأشاروا إلى أن كلمة «السوداء» تعني ببساطة
انتشار الظلال الكثيفة في الغابة؛ بسبب غطاء الأشجار العالية فيها، التي بالكاد
تسمح بمرور أشعة الشمس عبرها. وأعلموني أنه يعيش في هذه الغابة الشاسعة عدد كبير
متنوّع من الحيوانات البرّية الأليفة، وهي مليئة بالمتنزّهين، بل وتنتشر فيها
أيضاً مدن وبلدات ومزارع ومعاصر نبيذ. لكن على الرغم من ذلك، بقيت الغابة بالنسبة
لي سوداء، أيّ مظلمة، وتعيش فيها كائنات أسطورية شريرة.
ذات مرّة
دعاني أصدقاء ألمان إلى جولة على الأقدام داخل «الغابة السوداء»، فذهبت معهم متهيّباً
بأفكاري السوداء عنها. عند أحد المداخل، توقّفنا أمام شجرة ضخمة، واقتربت صديقة من
فجوة كبيرة ظاهرة في جذعها، وتُخرج منها دفتراً، ملفوفاً بكيس نايلون. يفاجآني أن
الدفتر ممتلئ بأشعار، قصص قصيرة، انطباعات شخصية، تحيات، مزيّنة برسوم طفولية ملوّنة،
مكتوبة من قبل عدد كبير من الأشخاص. تشرح لي الصديقة بأنها وضعت الدفتر هنا منذ
أكثر من عام، وأصبح كلّ مَن يمرّ هنا يسجّل بضع كلمات، وبلغات مختلفة، تحية
لأصدقاء مجهولين، تجمعهم ألفة المغامرة، قبل بدء النزهة في الغابة. وعندما دوّنت
أسطراً عن الحبّ والأمل والسلام بالعربية على الدفتر مع اسمي والتاريخ، شعرت أن
الغابة «السوداء/ المظلمة» قد أصبحت منيرة، وانفتحتِ الدروب فيها أمامي، دون
كائناتي الوحشية، وأنها تستقبلني بكلّ الحبّ... كانتِ الكلمات سحرية، فتحت طلاسم
الغابة، وجعلتها منيرة، وشعرت في الوقت نفسه أن الظلمة في داخلي قد تبدّدت، مما شجّعني
على الدخول إلى الغابة بثقة.
كنت وقتها أكتب
روايتيّ «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية» معاً. أسجّل في الأولى الكوابيس
والهلوسات عن الآلام التي أحملها في داخلي ليل نهار، عن البلاد التي غادرتها، ولم
تغادرني، عن ذكريات الموت والدمار في سورية التي تلاحقني باستمرار. ومن هذه
الذكريات تتكاثف صور الجثث من الأقارب والأصدقاء وأبناء البلدات، الذين تمّت
تصفيتهم في المعتقلات أو تحت البراميل المتفجّرة. كانتِ الجثث تلحّ عليّ في
كوابيسي أن أسرد حكاياتهم للريح والمطر وذاكرة الأيام، حتى يهدؤوا ويناموا إلى
الأبد، مرتاحين في عوالمهم الغيبية. بعد زيارتي للغابة السوداء، التي أضحت منيرة،
بدأتِ الجثث الأليفة الحزينة تظهر في غرفتي، وهي تذكّرني بآلامها ومآسيها؛ تروي،
وأنا أكتب بطريقتي الفانتازية. هكذا، كتبت الروايتين معاً.
عندما سجّلت
ذكريات الموتى الأحباب، تحرّروا هم من طفوهم القلق في كوابيسي، وغادروني في
أسفارهم سفرها إلى عوالمهم الغيبية، وهم يعرفون أن «حكاياتهم» لن تُنسى، وستبقى
متحدّية الغياب. وفي الوقت نفسه، تحرّرت أنا نفسي من كوابيس الموت في داريا،
وبلدتي قطنا المجاورة لها، وكلّ البلدات السورية التي شهدت فيها الموت والدمار.
اكتشفت أنني طوال الوقت كنت لا أكتب روايات بالأصل، إنما أكتب، كي أتحرّر من
الظلمة داخلي، ومن كوابيسي.
هكذا، كانتِ
الكتابة حبل النجاة في عيشي بسجني السُّريالي في البناية التي احتلّها العسكر،
هكذا كنت أكتب منذ مراهقتي، كي أتحرّر من الظلمة التي كان يزرعها الخوف بواسطة
القمع الديني والعسكري. وأعتقد أن مَن يقرأ رواياتي، التي أكسر فيها المكبوت في
دواخلنا بفعل الرقابات الدينية والسياسية يتحرّر من ظلمته الداخلية. أكتب وتظهر
لدي سلسلة روايات، دون بدايات ونهايات، دون فصول مرتّبة منطقياً، فهي أحلام يقظة
وكوابيس وهلوسات، تتبعثر على الصفحات. أحارب فيها الظلمة في داخلي، في دواخلنا،
التي ترافقنا نحن السوريين أينما نحلّ. ولهذا أفهم لماذا كنت أسجّل مذكّراتي طوال
عمري، وعندما اضطررت إلى حرقها، لم تختفِ، وإنما تحوّلت إلى روايات.
أكتب؛ كي أتحرّر من الظلمة داخلي، ومن كوابيسي. (مازن عرفة).
لكن الكوابيس
لا تنتهي، حتى لو شعرت بأمان ما في المنفى، فالقلق يلاحقني من الغد، من المستقبل
المجهول، من أسئلة الحرب والموت، من أسئلتي الوجودية، لذلك أستمرّ بالكتابة،
بالتوتر نفسه والقلق، أكتب روايات دون بدايات، دون نهايات.
السؤال السادس: وعيك المفرط، وتحرّرك الداخلي، هل يثقلان عقلك ويحرّران روحك،
أم أنك في علاقة دائمة مع القلق والتوتّر؟
الحياة ليست ببساطة فيلماً جميلاً، ببداية وعقدة في الوسط ونهاية على
الأغلب سعيدة. الحياة، وخاصة المعاصرة، هي سلسلة من الحوادث اليومية المتشابكة
المعقّدة، تلقي بثقلها المتعب على الإنسان، تجعله يعيش مضطرباً قلقاً باستمرار،
سواء في لحظته الحاضرة، أو أمام الغد المجهول القادم. في المجتمعات الشرقية،
المشتعلة دائماً بالحروب العبثية، يزداد الاضطراب في حياة الإنسان إلى حدود قصوى
تصل به إلى الجنون، فهو يعيش خائفاً من الفقر والمرض، وإمكانيات مفتوحة للموت
العبثي المجّاني المفاجئ. وإذا نجا بحياته، فإن فقدان البيت والموطن يهدّدانه
بالتشرّد والتهجير القسري بفعل الحروب والنزاعات المستمرّة على أرضه. يحدث هذا في
ظلّ أنظمة قمعية عسكرية ودينية تحكمه، هي في الواقع أدوات لتصفية حسابات القوى
الكبرى على أراضيه، دون أيّ اهتمام بحياة المواطنين ومصائرهم. يصبح القتلى والمعوّقين
والمشرّدين في هذه المجتمعات مجرّد أرقام إحصائية بلا معنى، كعدد الأبقار المذبوحة
في معامل تصدير اللحوم. وتختفي الدلائل المادّية عن المفقودين المغيّبين في
المعتقلات، والمقابر الجماعية، والمختفين تحت ركام المدن المدمّرة.
وإذا ما تسنّى لشخص من هذه المجتمعات الشرقية المدمّرة بالجنون اللجوء
إلى بلاد الغرب، فهو مهدّد دائماً هنا بالعدائية والدونية وإمكانيات الطرد منها
بقدر صعود التيّارات الشعبوية اليمينية. هذا دون الحديث عن الشعور الملازم له
بالاغتراب والضياع الروحي، في بلاد يُفتقد فيها الدفء الإنساني وحميمية الشرق.
هل هذه هي أحوالي أنا فقط، أما أحوال الكثير من السوريين، وخاصة الكورد،
بتنوّعات مناطقهم الجغرافية والسياسية، بل والكثير من المقيمين من مناطق الشرق
الأوسط، وأنا أحاول التعبير عنهم في رواياتي، كأناس بسطاء يلازمهم المنفى في
دواخلهم أينما تحرّكوا؟
في بداية حياتنا كان هناك ترف طرح الأسئلة الوجودية الكبرى، ومن يستطيع
تقديم إجابة ما عنها؛ الدين أم الفلسفة أم العلم؟ لكن في يوميات الموت المجّاني
والعبثي التي تعصف بمناطقنا، لم يعد يفكّر الإنسان سوى بالنجاة من الموت المجّاني
أو التشرّد، يعيش حياته وهو يسعى لإيجاد رغيف الخبز، بالمعنى الرمزي الكبير. على
الرغم من ذلك، فقد كانتِ الأسئلة الوجودية تلاحقني، فربما أجد فهماً للجنون والموت
العبثي الذي نعيشه باستمرار ، جوابٌ أتحرّر به من دوامة نيتشوية، تتكرّر بعدميتها
في حاضر مجنون توقّف عنده الزمن. وكانت حرّيتي بالاختيار هي الخلاص، وهو ما أريده
لأبطال رواياتي. ليس فيها إله معبود أو زعيم قائد قطيع، أو بطل أسطوري منقذ، البطل
هو أنا، نحن، يبحث عن الخلاص بحرّيتي.
لا
تبدو مفاهيم الحرّية بالنسبة لي نظرية أو ترفاً فلسفياً، بل هي مشاعر طاغية على
أفكاري وتصرّفاتي، أنطلق فيها من مبادئ أساسية:
-
لماذا عليّ الخضوع لزعيم عائلة، قبيلة، لجنرال، لرجل دين، لرجل سياسة،
وكلّهم أتت بهم صدفة العشوائيات في مجتمعات متخلّفة؟ بل ولماذا عليّ الخضوع إلى
كائن استيهام هو صورة لهم، رفعناه إلى السماء، وعلينا عبادته بطقوس يومية عبثية،
تعبّر عن غباء التكرار والذلّ وفقدان الكرامة الإنسانية؟ ما هذا الكائن النرجسي
المُتوهّم الذي يريد أن نعبده مثل جنرال أو سلطان؟ ما الذي يجده من متعة، وأنا أردّد
أمامه كلمات ببغائية، وأمارس حركات جسدية دون أيّ معنى؟ لماذا هناك إله لكلّ دين،
أو طائفة، أو عشيرة، أو عائلة، يطلب من مريديه باستمرار أضاحي الدم البشرية، دون
أن يرتوي؟ وكلّ مجموعة لديها الإله الحقّ، على الرغم من السيف الذي يحمله بين
أسنانه ويقطّر دماً.
-
لماذا لا أكون حرّاً، وأبحث عن معنى وجودي بعيداً عن الخضوع لكائنات
ميثولوجية استيهامية، لا تستطيع إيقاف المذابح على الأرض منذ ظهور البشرية، لا فرق
إن كانتِ الضحايا أطفال أو نساء أو عجائز أو حتى رجال. إما أن هذا الإله لا يرتوي من دماء الضحايا
البشرية (كأضاحي كما في أساطير العالم القديم)، أو أنه عاجز عن إيقاف المذابح
اللاأخلاقية، ولا يتحكّم بهذا الجنون الذي نعيشه... أو ببساطة شديدة إنه غير
موجود، بل هو نتاج استيهامات القطيع، الذي يحتاج إلى زعيم. والأسوأ إنه إذا ما
شتمه كائن بشري صغير، فهو بكلّ عظمته الأسطورية المتخيّلة وقوّته الافتراضية لا
يستطيع الدفاع عن نفسه، ويطلب من مريديه استلال سيوفهم والاقتصاص خبط عشواء ليس ممّن
شتمه فقط، بل من كلّ مَن لا يؤمن به أيضاً. وأمام مليارات البشر منذ مطلع التاريخ،
لماذا على هذا الإله أن يهتمّ بامرأة انكشف شعرها، ورجل يسير بصدر عار؟
-
لماذا يتدخّل هذا الإله بتوافه الأمور لكلّ فرد من مجموعات بشرية هائلة
على الأرض، دون أن يعرف أنها كوكب ضمن تسعة كواكب في مجموعتنا الشمسية، تدور حول
نجم نسمّيه «الشمس»، وهو واحد من مليارات النجوم في مجرّتنا «درب التبانة»، التي
هي واحدة من مئات المجرّات مثلها في «المجموعة المحلّية»، والتي هي جزء من مئات
المجرّات في «مجموعة العذراء»، والتي هي جزء من آلاف المجرّات في مجموعة العناقيد
الفائقة «لانياكيا»، ومثلها ملايين العناقيد الفائقة، في كوكب منظور، نعرف منه فقط
(5%) بالمائة، فيما بقية الكون يتكوّن من «المادّة المظلمة» و«الطاقة المظلمة»؟ في
هذا الكون الهائل اللامعقول باتّساعه، بمليارات ومليارات المجرّات، ولا يمكن
لعقولنا تصورها، يهتمّ الإله بأمر امرأة كشفت شعرها ورجل كشف صدره. نحن مَن خلقناه
كصدى لغرائز الرجل الشرقي البطريركي، الذي يحلم بامتلاك أكبر عدد من البيوت
والمزارع، وقطعان الغنم والسبايا من النساء، لا فرق، وهو عاجز حتى عن ممارسة
الاستمناء. ماذا يجد من متعة بإرسال هذه المرأة أو هذا الرجل إلى مقرّ سعير سادي أبدي،
نسمّيه «جهنم». من أين أتت «السادية الجمعية» تحت غطاء الحروب العبثية المستمرّة
دون نهاية، ونحن نغلّفها بشعارات الدفاع عن الأوطان والكرامة وجنوننا.
لماذا هناك إله لكلّ دين، أو طائفة، أو عشيرة، أو عائلة، يطلب من مريديه باستمرار أضاحي الدم البشرية، دون أن يرتوي؟ (مازن عرفة).
عندما أقرأ قصصاً، أو أشاهد فيديوهات عن التعذيب في بلادنا، أشعر كم من «السادية
المرضية» مختزنة في قلب «الجلّاد المريض»، بدءاً من «السجّان الصغير» إلى «الزعيم
الكبير»، الذين يحتاجون إلى معالجات نفسية. أعرف حكايات عن سجناء في المعتقلات
السورية (بكافّة تنوّعات المجموعات التي تقف وراءها) اعترفوا بكلّ ما لديهم من
معلومات، لكن الجلّاد يستمرّ بتعذيبهم، لمجرّد متعة سادية شخصية (أشبه بالجنسية)،
يكون فيها مسروراً برؤية الآخر يتألّم؛ يذيبه بالأسيد، يدفنه أو يحرقه حيّاً،
يذبحه بيده كالنعجة، يهرسه بجنازير دبّابة. لكن المشكلة تكون أكبر عندما يتمّ
تعذيب شخص لانتمائه الديني أو الطائفي أو العرقي، ويصبح الانتقام هنا شاملاً من
مجموعة دينية أو طائفية أو عرقية من قبل مجموعة مقابلة لها، تغدو «السادية المرضية»
عندئذ «جمعية». ونتحدّث عندئذ عن «سادية جمعية مرضية دينية، أو طائفية، أو عرقية».
يستنكر الكثير التعذيب هذا بشدّة، وسيجده مرضاً سادياً بحاجة إلى معالجة،
لكن في مفارقة غريبة سيقبله من كائن علوي يمارسه بحقّ كائنات بشرية. تصوير «جهنّم»
على سبيل المثال، المليئة بأقسى درجات التعذيب السادية، ما هي إلا تعبير مرضي عمّن
صنعوها باستيهامهم، وهم بالضبط مَن يحتاجون إلى معالجة جمعية. لنتخيّل ملايين
الأشخاص، يتمّ شويهم على النيران، وكلّ ما تمّ احتراق جلدهم، يتمّ تجديده
باستمرار، وهكذا إلى الأبد. مَن هذا الإله الذي يستمتع بهذه المناظر السادية؟
أعتقد جازماً أن مَن يؤمن بمثل هذه المشاهد هو مَن يحتاج إلى معالجة نفسية.
يوجد فيديو شهير لتنظيم الدولة الإسلامية (ضمن سلسلة فيديوهات قاسية له
على وسائل التواصل الاجتماعي)، يتمّ فيه تصوير حيّ ومباشر لدهس شخص «علوي» حيّاً
(لا يتجاوز عمره 18 عاماً) تحت جنازير دبّابة، وسط تكبيرات وتهليلات المريدين
المهلوسين بالتكبيرات الدينية، كحكم عليه؛ لدهسه جثث من رجال التنظيم بدبّابته
سابقاً. سيلقى الفيديو استنكاراً من الجميع بالطبع. لكن من الجهة المقابلة، سيتمّ إحضار
سجين إسلامي، غير معروف، وتنشر له صورة دهسه تحت جنازير دبّابة تابعة للنظام
الديكتاتوري. ويترافق ذلك مع صورة شبّيح يحمل رشّاشاً، يقف مبتسماً، قرب نصف الجثّة
البارز من تحت جنازير الدبّابة. المشكلة، إن الفيديو الثاني، يتلقّى آلاف
الإعجابات خلال دقائق، فرحاً بالانتقام، كأن مشاعر «المتعة السادية»، وإن كانت
مرتبطة بالانتقام، هي «جمعية» عند العديد من الأطراف.
شاهدت الفيديوهين عشرات المرّات، أعدتهما وأنا أتخيّل نفسي أنني هذين
السجينين المدهوسين، فأتلبّس مشاعر الرعب اللامعقولة التي تجتاحهما، وهما يقفان
أمام الدبّابة، ثم مرور الدبّابة فوقهما ببطء وتفرمهما، تفرمني. وبغض النظر عن
الجهتين اللتين تقفان وراء الحدثين، تخيّلت نفسي أنني أنا هذين الإنسانين، مجرّداً
من كلّ المعتقدات والأفكار، مجرّد إنسان بمشاعر حقيقية وذكريات طفولة ووالدة
تنتظره، ويقف أمام هذا الرعب اللامعقول، وأنني أنا نفسي مَن دهستني جنازير الدبّابة...
وكان هذا فصلاً قاسياً كتبته في روايتي «داريا الحكاية»، وهو فصل أقسى بكثير من
فصل الدفن العشوائي لأموات وأحياء في مقبرة جماعية في روايتي «الغرانيق». أردت أن
أقول فيه إن السادية «السياسية، الدينية، الطائفية» الجمعية المتوحّشة لا علاقة
لها بالعداوات، هي جنون كامن في دواخلنا، لكنها تحتاج إلى التعصّب الأعمى لزعيم/
إله سادي، فتشتعل. ولن ينقذنا سوى العودة إلى أبسط مشاعر الكرامة الإنسانية. في كلّ
الحروب الجنود يموتون والقادة/ الآلهة يثملون بدمائهم.
تلاحقني جثث ضحايا المدنيين، الذين تمّ إعدامهم من قبل الجيوش الانكشارية
للنظام الديكتاتوري، ومعهم الميليشيات الشيعية المشاركين في مجازر داريا، والغوطة،
وبلدات سورية بأكملها، تملأ روايتي بالكامل (في ليلة واحدة تجاوز عدد الضحايا
الألف شهيد). ولن تهدأ هذه الجثث في الكوابيس الشخصية والجمعية، إلا عندما تستعيد
حقّها على الأقل برواية حكاياتها، والاعتراف العلني بحقوقها الإنسانية، وهو ما
أفعله برواياتي على الأقل.
بالمقابل فإن بطلي في رواية «وصايا الغبار»، يدخل باستيهامه على دار
النعيم في فصل خاص بها «الجنّة الإسلامية»، يجدها فيلم إيروتيكي غير مثير، خاصّ
بالرجال فقط، قائم على المتعة الحسّية المباشرة (الجنس والكحول)، بعدد هائل من
الحوريات «والغلمان»، لممارسة الجنس دون توقّف (ويؤتيك الله قوّة سبعين رجلاً في
الجماع والطعام والشراب). يلحق هذا فصل آخر بعنوان «الجنّة الأمريكية» هو أكثر
إثارة من الجنّة الأولى، يكفي أن يشاهد المرء بضعة أفلام «بورنو» غربية، ليعرف مدى
فقر الاستيهام لدى الرجل البطريركي. وبالمناسبة فليس للنساء في جنّة الإسلاميين
حوريين تنام معهم، فهي عليها تنتظر دورها مع زوجها (وإذا كان كافراً ذهب إلى جهنّم،
فإنه يتمّ تزويجها إلى زوج جديد). لا يحتمل عقل الرجل البطريركي المريض أن يرى
زوجته المؤمنة، وينكب عليها سبعين حورياً، يمارسون معها الجنس. وعلى كلّ الأحوال
ليس هناك حوريين في الجنّة بل فقط حوريات.
ليس للنساء في جنّة الإسلاميين حوريين تنام معهم. (مازن عرفة).
لا يتوقّف مشروعي الروائي؛ لأن الهواجس والأسئلة الوجودية مستمرّة
باستمرار حياتي، وقلقي وخوفي من الغد هو ما يعيشه الإنسان السوري، أينما يعيش،
فالجنون يلاحقنا... لذلك أستمرّ بالكتابة.
بعد صدور روايتي السادسة «ترانيم التخوم» حديثاً، ستصدر قريباً جدّاً
روايتي السابعة «نزوة الظلال والاحتمالات»، وأنا الآن في سفر جديد، في رواية
ثامنة.
في النهاية، أقدّم هذه النصوص الثلاث النموذجية من روايتي «داريا الحكاية»،
لإبراز محاولتي البحث عن استخدام لغة جديدة تكسر الاستخدامات التقليدية لها، وفي
الوقت نفسه تتناسب مع السُّريالية، والواقعية السحرية، الكوابيس، والهلوسات
والجنون في محاولتي إيجاد عوالم إبداعية تخييلية، على أرض وثائقية الحدث، بلغة
شاعرية كثيفة... هي نماذج من كتابات رواياتي، التي تتطوّر باستمرار للتعبير أعمق
عن إسرارية الحياة.
مقطع
رقم 1 (عن قصف داريا):
«المروحيات الوحشية لا
تنقطع عن التحليق في رأسي؛ ورأسي «بلدة – داريا»، دويٌ انفجارات. مختنقة بقيظ صيف،
ودخان حرائق، تلتهم الشجر والحجر. يحجب اشتعال كروم العنب، وحقول القمح، والبساتين،
المنطفأة باليباس؛ كانت تزهو ذات حكايات خضراء، تحت ذهب الشموس.
ترمي المروحيات أحقادها،
براميل موت متفجّرة. ترتجّ روحي والبيوت بزلزلات هادرة، تتالى أصداؤها وحشية في
ذاكرة المكان. لا تتبدّد الموجات، إلا وتترنّح جدران قلبي والمنازل أنقاضاً، فلا
تنهض. أبعثر الدخان من الذاكرة بتلويحات متعبة، فتتعالى نداءات الأحياء، المتشظّية
بالأنين، ويسْتلهم الصدى في عدّاد الأموات. تتناثر أشلاء جثثهم في ثنايا الأزقّة والحواري
والأيّام.
تنسلّ المروحيات من رأسي
إلى صالة عرض، مترامية في الهواء الطلق، تصل بقاع الأرض بعنان السماء. تمتدّ من
نهوض التلال الجرداء غرباً، إلى اشتعال الكروم حرائق شرقاً، وبعمق يمضي إلى أقصى
ما يكشفه تبدّد الدخان، في حقول الجنوب. على خاصرة «دمشق»، تقع
«البلدة»،
والفيلم يُنتج فيها، ويُبثّ مباشرة. تجري أحداثه في منازل آهلة، حُكم عليها
بالدمار. وأسندت أدوار البطولة فيه لسكانها الأحياء، تتطاير أشلّاء جثثهم مباشرة
في الهواء، مع انفجار البراميل، دون رتوش أو خدع سينمائية».
مقطع رقم 2 (عن فرم الدبّابة بجنازيره للإنسان أيّ إنسان:
سادية القاتل، آلام المقتول):
«تزأر
الدبّابة أمامي من جديد. لن تدهسني. ها قد وصلت إلى أقصى ذعري. ألا يكفي هذا؟! متى
ينتهي هذا الكابوس، وأصحو منه؟
لكن
الجنازير تستمرّ بالتقدّم نحوي. ألمح خيالاً على البرج، مستنداً على رشّاشها، ببذلة
مموّهة، وشعر مجعّد مشعث. لا أميّز من ملامح وجهه سوى ذقنه غير الحليقة. تتقدّم
الجنازير نحوي أكثر. أصطدم بعينين حادّتين، في وجه آخر، ملثم، يبرز من فتحة
القيادة، في الأسفل. ينطلق الشرر منهما نحوي سهاماً حارقة. هو، مَن يقودها نحوي.
هو، مَن قد يدهسني بالخطأ. تنهزم نظرات استعطافي أمام حجَريتهُ. ألتفتُ إلى
الخيالات، على اليمين، وعلى اليسار. أريد أخبارهم أن يداي وقدماي مقيّدتان، وأن
السائق قد يخطئ، ويصدمني. غريب، لماذا تبدي اللامبالاة نحوي، بل يصرخون، ويستعدّون
للرقص ببنادقهم، وسيوفهم، المرفوعة عالياً في الهواء.
يواصل صرير الجنازير تقدّمه، تفصله عني عدّة
أشبار، صرير يطغى على صراخي المختنق، على الرعب. وأنا، نشيج دون بكاء، دون دموع.
تشتعل السماء والصحراء نيراناً، تتركاني وحيداً، في مواجهة الدبّابة. صرير، تنبعث
منه رائحة غريبة؛ رائحة موت.
الصرير.
يصبح لصقي. ستتوقّف الجنازير الآن. ستوقّفها الخيالات. لكن أين الخيالات! اختفت،
مع أني أسمع جلبتها. الجنازير لا تتوقّف. هذا ليس كابوساً. عينا السائق الملثم
أصبحتا قريبتين جدّاً، في مواجهتي تماماً. ستدهسني الجنازير. أتقافز بقدميّ المقيّدتين.
أرتعد بهلع مجنون. دمي يفور. عينا السائق الملثم تقتربان أكثر. أستدير بجسدي
جانبياً، كي أتقي الصدمة القادمة بكتفي. أفقد توازني. أهوي على مؤخّرتي. تقترب
الجنازير من قدميّ الحافيتين، أسحبهما نحوي، تلاحقهما. أدفع مؤخّرتي بقدميّ،
هارباً منهما. لا تساعدني يداي المقيّدتان. لا أبتعد. أسقط إلى الخلف، متمدّداً
بالكامل على الإسفلت الملتهب. تطلق الخيالات الضاجة صرخات وحشية. يطلقون نيران
بنادقهم في الهواء، في احتفالية هوس جنوني. تنفجر دمعتان من عينيّ، دون بكاء،
حانقاً.
«أقود
الدبّابة على مهل، أستمتع برؤية الضحية أمامي، تتراقص مذعورة. تتلاقى العيون،
نظراتي متألّقة، مستمتعة، نظراته منطفأة، مستجدية. كلّما أخّرت الدهس، أستمتعُ
بالرعب المرتسم على الوجه أمامي أكثر فأكثر».
تلمس الجنازير رؤوس أصابع قدميّ، ناعمة، ساخنة.
لكنها، فجأة، تبدأ بفرمهما؛ بفرم قدميّ. لم أشعر بمثل هذا الألم المجنون في حياتي.
تداهمني صورة أمّي، أستنجد بها. مصطبة طينية، تظلّلها شجرة جوز، وإبريق شاي على
جمر ملتهب. لكن الجنازير تتقدّم، تفرم رجليّ، ركبتيّ، فخذيّ. رأسي ينفجر. العالم
ظلام.
«أتقدّم
بالدبّابة فوق القدمين، تتقدّم الجنازير. أرى الدماء تتدفّق من الفم، الأنف،
الأذنان. تتقدّم الجنازير، تفرم الحوض. الأحشاء تندفع إلى الصدر، العظام تطقطق.
أسحق الجمجمة. يمتلئ رأسي بالنشوة. أتوقّف فوق الجسد المهروس. تعلو الصرخات
الوحشية، وصليل الرصاص، يشتعل الحماس في رأسي أكثر، أقوم بدوران صغير فوقه، كي
أسحقه بالكامل، وأفرمه أكثر. ثم أنسحب عنه متراجعاً؛ لحم مفروم، عظام مسحوقة،
غُرست في الإسفلت اللزج الحار».
مقطع رقم 3 (سخرية من
الرجل البطريركي، عندما تنقلب الأدوار مع امرأة، تعيش في عالم غربي):
«تجيبني
وعلى وجهها ابتسامة ساحرة «ينبغي أن أفكّر بالاقتراح، أو بالأحرى، ينبغي أنت أن
تفكّر به. أنا هنا امرأة حرّة، أعيش في بلاد حضارية، يتساوى فيها النساء والرجال
بالحقوق، حسب القانون. مع ذلك، أحبّ أن أحافظ على تقاليد بلادنا الشرقية، لكن ضمن
حقوقي. متزوّجة، الآن، من أربعة رجال معاً، أحدهم طفل في التاسعة من عمره، عملاً
بقوانين الصحراء. نقيم معاً في شقّة واسعة، وأنام معهم كلّ ليلة، بالتناوب،
وأحياناً أجمعهم في غرفة واحدة، في حفلة مجون جماعية. إذا رغبتُ بك زوجاً جديداً،
فينبغي أن أطلّق واحداً منهم، حسب تقاليدنا. لكن مهلاً، هناك طريقة لأضمّك إلى
حاشيتي. أستطيع بمالي شراء رجال فحول جنسياً، من مختلف البلاد، للاستمتاع بهم؛
تغيير مزاج، فأنا أشعر بالملل من رجالي الأربعة. أنا امرأة مقتدرة مالياً، أعمل في
تجارة العطور، ولها سوق رائجة هنا. إنما لديّ شرط آخر. نحن النساء هنا، لدينا جنّة
استيهام حضارية، تسيل فيها أنهار من المشروبات الكحولية، نشرب منها بلا حساب، وندخّن
فيها جميع أنواع المخدّرات، ممّا تشتهي أنفسنا. نعيش فيها دون دورة شهرية، ولسنا
بحاجة لاستعمال موانع الحمل، فنحن لا نحمل ولا نلد، ولا يتقدّم العمر بنا، نبقى
صبايا حلوات. لدينا فيها رجالاً حوريين، لم تمسسهنّ امرأة من قبلنا، يلبّون جميع
رغباتنا الجنسية. تمتلك كلّ واحدة منّا هنا قوّة سبعين امرأة في الطعام والجماع.
وإذا رضيتُ بك زوجاً، وأدخلتك جنّتي، فعليك أن تنتظر دورك لتمارس الجنس معي، إذ لا
يوجد في هذه الجنّة حوريات غيري. فهل توافق على شروطي».
مازن عرفة – كاتب وروائي سوري، مقيم كلاجئ في ألمانيا منذ عام 2017م،
من مواليد قطنا بريف دمشق 1955م، يحمل إجازة في الآداب – قسم اللغة الفرنسية من جامعة
دمشق 1983م، دكتوراه في العلوم الإنسانية – تخصّص علم المكتبات والمعلومات من جامعة
«ماري كوري سكودوفسكا» في مدينة لوبلين – بولونيا 1990م.
من مؤلّفاته:
1 – «العالم
العربي في الكتابات البولونية في القرن التاسع عشر»، (باللغة البولونية)، لوبلين
1994م.
2 – «سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصّية إلى
سلطة اللامرئي»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2007م، (464 ص).
3 – رواية «وصايا الغبار»، سوريا، دمشق، دار التكوين،
2011م، (663 ص).
4 ـ كتاب «تراجيديا الثقافة العربية»، سوريا، دمشق، دار
التكوين، 2014، (295 ص).
5 – رواية «الغرانيق»، لبنان، بيروت، مؤسّسة نوفل/ هاشيت
أنطوان، 2017م، (356 ص).
6 – رواية «سرير على الجبهة»، لبنان، بيروت، مؤسّسة نوفل/
هاشيت أنطوان، 2019م،
(335 ص).
7 – رواية «الغابة السوداء»، المملكة المتّحدة، لندن، دار
رامينا، 2023م، (205 ص).
8 – رواية «داريا الحكاية»،
فرنسا، باريس، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2023م، (184 ص).
9
– رواية «ترانيم التخوم»، فرنسا، باريس، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2025م، (300
ص).
إدريس
سالم – شاعر وكاتب كورديّ سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار،
1986م). وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكورديّة السوريّة.
عمل
مدرّساً للغة العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع
الإلكترونيّة.
محرّر
وعضو في موقع وجريدة «سبا» الثقافيّة.
مدير «مكتبة فيرمين للكتاب» في تركيا.
من
مؤلّفاته:
1
– «جحيمٌ حيٌّ»:
أول
عمل أدبيّ له في الشعر، صدر طبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (تموز
2020م)، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة (أيلول 2022م)،والطبعة
الثالثة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (كانون الثاني 2025م).
2
– «مراصدُ الروحِ»:
ثاني
عمل أدبيّ له في الشعر، يصدر بطبعته الأولى، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة
والأدب (أيّار 2025م).