محمد شيخو
يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم،
وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح
وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع
غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن
أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب سريع لذاكرة كل منا
لن تفوتنا بالتأكيد أسماء بيتهوفن وهمنغواي وجبران خليل جبران وبابلو بيكاسو وشفان
برور... الأمر الذي قد لا يحدث فيما لو استجوبناها عن اسم ذاك الملك أو ذلك الحزب.
والسبب في ذلك واضح جليّ، وهو أن الملوك والأحزاب حالة طارئة في تاريخ الشعوب
بخلاف فنانيها الذين هم سفراء دائمون لشعوبهم في صراعها الحضاري مع غيرها، والمرآة
الحقيقية التي تعكس فكرها وثقافتها وفلسفتها في الحياة.
والرواية إحدى هذه الفنون العظيمة، ولا
سيما الرواية الواقعية؛ فهي إلى جانب تقديمها للمتعة والجمال تقوم برسم حياة
المجتمعات؛ أفراحها وأتراحها، آمالها وخيباتها، انتصاراتها وإخفاقاتها... إنها
مرآة تعكس صراع الإنسان في سعيه الدؤوب وراء واقع أفضل ينتصر فيه السلام والأمل
والحياة على الحرب واليأس والموت.
والروايتان اللتان نحن بصدد دراستهما
نقدياً الآن تنتميان إلى الواقعية، إلا أنهما لا تقعان في جمود التاريخ والسرد
الرتيب الممل، لكنهما تنقلان صوراً واقعية وأحداثاً حقيقية شهدتها مدينة كوباني الكردية
في مقاومتها البطولية لغزو تنظيم داعش الإرهابي، نقلاً فيه من إبداع الروائيينِ الكرديين
ما يجعل الروايتين تحفتين فنيتين مكتوبتين بحبر الواقع مضافاً إليه روح الروائيين جان
دوست وروح جان بابيير.
زمنياً تتفق الروايتان في رصد ما حدث
في كوباني بدءاً بما أسماه البعض الثورة السورية وانتهاء بليلة الغدر المعروفة،
لكنهما تعودان في بعض الأحيان إلى ما هو أقدم من هذه الحقبة الزمنية، تعودان
القهقرى وتستجوبان التاريخ السوري عامة والكوباني خاصة؛ أي في الروايتين زمنان:
قريب وبعيد.
وتتشابه الروايتان في كثير من الأحداث
والموضوعات، وهذا أمر طبيعي كونهما تتناولان مكاناً واحداً وزماناً واحداً،
وتختلفان في كيفية معالجة كل روائي لها، ويجب ألا ننسى أننا في النهاية أمام عملين
إبداعيين يعكسان ذات مبدعيهما ورؤيتهما وبصمتهما الفنية الخاصة.
جان دوست وجان بابيير، كلاهما لم يجددا
على مستوى الموضوع، أعني أن كلا الروائيينِ مقلدانِ لا مجددان؛ فكلتا الروايتين
تناولتا حياة مدينة (كوباني)، وفي السجل الروائي العالمي روايات عظيمة تناولت حياة
المدن، من مثل: الجريمة والعقاب للروائي الروسي دوستويفسكي، والقاهرة الجديدة للمصري نجيب
محفوظ، ووداعاً
للسلاح للأمريكي إرنست همنغواي، والقائمة تطول ولستُ أريد الإطالة في ذكر كل
الروايات التي تناولت حياة المدن.
لا أخفي عن القارئ منهجي النقدي في هذه الدراسة المقارنة
للروايتين؛ إني في دراستي هذه أستعين بأساليب وأدوات أكثر من منهج التاريخي،
الواقعي، الاجتماعي، الفني...؛ وأعتمد بالإضافة إلى كل ذلك على ذائقتي الأدبية،
وهي بالمجمل ذائقة لن تخلو من الحياد والموضوعية والنظرة الشاملة.
في الدراسة المقارنة قمت باختيار الأهم من بين ما هو مهم
والأكثر إلحاحاً من بين ما هو ملحّ، وتجنبتُ فيها الكثير من الجزئيات والتفاصيل
الصغيرة كي لا أطيل. والدراسة ستقدم ما هو جوهري على ما هو ثانوي، وتتناول في
الروايتين الجانب الفني والجانب الواقعي من خلال المحاور التالية:
أولاً: الأحداث:
(وقد ذكرْتُ في دراستين سابقتين ملخصاً لأحداث كل رواية، وهما منشورتان
في مواقع ثقافية عدة، وفي صفحتي على الفيسبوك لمن أراد العودة إليهما).
كلنا – ككوبانيين – نتذكر ما جرى في سوريا عموماً وكوباني
خصوصاً من أحداث باستجواب بسيط للذاكرة التي لا تزال تحتفظ بالأحداث كونها من
الماضي القريب. والروائي الأمين هو الذي يأخذ حياة الحرف من حياة الظرف، وينقل
الواقع كما هو وإن خالف ميوله وأهواءه، وينظر إلى الأحداث بموضوعية وحيادية دون
تشويه لها، فالروائي مسؤول أخلاقياً وعليه واجب الصدق الواقعي، كون الرواية
الواقعية وثيقة أدبية تعود إليها الشعوب في معرفة ماضيها.
1 – جان دوست:
في رواية «كوباني الفاجعة والربع» لجان دوست، الصادرة عن دار مسكيلياني
للنشر والتوزيع في تونس، تتداخل الأحداث
وتتنوع بالوصف والسرد والحوار مع اعتماد الروائي لطريقتي التحليل والتمثيل في رسم
شخصياته، فيجيد ويبدع في نقل الأحداث، ويرسم بالكلمات رسماً بارعاً ينقل القارئ
إلى قلب الحدث، فيتراءى له المشهد حاضراً حياً، وفي هذا براعة للروائي في حبكة
الرواية، وهي حبكة محكمة غالباً مفككة نادراً، لكنه في الحالتين مجيد بارع، يسرق
القارئ ويربطه بالرواية برابط لا فكاك له منه.
في روايته رسم مكتمل الأوصاف للبيئة
والشخصيات ومقدرة هائلة منه على نقل صورة دقيقة عن الواقع بكل تفاصيله، مضافاً
إليه الشعور المرهف والعاطفة الجياشة لمبدعها. لكن لا يجد القارئ الموضوعي صعوبة
في اكتشاف حقيقة أن جان دوست – أحياناً – ذو نظرة انتقائية تصل إلى حد الإيدولوجيا
في نقل ما يوافق هواه من أحداث، وما يتفق مع ميوله السياسية.
واضح جداً للقارئ أنه متحامل على الحزب
الحاكم في كوباني (الإدارة الذاتية الآبوجية). من ذلك مثلاً تتبعه لجرائم الكريلا (ب.
ك. ك)، وغضه للطرف عن تضحياتهم وبطولاتهم الكثيرة التي يعرفها القاصي والداني.
ولنتأمل الحوار التالي في الرواية، الحوار الذي لا ينقل حقيقة رأي الشارع الكوباني
في عناصر الحزب الحاكم حالياً في كوباني ومؤيديه، الحوار الذي يكتفي بنظرة أحادية
الجانب، ويقوّل الشخصيات ما يريد الروائي قوله ويحقنها بأفكاره ويقمع حريتها (ص:
106 و ص: 108):
- ليسوا سوى مجموعة أولاد.
- نعرفهم واحداً واحداً.
ليسوا سوى صعاليك.
- شغلتهم فاضية. سيرحلون مع
رحيل النظام.
- ليسوا سوى أوساخ. ابتعدوا
عنهم.
- هؤلاء شبيحة يا أبي. إنهم
أكراد لكنهم شبيحة.
- القشرة كردية أما اللب فهو
ذلك الخراء السابق.
2 – جان
بابيير:
جان بابيير– وإن بدا أكثر موضوعية من
جان دوست – يفتقد في كثير من مواضع الرواية إلى سرد انسيابي مشوق للأحداث، إذ
كثيراً ما تتقطع الأحداث بسبب استرسال الروائي واستسلامه لصوت الذات ونجواه
الداخلية، فتبدو للقارئ بوضوح حلقات مفقودة من المسلسل الروائي.
يغرق جان بابيير في وصف العلاقات
الحميمية الجنسية بين مانو وهيمن من جهة وبين مانو ونساء أخريات في الرواية من جهة
أخرى على حساب العمل الروائي. فيطغى الجنس في رواية «هيمن تكنسين ظلالك» الصادر عن
دار آفا للنشر والتوزيع في كوباني بشكل غير مقبول، ولو أنه اكتفى ببعض تلك
اللقاءات لكان أكثر قبولاً وإقناعاً، ولم أستطع أن أجدد مبرراً لتكرار اللقاءات
الجنسية بهذا الشكل المبالغ فيه رغم محاولاتي الكثيرة غير أنها تعبير عن الحب فقط.جان بابيير
لكن يحسب لجان بابيير – عكس جان دوست –
رؤيته الموضوعية للأحداث، إذ نقل بكل صدق واقعي آراء الشارع الكوباني بين مؤيد
ومعارض للحزب الحاكم في كوباني، فهو يتحدث بجرأة عن قمع الآبوجبة للمظاهرات
المؤيدة للثورة السورية وإغلاقهم لمكاتب الأحزاب الأخرى وملاحقة التنسيقيات تحت
شماعة عملاء أردوغان والجيش الحر، لكنه لا يتوانى عن ذكر حقيقة أنهم قدموا تضحيات
جسيمة، جاء على لسان مانو في الرواية (ص: 404):
«أنا أقدّس نضالهم ودماءهم، وإن كانت
لي ما لي من انتقادات على إيدولوجيتهم وعقيدتهم الفكرية، هذا شيء آخر فهم أبناء
دمنا...».
ومن ذلك أيضاً الحوار الذي دار بين
سوار ومانو (ص: 395):
- انظر يا مانو مَن ينضم
إليهم؟ الأميون والجهلة والذين لا يملكون عشيرة.
- كلهم أبناؤنا وهناك مثقفون
أيضاً.
ثانياً: الشخصيات:
1 – جان
دوست:
نجح جان دوست نجاحاً باهراً في رسم
شخصياته تحليلاً وتمثيلاً، فظهرت واضحة مكتملة الملامح، إلا أنه لم ينوع، علماً أن
في كوباني من الشخصيات من يستحقون أن يكون أبطالاً في روايته أيضاً. لكنه لسبب ما
اكتفى بشخصيات من حارته حارة سيدا فقط، وكانت نهايات الشخصيات تراجيدية مأساوية،
طغى فيها السواد على البياض والتشاؤم على التفاؤل والموت على الحياة في مرحلة حرجة
من تاريخ الكورد تتطلب إشعال شمعة في الظلام وزرع للأمل في نفوس شبعت إحباطاً
ويأساً.
ويبدو للقارئ المتفطن انتقاؤه المزاجي
لشخصياته، وتعاطفه مع كل شخصية تنتمي إلى عشيرته وتشويه كل شخصية لا تنتمي إلى
عشيرته، من ذلك تحامله على شخصيات بصراوي وآمد وحمزة وجميعها لا تنتمي إلى عشيرته،
وجميعها سلبية شريرة، فشخصية بصراوي (دلالة الاسم توضح أنه من عشيرة كيتكان) خال
الحاج مسلم جشعة تطمع بثروته، وشخصية آمد غير وفية خانت الحب مع خديجة بنت الحاج
مسلم، وشخصية حمزة (من شيران) شخصية يسيل لعابها للجنس والنساء!
إنه في الرواية يسعى سعياً حيثثاً إلى
تجميل صورة كل من ينتمي إلى عشيرته وتشويه صورة كل من لا ينتمي إليها. ترى أهي
عقدة النقص بسبب نظرة الكوبانيين لأفراد عشيرته (سيدا) كونهم مهاجرين أم رغبة في
الانتقام من كل من هو كوباني بحرمان من يسكنها من دور في روايته؟
أما شخصية زياد التونسي نديم حمه في
تونس، والذي ينضم فيما بعد إلى داعش، ويرتكب مع هذا التنظيم الإرهابي جرائم يندى
لها جبين البشرية في حق الكرد في كوباني، فلم أستطع أن أجد مبرراً لتعاطف الروائي
معه؛ ذلك التعاطف الذي برز عندما سرد ووصف طفولته، وأظهره ضحية لطفولة تعرضت للعنف
والقسوة، فهو إذاً حسب رؤية جان دوست ضحية لا جلاد.
ويظهر ابتعاد دوست عن الواقع عندما
ينسب جنسيات أفراد داعش إلى جنسيات غير سورية، علماً – وكما نعرف جميعاً – أن بين
عناصر داعش من كان سورياً من جرابلس أو صرين أو منبج...
2 – جان
بابيير:
باعتقادي لم يُوفّق جان بابيير في
تقديم صورة واضحة (كجان دوست) عن شخصياته، بسبب استسلامه لصوت الذات واسترساله
الشاعري في مواضع كثيرة تتطلب الاهتمام برسم الشخصيات. لكنْ يبدو أن جان بابيير
أكثر تنوعاً وإقناعاً من جان دوست في اختيار شخصياته؛ فعلى الرغم من كون روايته
معنونة بـ «هيمن تكنسين ظلالك» إلا أنه لا ينسى أن في كوباني من الشخصيات من يستحق
أن يكون جزءاً من روايته، كرشيد صوفي وزعيم كندش وحسين حمو لوري ونبو نادل المقصف
المعروف في كوباني وآخرين.
يبدو في الرواية حرص بابيير على تقديم
صورة حقيقية عن المجتمع الكوباني، بكل ما يحمله من تنوع يصل إلى حد المفارقة
المضحكة أحياناً، إذ لا ضير من اجتماع الملا وهاب الذي لا يشرب المنكرات مع أناس
يشربونها على طاولة واحدة من أجل نقاش حول الأدب (الفصل الثالث من الرواية)، ولا
بأس أن يلتقي فجراً مانو وهو يخرج من مطعم العم بشير سكران بالمصلين الخارجين من
المسجد (انظر الصفحة 350). إنها الواقعية الحقيقية التي لا ترضى بمثالية مصطنعة لا
تمت إلى الأحداث بصلة.
وعلى النقيض من جان دوست فقد أظهر جان
بابيير موضوعيته المطابقة للواقع، فأفراد داعش لم يكونوا جميعم من خارج سوريا كما
أظهر جان دوست، بل كان بينهم عناصر من المدن المحيطة بكوباني، كجرابلس وتل أبيض
وصرين ومنبج ودير الزور، إنها الحقيقة وإن كانت مريرة.
ثالثاً: هوية البيئة
الكوبانية في الروايتين:
حرصت كلتا الروايتين على رسم هوية
كوباني، بعاداتها وتقاليدها وطقوسها وتناقضاتها ومفارقاتها:
1 – جان
دوست:
نجح الروائي جان دوست في رصد بعض عادات
الكوبانيين، منها زواج الأخ من أرملة أخيه (حمه مثالاً)، وابن العم أحق ببنت العم،
وحداد العائلة والأقارب سنة كاملة بعد وفاة أحد أفرادها، والزواج المتعدد (الحاج مسلم
مثالاً). كما نجح في نقل الصراع داخل البيت الكوباني الواحد، من ذلك مثلاً التحاق لوند
المراهق بالبيشمركة والتحاق أخته روشن بوحدات حماية الشعب.
وفي رواية جان دوست صراع بين الدين
والفن تجلى في أكثر من موضع من الرواية، من ذلك مثلاً إقدام والد الروائي (الشخصية
المتدينة المتشددة) على تمزيق صور رسمها جان حين كان شاباً، لأن التصوير من
المحرمات في الإسلام. جاء في الرواية قول الروائي في الصفحة (151):
«هكذا كان أبناء عائلة سيدا يعزفون
بهدوء، منع الآباء اقتناء الآلات الموسيقية أو العزف عليها أو حتى سماع عزفها بسبب
حرمتها، فلم يكن أمام الأبناء بد من تعلم العزف في زوايا موحشة وفي ظلال الخوف
وبعيداً عن أعين الكبار».
لكن يُؤخذ على جان دوست طغيان الهم
الفردي في رواية من المفترض أن تعكس الهم
الجماعي ولا سيما أنها معنونة بـ «كوباني الفاجعة والربع»، إذ استبدل جان دوست
الجزء بالكل (حارة سيدا الجزء وكوباني الكل)، واستبدل بالعائلة الكبيرة (كوباني)
عائلته الصغيرة (عشيرة سيدا)، وإلا فلماذا تنتمي معظم شخصياته إلى تلك الحارة؟
ولماذا يخاف على مدفن عائلته فقط في وقت تحترق فيه كوباني بأكملها بسبب قدوم غزو
داعش (ص: 135)؟ ولماذا يتغنى ويشيد بأفراد عائلته فقط (الصفحتان: 222 و 223 )،
ويظهر غيرهم سلبيين أشراراً (بصراوي وآمد وحمزة)؟
2 – جان
بابيير:
تبدو بيئة كوباني أوضح وأكثر اكتمالاً
في رواية جان بابيير منها في رواية جان دوست، والسبب هو حرص جان بابيير على التنوع
في اختيار شخصياته بخلاف جان دوست، ففي روايته رائحة كوباني وهويتها كما هي في
الواقع، فرثاء هيمن لعائلتها ونواحها في المقبرة عادة كوبانية معروفة (رثاء
الأموات بالأغاني)، وكذلك المولود الجديد الذي يتم تزيين مهده بالتمائم وبقرآن صغير
وحجاب معلق بإبرة وخرزة زرقاء...، وكذلك ظاهرة (كوستك) عندما يبدأ الطفل بخطواته
الأولى، وأغاني الأمهات للأطفال الصغار قبيل نومهم، وصناعة الكعك (الكلور) قبيل
الأعياد، وظاهرة غلاء المهور في كوباني.
وقد تجلى في رواية «هيمن تكنسين ظلالك» كما في رواية كوباني الصراع بين الإخوة في البيت الواحد، فصراع النهج والفلسفة (البرازنية والآبوجية) ظهر بوضوح في بيت هيمن بين سوار (النهج) ونالين (الفلسفة).
رابعاً: اللغة والصور:
1 – جان دوست:
سار جان دوست على نهج الكلاسيكيين في
كتابة روايته بلغة سهلة واضحة هي من السهل الممتنع، تنساب عذوبة وسلاسة وجمالاً،
وقد جاءت معظم صوره في الرواية حسية (تُدرك بالحواس وطرفا التشبيه غالباً محسوسان)،
من مثل:
لسعني مثل عقرب. (ص: 28).
تنتصب أشجار كئيبة تبدو كأنها ترتعش
برداً. (ص: 30).
بكى كالنساء. (ص: 33).
الذكريات الجميلة مكانس يزيح بها
الخيال ألم الواقع. (ص: 38).
قلق أنا، قطرة مطر على زهرة في يوم ريح.
(ص: 68).
لم تذق عسيلته إلى قليلاً (حديث نبوي).
(ص: 142).
آلام كالشموع تحرق وتضيء... (ص: 152).
ذكريات استفزتها الأنقاض كما يستفز طفل
مشاكس الدبابير حين يولج عوداً محترقاً في عشها. (ص: 268).
ونادراً ما كان يبتكر ويجدد على مستوى
الصور، كما في الصفحة (195):
«التحق عاكف بصفوف الكريلا ليشتغل على
كيمياء الحرية ثم يضيع في معادلاتها القاتلة».
أسكرته الثورة والثورات خمر. (ص: 384).
2 – جان
بابيير:
أثقل جان بابيير الرواية بلغة شعرية
ضبابية في كثير من صفحاتها، وأتعب القارئ كما أتعب نفسه. وقد تسببت تلك اللغة
الشعرية المليئة بالمجاز والصور المركبة في إبعاد عمله هذا أحياناً عن فن الرواية،
إذ كان ذلك على حساب رسم الشخصيات ورسم البيئة وتطور الاحداث، ولا سيما عندما
يتعلق الأمر بالبطلين (هيمن ومانو).
لستُ أقف ضد شعرية اللغة في الرواية
عموماً، لكن أقف ضد الإكثار منها والمبالغة فيها وتحميل الرواية ما لا تحتمل.
وللأسف فقد عانت الرواية تحت وطأة هذه اللغة الرمزية ذات الإيحاءات الكثيفة التي
تناسب الشعر لا الرواية. أما على مستوى الصور فكثيراً ما ابتكر جان بابيير وجدّد:
الليل مثلي وحيد يدون سلالة مجد العتمة.
(ص: 41).
احترقت قناعاتها الكستنائية على جمر
أفكاري. (ص: 44).
كانت تحدق بي كمن يدقق نصاً بتوتر. (ص:
53).
لقاء ما زال يتعتق في دنان الانتظار. (ص:
125).
احدودب الوقت في التيه. (ص: 127).
لقد سقط النصيف عن عورة القيم أمام
مرآة الفاجعة. (ص: 239).
خامساً: قواسم مشتركة بين الروايتين:
من الطبيعي أن تتفق الروايتان في وصف
مكان محدد من كوباني، وذلك لتطابق المكان والزمان فيهما، من ذلك:
- وصف الحدود بين كردستان
سوريا (كوباني) وكردستان تركيا على لسان حمزراف:
جان دوست (ص: 49):
«رباه! تفصلني عن هذه القرى فقط عشر
دقائق مشياً، فلماذا هذه الألغام والأسلاك والحرس؟ هأنذا أسمع قوقأة الدجاجات
وثغاء الخراف هناك، هأنذا أسمع لغط الأطفال وصخبهم. هناك موطني الذي حرمتني من
زيارته. أهذا عدل يا ربي؟ ثم يستدرك: أستغفرك يا الله. اللهم لا تؤاخذني يا رب
العالمين».
جان بابيير (ص: 135):
«قدر هذه المدينة أن تنشطر بحدود
دولتين وعلمين ولغتين، لا تمتّان إلينا بصلة، بسكة قطار برلين بغداد، إحداهما أهدت
البشرية النازية والأخرى لوّثت رئتي عصرنا بأبشع دكتاتور كيماوي مؤنفل، تنقسم بين
الهضبة والسهل، بين نبعين (كانيا عربان) و (كانيا مرشده)، بين بوزان في الشمال
وأحمو كنك في الجنوب، كأنه حصار الدول الكبرى لدولة مارقة على القوانين (ممنوع
التقاء مانو وهيمن)، يا له من قرار تعسفي! وكنّا أنا وهيمن بين حجري الرحى...».
- وصف دمار كوباني بعد الحرب:
جان دوست (ص: 119):
«لا أرى سوى كتل متراكمة من الإسمنت
المسلح، وبيوت منهارة صامتة مثل امرأة قام عنها المغتصبون تواً. يا إلهي! أين
مدينتي؟ حارتنا ليست سوى أنقاض. كانيا عربان، السوق، البيوت التي كانت تغفو على
سفح مشتنور، كل مكان صار أنقاضاً. الزلازل القوية وحدها تفعل بالمدن ما أراه الآن».
جان بابيير (ص: 268، 269):
«المدن مثل البشر تموت أيضاً... كل تلك
الكتل من الإسمنت وأكوام الحجارة المترامية فوق بعضها... المكان تغير، ولم يعد سطح
زوزان صوفي ولا حبل غسيلها موجوداً، والوجوه التي تمر غريبة ومانو غريب... لم تعد
ألعاب طفولة مانو وحسو موجودة... أعلم أنني أزور جثة مدينة وأشلاء بيت... البيوت
صرعى كجنود بعد معركة طاحنة... قتلوا الماشية والشجر والبشر والأغاني... لقد توزّع
الظلم على كل بيت وحيّ بعدالة إلهية».
- وصف مقبرة كوباني:
جان دوست في الفصل الرابع:
«أنا في المقبرة... المقبرة الموحشة...
المقبرة هادئة، صامتة، حزينة، يتيمة ووحيدة في هذا العراء...».
جان بابيير (ص: 280):
«في هذه المقبرة اتحدت أجزاء كردستان
الأربعة، هنا موسى من شرق كردستان، وعكيد من الشمال، وسامان من الجنوب، وأبناء كل
مدن غرب كردستان، قبور لا تحصى كما النجوم، الكل هنا، لماذا أشعر بالوحدة؟».
-
وصف حال الكوبانيين في سوريا:
جان دوست (ص: 167) على لسان خديجة
للطبيب النفسي:
«نحن في تلك الجغرافية المجنونة أبناء
القسوة وأحفاد الألم. نحن من سلالة الخوف نرضعه ساعة نأتي إلى الدنيا، نحن نشبه
جغرافيتنا في الجنون والخشونة أيها الطبيب».
جان بابيير (ص: 252):
«منذ نشأتها كوباني كانت ابنة لقيطة من
أم عاهرة تسمى الجغرافيا وأب داعر يسمى التاريخ».
سادساً: الثالوث المحرّم في
الشرق (الجنس والدين والسياسة):
1 – الجنس:
يكتسب الجنس أهميته في الرواية من خلال
التعبير عن العلاقات الإنسانية أو كسر التابوهات أو إضفاء نوع من الواقعية على
الرواية.
يطرق جان دوست باب الجنس في الرواية
باحتشام واستحياء، من ذلك وصفه للعلاقة الغرامية الحميمية
بين حمه وأسومة في الصفحة (139):
«ثم صعدا إلى شقة في الطابق الرابع من مبنى موحش ودخلا
غرفة صغيرة بسرير معدني بسيط، ليقضيا ليلة من ليالي جنون الأجساد».
ومنه
أيضاً لقاءات خديجة وآمد في الصفحة (159):
«يتعانقان، الشفاه على الشفاه، عيونهما مغمضة، يدونان
قصائد العشق بألفباء الجسد».
أما جان بابيير فيبدو متمرداً جريئاً إلى حد غير مقبول
أحياناً في طرق هذا الباب في أكثر من فصل في الرواية. لقد بالغ جان بابيير في ذلك
وأكثر منه إلى درجة الإطالة المملة والتكرار الرتيب الذي أثقل كاهل الرواية بما
ليس ضرورياً على حساب ما هو ضروري، من ذلك مثلاً اللقاءات المتكررة بين مانو وهيمن
التي كانت غايتها الجنس لأجل الحب فقط، وليس لأجل دفع الأحداث إلى الأمام أو
البناء الروائي.
2 – الدين:
وهو خط أحمر من بين خطوط كثيرة في الشرق، يتجنب الناس
عادة الجدال فيه، لكن الأدب يكتسب أهميته بمقدار اقترابه مما يتحرج منه الناس،
وإلا فلا فائدة ترجى من أدب جبان يخاف الظهور تحت الشمس.
جان دوست:
بدا كما بدا في الموضوع السابق، محافظاً إلى حد ما بخلاف
جان بابيير، جاء في الفصل الحادي عشر على لسان الحاج مسلم لابنه الذي يعزف على
الباغلمة (باران):
-
ما هذا يا كافراً من نسل كفار؟ أنت لا تصلي فهمناها، لكن
ما هذا الطنبور أيها القواد؟
-
هذا ليس طنبوراً يا أبي. إنها آلة تسمى باغلمة.
-
غب عن وجهي يا رذيل. ألك لسان تتكلم به أيضاً؟ باغلمة،
طنبور، خراء، كلها آلات حرام. ألا تخجل؟ أنت جار لضريح حضرة الشيخ صالح. العمى!
وفي الفصل السادس والعشرين رصد لصدام الدين والفن مجدداً
(اعتقال داعش لباران).
أما الحاج علي إحدى شخصيات رواية كوباني فهو عربي من
عشيرة السادة، متدين متطرف، أحد مريدي جد الروائي الشيخ صالح، كان يمزق الطبول
ويكسر المزامير في الأعراس بتهمة مخالفة الشرع وكونها آلات لهو محرمة.
جان بابيير:
طرق هذا الباب في شخصيتين؛ مانو وهيمن، وكلتاهما كانتا
متدينتين تطورتا بتطور الأحداث وأصبحتا متمردين على الدين في النهاية، هيمن بتأثير
مانو عليها، ومانو بتأثير الأستاذ حسين حمو لوري عليه.
3 – السياسة:
تلعب السياسة دوراً مهماً ومتنوعاً في الرواية، وذلك
بتعزيز العمق السردي وتقديم رؤى نقدية وتحليلية للمجتمع والسلطة، وقد يهدف الروائي
من ورائها توجيه رسالة قوية عن ضرورة التغيير والإصلاح، أو يكشف بها الصراعات
الاجتماعية وتأثيرها على الفرد والمجتمع. كما إن إقحام السياسة في العمل الروائي
من شأنه أن يطور الحبكة والشخصيات ويمنح القارئ فهماً أعمق لحقبة زمنية محددة.
وبالعودة إلى رواية «كوباني الفاجعة والربع» نرى أن
الروائي لم يستطع إخفاء ميوله ورؤاه السياسية في الرواية، وهذا باعتقادي خطأ كبير،
فقد بدا واضحاً معاداته للأبوجية ومناصرته للبارزانية، وذلك في أكثر من فصل، من
ذلك نعته للأبوجية بالشبيحة تارة وبالصعاليك والخراء تارة أخرى على لسان شخصياته،
فمثلاً يرد الحاج مسلم على ابنه متين الذي يشيد بلفسفة القيادة وإرادة الحزب (الآبوجية)
في الصفحة (209):
«ها؟ ماذا قلت؟ إنك يا صعلوك تتكلم مثل سكران. أي حمار
سقاك بوله؟».
وفي الفصل الثاني والعشرين يرى جان دوست أن من أسباب
التحاق البنات والأبناء بوحدات حماية الشعب التعامل الفظّ للآباء معهم، مكتفياً
بسبب واحد من مجموعة أسباب. وفي الفصل الخامس والثلاثين ينحاز الروائي بوضوح
للبيشمركة من خلال التركيزعلى شجاعتهم في الحرب (لوند مثالاً)، الأمر
الذي يتجنبه الروائي حين يتعلق الأمر بالأبوجية مثلاً.
أما جان بابيير فقد بدا أكثر موضوعية في عرض آراء الشارع
الكوباني بين مؤيد للأبوجية ومعارض لهم (ص: 141). وبخلاف شخصيات جان دوست المحقنة بأفكاره
نرى شخصيات جان بابيير (عيشانه مثلاً) تدعو لقوات الحماية في كوباني: «وليكن
معكم الله» في حوار مع إحدى الرفيقات في الصفحة (260).
وفي أحداث ليلة الغدر حمّل الروائي جان بابيير على لسان
مانو وهيمن الإدراة الذاتية في كوباني وقوات الحماية مسؤولية المجزرة الأليمة،
وبذلك بدا موضوعياً واقعياً قريباً من رأي الشارع الكوباني الذي نعرفه جميعاً:
مانو: أشم رائحة الخيانة. (ص: 387).
هيمن: لا بد من وجود جواسيس بين قوات الأساييش. (ص: 387).
وهو في ذلك لا يتهم، بل يقدّم الأدلة (ص: 388):
«عناصر ترتدي زيّ وحدات الحماية».
(يتحدثون الكردية بإتقان).
ويكشف جان بابيير أسباب انضمام الفتيان والفتيات لقوات
حماية الشعب في الصفحة (394):
«الدعاية المتقنة للحزب ومساحة الحرية المزعومة والتحرر
من سلطة الأب والفكر الإقطاعي والعشائري».
ويصف جان بابيير الحقيقة التي شهدناها جميعاً، عندما يصف
موقف الكوبانيين من الحزب الحاكم في كوباني كم في الصفحة (395):
«استحالت المدينة شطرين بالفكر؛ أحدهما مسلح بسلاحين،
سلاح في يده وعقيدة القائد سلاح آخر في ذهنه، والقسم الآخر مدنيّ يكتفي بالمعارضة
السلميّة ويسيرون على النهج... أُغلقت مكاتب الأحزاب الأخرى وتمت ملاحقة
التنسيقيات تحت شماعة عملاء أردوغان والجيش الحر...».
يقول بطل الرواية مانو عن وحدات حماية الشعب والأبوجية (ص:
404):
«أنا أقدس نضالهم ودماءهم، وإن كانت لي ما لي من
انتقادات على إيدولوجيتهم وعقيدتهم الفكرية، هذا شيء آخر فهم أبناء دمنا...».
يمكننا القول إن جان دوست بارع في
الوصف ورسم البيئة والشخصيات وحريص على البناء الروائي أكثر من جان بابيير، وواضح
للقارئ أن روايته خضعت لكثير من المراجعة والغربلة والنقد قبيل نشرها بخلاف جان
بابيير الذي سرقه هوس اللغة الشعرية، فأضرّ بالبناء الروائي.
كما يبدو جلياً للقارئ إبداع جان دوست حين
يستسلم عاطفياً ويترك القلم يتحدث. أما جان بابيير فقد أبعده استسلامه العاطفي وحرصه
على اللغة الشعرية عن الاهتمام بالبناء الروائي الذي بدا غير مكتمل الملامح على
مستوى الشخصيات والبيئة.
وفي النهاية فقد كان حرصي على إغناء النصين
الروائيين من خلال الملاحظة والتحليل والتفسير والتقييم، وإدراك مواطن الجمال والإبداع
فيهما، لحث الناس على قراءته وتشويقهم إليه، ولم أسعَ أبداً إلى محاسبة الأديبين،
أو التقليل من درجة إبداعهما، أو حظر حريتهما في تناول الموضوعات.