جان بابير
«للعشق
رائحة أخرى»، هي المجموعة الشعرية، للشاعر الكردي، علي مراد، الصادرة عن دار ببلومانيا
للنشر والتوزيع في عام 2020م. المجموعة تأتي من القطع المتوسط، وتحتوي على ثلاثة
وخمسين نصاً، ضمن (105) صفحات.
سأحاول الكتابة برؤية
موضوعية، وتدوين انطباعاتي بتجرد، حول بعض النصوص. أبدأ بنص «أولفيرا». لنقرأ النص
معاً، ومن ثم سأتطرق إلى تحليل هذا النص:
الأولڤيــــرا
لدي
ما يكفي من زهر الألوفيرا
لرتق
ثوب الحرف
ولإطالة
عمر القصيدة
وما
أنا إلا ظلك
ظلك
الخائف من ابتلاع البحر للشمس
من
عينين ثملتين
من
شاعر يهذي
من
شروق غير مقصود
من
عتمة معلبة
وطاولة
تسرق دفء الأصابع
وتشعل
الحرائق في بيادر الشعير
عاش
الحرف.. الفودكا
اللون..
الحبر فقط
ولتَرحل
كل أنثى لا تشتهي فراديسي...
نص نثري، مفعم بالرمزية
والصور، يتناول عدة موضوعات، منها الإبداع، الكتابة، والعلاقة الروحية بين الذات
والآخر (ربما الحرف أو القصيدة).
زهر الألوفيرا: يمثل رمزاً
للشفاء أو التجدد، حيث يُستخدم زهر الألوفيرا لعلاج الجروح والتهدئة. الشاعر هنا
يبدو وكأنه يبحث عن علاج إبداعي ليطيل من عمر «القصيدة».
«الخائف من ابتلاع البحر
للشمس»: في هذه الجملة يجتمع عنصرا الماء (البحر) والنار (الشمس)، وهما من العناصر
الأساسية التي ترمز أيضاً إلى استمرارية الحياة والزمن.
«العينين الثملتين»: تشير
إلى الضياع والعواطف المضطربة.
تبرز العلاقة بين الذات
والقصيدة بشكل جلي. «ظلك»، أي أن هناك علاقة تبعية لمصدر إلهامه، قد يقال إن
الشاعر هو «ظل»، بمعنى أنه موجود بشكل مكمل أو مستمد من الآخر.
الطاولة التي «تسرق دفء
الأصابع»: تشير إلى الانجراف نحو الكتابة، واللون والحبر هما تعبير عن إحساسه بالعزلة.
«ولتَرحل كل أنثى لا تشتهي
فراديسي»: في هذا المقطع يظهر تمرد أو انفصال عن النساء اللواتي لا يشاركنه نفس
الرؤى أو الأحلام.
في نص «خوذة»، نتعثر بالتشبيهات المجازية:
لم
يلفحه البرد الممعن بالحديد
ولم
يصب قلبه الصغير
بزمهرير
إلهي
قبل
أن يبني عشه الدوري
في
خوذة الشهيد المعلقة
على
شجرة النارنج.
تظهر هنا مشاعر عميقة
متعلقة بالفقدان والموت والشهادة. النص يتحدث عن خوذة الشهيد المعلقة على شجرة
النارنج، وهي صورة قوية ترمز إلى فقدان الحياة في سبيل قضية أو وطن. ترمز الخوذة
إلى الحرب والموت والشهادة. تعليقها على شجرة النارنج يعبر عن خلود ذكرى الشهيد،
وربما عن محاولة إحياء شيء جميل وسط ألم الفقد. العش الذي يبنيه الدوري داخل
الخوذة، يرمز إلى استمرارية الحياة رغم الفقد.
في قصيدة «إله ينطق بجراحه»،
يقدم علي مراد صوراً أخرى عن الوطن:
لي
في هذا الوطن المستباح شبر فرح
لم
تلوثه الدماء
ولي
قصيدة بحجم الوريد ترقص على رصيف حروفها
المومسات
ولي
كل كنوز أناهيتا
إبرة
بحجم كوكب وجرح ينزف على أحذية السكارى...
لي
كل عواصم الغيرة ومني المقصلة
وحدي
لا شريك لي في هذا الفضاء النازف
لي
الحب ولي كل هذه الانكسارات
وأنا
على تجبير أجنحة الحلم قدير.
النص يشير إلى الوطن
كمساحة مستباحة، مليئة بالدماء والألم، لكنه في الوقت ذاته يحتوي على «شبر فرح» لم
يتلوث بعد، مما يوحي ببارقة أمل. والعبارة «إله ينطق بجراحه» تعطي النص بعداً
فلسفياً عميقاً، حيث يتم تصوير المعاناة بطريقة شبه مقدسة.
بحجم الوريد: تشير إلى أن
القصيدة تشكل جزءاً من حياة الشاعر كما يجري الدم في الوريد. و«المومسات على
الرصيف»: تشير إلى واقع يدنس الجمال.
سأعرج في ختام هذه القراءة
الانطباعية، على مقطع من نص بعنوان «سريعة العطب أنتِ كزجاج معشق... وأنا»:
بين
زمجرة الألم وجسدي المتهالك
تنهمرين
من مصل الغياب حتى آخر نقطة في دمي...
أخلع
بياض العدم، وأخرج من ثلاجة الموتى
حاملاً
قلبي وجمرات حنين...
أتشظى
كحلم على سرير الوجع
لأتعمد
بأصابعك
وها
أنت تغلقين أبواب مدن امتحنت العويل
بشمع
غريب وخيوط الزنا...
تنغر
سين في تربة روحي حتى لا نهايات الصنوبر
أيتها
الحاضرة...
إنكِ
تنتشرين في الأنحاء
ماااااا
أكثرك.
النص يبدأ بوصف المرأة
بأنها «سريعة العطب»، ما يشير إلى هشاشتها وجمالها في نفس الوقت. ويعبر النص عن
ألم عميق يخيم على الشاعر، مع إحساس عارم بالغياب والشوق.
«أتشظى كحلم على سرير الوجع»: يرمز إلى الانكسار والتفتت الذي يشعر به المتكلم.
في نهاية النص، تبدو الحبيبة وكأنها تملأ وجوده بشكل هائل، حتى يصبح غيابها جزءاً لا يتجزأ من حياته.
النصوص مليئة بالصور
الحسية والمجازية، وتعكس تناقضات عميقة بين الألم واللذة، الحب والغياب، الانكسار
والقوة. كما يتسم أسلوب الشاعر برمزية عالية وطابع فلسفي غني.