عيسى الأحمد
في زمن غلبت فيه
المنصات الرقمية على المجالس الثقافية، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا
مفتوحًا لكل من أراد أن يدلو بدلوه في قضايا الفكر والمعرفة، بات من الضروري أن
نعيد تعريف مفهوم "النقد"، وأن نضع النقاط على الحروف فيما يخص منهجيته
ومكانته العلمية.
لقد لاحظنا، وعلى غير
العادة، أن البعض ممن يحملون صفة "أكاديمي" يستسهلون الظهور في ثوب
الناقد، لا بغرض إثراء النصوص أو تقويمها، بل بدافع الانتقاص والتشهير، فيقضون
وقتهم في تتبع الأخطاء النحوية والإملائية بحثًا عن زلّة تضعهم تحت أضواء التصفيق
الرقمي، دون أن يقدّموا قراءة جادة أو تحليلاً علميًا يضيف شيئًا إلى النص.
المؤلم أن هذا النقد
السطحي لا ينم عن معرفة ولا يستند إلى أدوات النقد الحقيقية، بل كثيرًا ما يكون
مدفوعًا بأهواء شخصية أو نزعات استعراضية. والأسوأ من ذلك، أن هذا النوع من
"النقد" يفرغ النص من مضمونه، ويجرّ الحوار إلى مساحات من السباب الشخصي
والاتهامات، بدلًا من أن يكون ساحة لتلاقح الأفكار وتطوير المفاهيم.
فالناقد الحقيقي ليس
من يترصّد زلّة قلم، أو يقيم مأتمًا على همزة نُسيت، بل هو من ينظر إلى النص بعين
العارف، ويسبر أغواره بقلبٍ لا يسكنه إلا شغف المعرفة.
إن النقد الحقيقي لا
يكون بمجرد التقاط العثرات، بل هو دراسة واعية للنص، تبدأ بقراءة متأنية، ثم تأمل
في البنية والأسلوب والمعنى، وتصل إلى تقديم رؤية جديدة تثري العمل وتفتح آفاقًا
للباحثين والقراء على حد سواء. فالنقد، في جوهره، ليس هدمًا، بل بناء معرفي يتطلب
تتبع الظواهر وتحليلها والعودة إلى مصادرها، بل وإلى التراث ذاته.
فهو فن شريف، يتطلّب
قبل كل شيء إخلاصًا في النية، وعمقًا في الفهم، وتهذيبًا في الطرح. إنه قراءة
عاشقة، لا قراءة متربصة؛ حوار هادئ، لا مبارزة غوغائية؛ بناء متأنٍّ، لا هدم
متسرع.
لقد حضرت العديد من
مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه، وكان من أبرز ما فيها ذلك التوازن بين
التقدير لجهد الطالب، والإشارة الدقيقة إلى ما غفل عنه، ومناقشة منهجيته، وكل ذلك
بلغة علمية راقية تهدف إلى الارتقاء بالبحث. هذه هي البيئة التي يُمارس فيها النقد
بمعناه الأكاديمي الحقيقي، لا كما نراه على صفحات بعض رواد التواصل ممن جعلوا من
النقد وسيلة لادعاء الفوقية.
ختامًا، إن النقد
مسؤولية لا ينبغي أن يتصدرها من لا يملك أدواتها، وهو علم له أهله ومناهجه، لا
ساحة لكل من أراد أن يُظهر نفسه على حساب الآخرين. فليُترك النقد لأهله، ولتُرفع
قيمة النصوص من خلال قراءات تضيف ولا تهدم.
فلنُعد للنقد معناه،
ولنُغربل الساحة من زيف العناوين. النقد أمانة، لا مجدًا شخصيًا. فليتركه من لا
يملك عدّته، وليرتفع به من عرف قدره، وليبقَ النص – دومًا – هو المركز، لا الكاتب.