في رحلة الإنسان نحو
البحث عن الذات، يجد الكثيرون أنفسهم في مواجهة تحديات ليست بالضرورة خارجية فقط،
بل داخلية، في صراع بين القناعات، والقيم، والبيئة التي تحيط بهم. وإذا كان التحدي
الأكبر في فهم الذات، فإن التحدي الآخر يكمن في نقل تلك الفهم إلى العالم الخارجي،
خاصة حين تكون الرسالة مختلفة عن التيار السائد.
قصتي ليست فريدة من
نوعها، لكن خصوصيتها تكمن في كونها رحلة تداخل فيها الإيمان، المعرفة، والفن في
كيان واحد، ليصبح التعبير عن الذات مهمة شاقة وسط بيئة ثقافية واجتماعية لم تحتضن
بعد التنوع الفكري والتعبيري.
عندما قرأتُ «نهج
البلاغة» بعمر عشرين سنة، و«تفسير القرطبي» عند الخامسة والعشرين، لم يكن هدفي
مجرد التعمق الديني، بل كان جزءاً من بناء وعي روحي وفكري متكامل. التزمتُ
إيمانياً منذ الصبا، لكن ليس فقط كطقس خارجي، بل كحقيقة أعيشها وأستنير بها في كل
ما أكتب وأفكر.
مع ذلك، كان المحيط من
حولي يفتقر إلى ذلك الوعي، سواء قبل الإسلام أو حتى في إطار الممارسة الدينية
نفسها، ما شكل فجوة واضحة بين ما أؤمن به وما يُتوقع مني في مجتمع يختزل الدين في
طقوس شكلية أو أحكام جامدة. هذا التباين بين الذات والبيئة لم يكن فقط تحدياً
نفسياً، بل انعكس بشكل حاد في تعامل الناس معي، خاصة حين بدأت أكتب عن مواضيع الفن
والثقافة، التي في نظر البعض تبدو بعيدة أو حتى متناقضة مع الدين.
في ظل ما يمكن تسميته
بـ «الثورة العقائدية» والهجمات المغلقة على حرية الفكر، وجدت نفسي أُتهم بالكفر
والزندقة فقط لأنني طرقت أبواب الفن، وناقشت مواضيع غير مألوفة في مجتمع يختزل
التعبير في نمط واحد. هذا الاتهام لا يوجه لي فقط ككاتبة، بل هو بمثابة رسالة
تحذير لكل صوت مختلف يحاول الخروج من القوالب.
ولا يمكن تجاهل أن هذه
المعاناة تتضاعف عند المرأة بشكل خاص، إذ أن التحديات التي تواجهها ليست فقط فكرية
أو اجتماعية، بل تتجلى في شكل استهزاء وتنمر متزايد، يستهدف جسدها، مظهرها، وحتى
وزنها، كما لو أن حرية التعبير والإبداع لا تجتمع مع أنوثتها. في هذا المجتمع،
تصبح الكلمة أداة للتحقير، والاختلاف ذريعة للسخرية، ولا تتوقف الهجمات عند حدود
النص أو الفكر، بل تمتد لتطال الشخصية والكرامة.
هنا تكمن المعضلة
الكبرى: كيف يمكن للمرأة أن تعيش إيمانها الحقيقي، الذي ينبع من روحانية شخصية،
وتعبر في الوقت نفسه عن فنها وأفكارها بحرية، وسط موجة من الاستهزاء والتنمر التي
تحاول تحجيم صوتها وتدمير ثقتها بنفسها؟ هل يُطلب منها أن تختار بين احترام ذاتها
وعيشها الإيماني، أو أن تتخلى عن شغفها وعبيرها الفني؟
الإجابة ليست سهلة،
لكنها تكمن في أن الإيمان الحقيقي لا يتناقض مع الفن، بل يثريه، وأن الفن أرقى
أشكال التعبير عن الروح الإنسانية التي خلقها الله بكل جمالها وتعقيداتها. إذاً،
لا ينبغي أن يكون الفن سبباً في وصم الإنسان بالكفر، ولا مبرراً للتحقير والتنمر
عليه، بل عليه أن يكون جسراً لفهم أعمق وأشمل.
إنّ رحلتي التي تداخل
فيها الدين والفن، والمعرفة والثقافة، تؤكد أن الإنسان، وخاصة المرأة، كيان متعدد
الأبعاد، لا يُختزل في صورة واحدة أو قالب محدد. وأمام هذا الواقع، يبقى الأمل في
أن تتسع المساحات الفكرية والثقافية، لتقبل التنوع والاختلاف، وأن يُحترم كل صوت
يحمل رسالة صادقة، مهما اختلفت طرق التعبير.
في النهاية، تبقى
الكتابة رسالة مقدسة، وأداة للوعي والتغيير، لا يمكن أن تُقيدها مخاوف أو أحكام
جامدة، بل تحتاج إلى شجاعة وإيمان راسخين لمواجهة كل التحديات، خصوصاً في ظل مجتمع
لا يزال يكافح قبول صوت المرأة كذات مستقلة ومتعددة الأبعاد.