«غابات الإسمنت» لـ ذكرى لعيبي

 


ولم تلتحق بالسجن بعد خروج مديحة سوى واحدة من السجينات... رهام سهيل.

كانت سيدة رائعة الجمال في الثلاثين من عمرها، ذات أنفة لم يكسر السجن من شموخها.

تتعامل بكبرياء مع السجينات اللائي سخرن منها، وحاولن كسر شموخها بسخريتهن وقلة الأدب، غير أنها ظلت لا تبالي ولا تلين، وكأنها في مكانٍ آخر.

لا تتحدث كثيرا وتتجاهل أي استفزاز.

كانت تهمتها الاختلاس، سيدة ذات موقع مهم... مديرة أحد الأقسام في بنك، راودتها نفسها أن تصبح مليونيرة بين عشيّة وضحاها، فوقعت في الخطيئة بتحريض من هيئة مستشارين فاسدين.

لم تتحدث للسجينات عن نفسها، غير أني عرفت ذلك من حبيبتي النقيب ابتسام، وحين سألتها هل أصاحبها؟ نصحتني أن أبتعد عنها، فأنا على وشك الخروج من السجن وقد بقي لي بضعة أشهر، وعليّ أن أكون حذرة جدًا طوال الفترة القادمة.

لا أدري إن كان الحذر سيقيني الخوف الذي يتقاتل بداخلي، أو الذكريات التي تأكل وتشرب معي، أو الأحزان التي تأتي بلا موعد!

حتى اقتنعت تماماً أنني لن ألتقي قط صديقة بمثل إخلاص مديحة وطيبة قلبها.

ودفعني الفضول إلى أن أسـألها إن كان بالإمكان أن توظّف رهام في العمل؟ فأجابت بالنفي، وأكدت وهي تداعب شعري بأناملها: لسنَ كلهن مثلك.

منذ أن فتح باب السجن وجدتني لست إنعاماً.

امرأة أخرى.

تخيّلت أني لم أرَ النور إلا لحظة خروجي من السجن، مع أني رأيته أكثر من مرة، غير أنّه الإحساس الأسمى بالحرّية التي أعدّ ابتساماً من منحتني إيّاها.

كنت أحمل هوية رسمية باسم ميساء أدهم عبد الرحيم.. عرفت أنها لسيدة هاجرت مع أهلها منذ مدة طوية إلى خارج البلد، وانقطعت أخبارها، لم يعد للعائلة علاقة بالبلد... ربما تعرف دائرة الأمن أن العائلة المهاجرة أنهت علاقتها بالوطن تماماً، لذلك منحتني هوية السيدة، وصورتي الشخصية مثبتة عليها، وطلبت منّي دائرة الأمن على لسان النقيب ابتسام أن أنقل سجلي المدني إلى حيث أقيم في هذه المدينة، التي تجاهلتُ ذكر اسمها لأسباب ما...

لكنها بكل الأحوال تشبه وطناً على ورق! هويتي.

صورتي.

أنا إنسان آخر.

امرأة لا علاقة لها بجريمة قتل، تاريخها لا غبار عليه.

لا أحد يعرفني حقّ المعرفة، سوى ذاكرتي التي تماثل ذاكرة مدن الحروب المتخمة بالوجع. ولا يشكّ بي أي مخلوق.

إنسان آخر خلقه حب واهتمام وهيام من نوع آخر!

حب انبعث من امرأة تختلف تماما عن بقية النساء تدعى (ابتسام).

كان معي هاتف نقال، سلمتني إياه حبيبتي، قالت إنها استقطعت ثمنه من حسابي، وإن راتبي سيجري كل شهر حتى أجد عملًا، وسيكون ذلك بتوجيه منها.

لا أقول إني رأيت النور.

فقد رأيت أنوار المدينة، ونور النهار مع حبيبتي وأنا في السجن، حين كنت أخرج معها، بل جعلتْ كل السجينات يخرجن معها إلى شقتها بحجّة التنظيف، ومنهن صديقتي المقرّبة مديحة لكي لا يشكّ بنا أحد.

الحبّ الذي يجب ألّا يعرف به أحد.

كنت أرى النور بصفتي امرأة أخرى.

امرأة من دون سجل إجرامي ولم تكن في أي سجن من قبل.

ميساء ... نعم أنا ميساء.

وجدتُ سيارة أجرة بانتظاري، فصعدتُ، وحالما انطلقتْ السيارة، فتحتُ قائمة الأسماء بالهاتف:

-        هلو مديحة، ميساء معكِ.

-        ميساء!

-        رفيقتكِ القديمة... وخفضتُ صوتي:

-        لست إنعام.

-        مبارك حبيبتي.

-        سأكون عندك بعد دقائق.

-        أنا في انتظارك.


قدّمت العنوان المدون في قصاصة ورق للسائق، وانطلقت السيارة بي إلى بيت مديحة.

أدركتُ أن النساء اللائي يخرجن من معركة الزمن، والصراع مع الحياة بآثار وجروح نفسية وخسائر، ويكملن حياتهن مبتسمات متحدّيات كل المنغصات، ويطردن ليل ضعفهن بفتيل شمعة... هنّ نساء النور، مهما كانت صفتهن أو مهنتهن.

وصلتُ إلى قناعة مفادها أن مهنتنا – إن كان يصحّ – أن أطلق عليها مصطلح مهنة، مثلها مثل أي منصب سياسي، أمر  أو وضع، تقرّره مصلحة الغالب الذي بيده رقعة الشطرنج ليحرّك أحجاره بمهارة وكيد، حسب ما تعود عليه بالنفع الخاص.

هيّا يا ميساء لننطلق من جديد إلى حياة أخرى.

تعليقات

  1. كل الشكر والتقدير لموقع سبا الثقافي وللقائمين عليه لنشر مقطع من روايتي " غابات الإسمنت "
    احترامي واعتزازي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملحمة فرهاد وشيرين

ما معنى الوجود يسبِق الماهية؟ وهل الإنسان حرٌّ في أفعاله؟

نظرية العقد الاجتماعي عند جون لوك