recent
جديدنا

الكفن لا جيب له

الصفحة الرئيسية

 


سهير المصطفى

 

الحياة ليست عادلة ولا يمكنها يوماً أن تنصف أحداً.

كثير من الكلمات تضجّ في رأسي، وتتخبّط الأفكار في سراديب ذاكرتي، تائهة لا أجد لها مخرجاً.

أمسك الهاتف، وأفتح تطبيق المذكّرة؛ علّي أفرغ ما في جوفي من براكين تغلي، وقد استعرتِ الحرائق في قلبي وطالَت كلّ شيء، لا أجد منفذاً للكتابة والكلمات اختبأت في مغاور بعيدة لا تطالها خيوط الشمس، أنظر إلى الحياة من حولي، وأرى كلّ تلك الدماء التي تراق في كلّ أنحاء العالم، الفقر المتفشّي كالخطيئة في كثير من البلدان، والكرة الأرضية بكلّ ازدحامها لا تأبه لما يجري، تتجشّأ لكثرة ما ابتلعت من أجساد وعلى سطحها يمارس البشر دورة حياتهم وكأنهم في سباق.

الكلّ على هذه الأرض لم يعد يفكّر سوى بالمال الذي بواسطته يستعيد شعوره ببشريته ولا أقول بإنسانيته، لأن الإنسانية شيء لا يمتلكها إلا القليل، لأجل المال تقام الحروب ولا يهم كم يسقط من ضحايا، الهجرة من الأوطان إلى بلاد لا نفقه لغتها ولا تشبهنا عاداتها، لا يهمّ إن ترك أحدهم جدران بيته تنوح في غيابه ويظلّ قلب الأحبّة خاوياً على أمل اللقاء.

في لقطة من فيلم استرقت مشاهدته أثناء انشغالي بعملي وهو يعرض على شاشة الكمبيوتر لامرأة تقول: «الرجل وجيبه فارغة يشعر بعدم الثقة بالنفس تماماً كفتاة قبيحة تتوارى عن أعين الناس».

تجمّعت مياه مالحة في عيني ومسحتها خلسة، وتساءلت في نفسي: لماذا؟! جاءني الجواب سريعاً كبرق في السماء؛ لأن البشر يحترمون مَن تمتلئ جيبه لا فكره، وكلّما امتلأت أكثر يقدّسونه وكأنه إله.

في حفل افتتاح لمحل مجوهرات شاهدت ذلك، الكلّ يحتفي بصاحبه حتى والي المدينة على الرغم من أن مالكه مهاجر من بلاد أكلتها الحروب ويُنظر لأبنائها بعنصرية مقرفة، أما هذا فلا، تُقرع الطبول على أبواب متجره وكأنه معبد، والكلّ يتنافس في تهنئته والتقرّب منه.

أما لو كان عاملاً فقيراً يصل الليل بالنهار، يمسح عرق جبينه بثيابه المهترئة، فإنه يركل إلى أول بوّابة للخروج من تلك البلاد، إن وجدوه دون وثيقة ترخص له عمله.

رأيت الرؤوس تنحني لمَن يمتلك حساباً في البنك، من فئة العملة الصعبة، ونبرة الصوت كيف تختلف وتغدو أكثر هدوءاً أمام مَن يمتلك سيارة فارهة. رأيت الاحتفاء بمَن يملك منزلاً، ونظرات الدونية لمَن يقطن بالإيجار.

في الجلسات يشعر بالوضاعة مَن لا يملك مشروعاً، ويتحدّث عن أرباحه ويتوارى بعينيه كي لا يفصح عن راتبه الذي لا يكفيه حتى نهاية الشهر، فينسحب من الجلسة مترنّحاً، وكأنه سكّير يتمايل بخطواته من الحسرة على نفسه؛ فلا أحد يسأله ماذا أنجزت، فيميل للعزلة ليتفادى الإحراج ولا يجد لنفسه مكانًا في تلك الأماكن، التي تعجّ بأحاديث صرف العملات والبورصات والذهب المكنز.

لا أنكر بأن المال هو الوسيلة التي تؤمن للإنسان كلّ متطلّبات الحياة، لكننا ومع الأسف جعلناه غاية لنا مغمضي الأعين عمّا يمكن للإنسان أن يتفرّد به من امتيازات بعيداً عمّا يملك.

أتذكر دوماً مقولة يكرّرها كبار السنّ: «الغني غنوله، والفقير ونوله»، ومقولة أخرى: «المال يجيب مال، والقمل يجرّ صيبان»، وأيضاً: «بجيبتك قرش تسوى قرش».

لا نستطيع تغيير العالم وعقولهم وردعهم عن هذه العنصرية البغيضة، التي ترفع أناس وتخفض من قدر آخرين، أشدّ ضراوة من العنصرية القومية والعرقية والدينية، لأنه كمرض خبيث، استشرى في الجسد، لا يمكن اقتلاعه.

فكّرت في نفسي، وأنا أترك بيتي لساعات طويلة، لأجل القليل من المال، كي أستطيع نشر رواية أنهيتها، وربما لن يقرأها أحد، ولن يحتفوا بها؛ لأني لا أملك المال، الذي يجعل الناس ينظرون إلي بحفاوة وإنما بشفقة!

ألهذا الحدّ باتت العقول خاوية؟ في زمن مضى كان الناس يتنافسون فيما بينهم مَن يمتلك علماً وفكراً، ومَن لديه ذكاءً، ومن يحفظ كتباً، ويكتب شعراً، أما الآن لا يهمّ إن تفشّى الجهل على حساب المال.

نرى الفساد يستشري في شوارع البلاد والأزقّة والدوائر الحكومية، السرقات على العلن، والنصب والاحتيال، وحتى جرائم القتل الفردية تحدث لأجل المال.

الثورات قامت لمناهضة كلّ هذا الفساد، فأغرت قادة الثورات وطغتهم الدولارات وأعمتهم، فانجرّتِ البلاد إلى الدمار، وتراجعتِ الحضارة التي كان بإمكانها أن تنافس العالم لو بقيت على نهضتها التي شهدتها في العصور الوسطى، في حين كان الغرب يعاني الفقر والجهل، لتختلف الموازين وتصبح بلادنا العربية في الحضيض، فسُرقتِ البلاد، وافتقر العباد واتخمت بالمال السادات.

لا أحد يعي بأنه لن يستطيع أن يأخذ قرشاً معه إلى القبر، ولن تشفع له كلّ أمواله إن لم يصلح عمله، ولن ينظر إليه كما كان يُنظر إليه في الدنيا، فالكفن لا جيب له. سيتساوى بجاره الفقير تحت التراب، ولا فرق بين جسد هذا وذاك، فكلاهما ستأكله الدود، لكن ربما سيكون ثمن الكفن أغلى وتقام له مراسم عزاء فاخرة، ويأكل الناس في مأتمه حتى التخمة، ويبنى له قبر بالجبص وشاهدة عالية تحمل اسمه.

المأساة تلاحق الفقير حتى بعد موته، حينما يضجّ أهله لشراء قطعة أرض صغيرة يوارون بها جسده، دون شاهدة ليتواسى القبر مع الوقت بالأرض وتختفي ملامحه.

لا يتوانى الناس عن إذلال الفقير وإهانته حينما يكون في حاجة من أمره، وقد شاهدت كثيراً من المواقف أمامي يعتصر بها قلبي، ولا أستطيع بها أن أتدخل، حتى ازدحمتِ الكلمات كجمرات تحرق الفؤاد. ليراودني ما كتبه فيودور دوستويفسكي يوماً: «أنا في نظرهم أهون شأناً من حصيرة، ذلك ما يرهقني ويضنيني، ليست مصاعب المال هي التي تقتلني، وإنما تقتلني هذه الإذلالات، وهذه الهمسات، وهذه الابتسامات الساخرة، لقد أصبحت أستحي أن أحيا، هويت إلى أدنى ما يهوي إليه متشرّد بغير جواز سفر».

نحن البشر مَن وضعنا قيمة للمال في جعله مقياساً لكلّ شيء، وبتنا عبيداً له يلعب بنا كدمى بخيوط الماريونيت، فلنتحرّر من سلطة المال؛ لنعيش بإنسانية، ولو قليلاً.

 

google-playkhamsatmostaqltradent