في المجتمعات التي
تتسابق نحو التقدّم الثقافي وتفاخر بمنصات الفكر والمعرفة، يبدو للوهلة الأولى أن
الأفراد – لا سيما النساء – قد تجاوزوا تقاليد الغيرة المرتبطة بالمظاهر السطحية
أو العلاقات العاطفية. لكن الحقيقة أن الغيرة، كعاطفة إنسانية متجذرة، لا تُمحى بمجرد
اعتناق الثقافة أو حضور الندوات الفكرية؛ بل إنها تأخذ شكلاً آخر، أكثر رقة وأشدّ
خفاءً، وتلبس أقنعة متعددة يصعب تفكيكها بسهولة.
«المرأة بحاجة إلى غرفة تخصّها ومال يكفيها، كي تكتب». فرجينيا وولف
في إحدى الأمسيات
الأدبية، تجمع الحضور حول كاتب معروف جاء لتوقيع كتابه الجديد. لم يكن الحدث
سياسيًا أو فنيًا، بل مناسبة معرفية خالصة – ظاهريًا على الأقل. لكن المتأمل في
تفاصيل المشهد يلحظ أمورًا لا تسجلها الكاميرات ولا تُروى في التقارير الثقافية:
امرأة تُسرع بالوصول إلى منصة التوقيع كي تكون أول من يصافحه، وأخرى تراقبها من
بعيد بنظرات صامتة. ابتسامات مجاملة، تصفيق مشترك، ونقاشات حول مضمون الكتاب –
كلها تُغلف ما هو أعمق: مشاعر تنافس خفية، وغيرة ناعمة تختبئ خلف الكلمات الرزينة.
وكما قالت فرجينيا
وولف ذات مرة: «المرأة بحاجة إلى غرفة تخصّها ومال يكفيها، كي تكتب»، وربما تحتاج
أيضًا إلى مساحة نفسية خالية من المقارنات والضغوط، كي تُبدع وتنجز بعيدًا عن صراع
القبول والاعتراف.
«نحن لا نختار مشاعرنا، بل نكتشفها عندما تتجلّى في تصرّفاتنا». سيغموند فرويد
الغيرة هنا لا تتعلّق
بجمال أو مال أو مكانة اجتماعية. إنها غيرة من التفوق الرمزي، من نيل لحظة قُرب
استثنائية من عقل نخبوي، أو من فرصة احتفاء قد لا تتكرر. كثير من النساء في
الأوساط الثقافية يعشن هذه المشاعر دون أن يعترفن بها، وربما دون وعي مباشر بها.
فالمصافحة التي بدت عابرة، أو الصورة مع كاتب، أو حتى مداخلة نالت إعجاب الحاضرين،
قد تثير مشاعر كامنة تتعلق بالإحساس بالجدارة أو القرب من الضوء.
وقد عبّر سيغموند
فرويد عن هذه الديناميكية النفسية بقوله: «نحن لا نختار مشاعرنا، بل نكتشفها عندما
تتجلّى في تصرّفاتنا»، وهكذا تبدو الغيرة الثقافية كمشاعر مؤجلة، تظهر حين لا
يتوقعها أحد.
قد يبدو الأمر تافهًا
لمن ينظر من الخارج، لكنه يحمل في طيّاته الكثير عن النفس البشرية. فالثقافة، رغم
سموها، لا تجرّد الإنسان من طبيعته العاطفية، بل تمنحه أدوات أكثر لطفًا للتعبير
عنها. الغيرة الثقافية قد لا تُصرّح بها صاحبتها، لكنها تظهر في تعليقات مقتضبة،
أو في منافسة غير مباشرة، أو في انشغال بإثبات الذات داخل محيط نخبوي.
وفي هذا الإطار، ليست
الغيرة أمرًا سلبيًا بالضرورة. فهي قد تدفع البعض نحو تطوير الذات، نحو القراءة
الأعمق، أو المشاركة الأذكى في الحوارات الفكرية. لكنها تصبح عبئًا حين تتحوّل إلى
مقارنة مفرطة، أو شعور بالنقص، أو محاولة لتحجيم نجاح الآخر باسم التوازن.
كما قالت سيمون دي
بوفوار: «المرأة لا تُولد امرأة، بل تُصبح كذلك»، وربما في أروقة الثقافة، تصبح
المرأة أيضًا ناقدة لذاتها، تقيس قيمتها على سلم غير مرئي من القرب من السلطة
الرمزية.
من المهم أن ندرك أن
المرأة المثقفة ليست كيانًا منفصلًا عن الطبيعة البشرية، ولا يمكن أن تُعرّى من
مشاعرها بحجة أنها “أرقى” أو “أعقل”. بل لعلّها أكثر حساسية لتفاصيل التقدير، وأشد
وعيًا بإشارات القبول أو التفضيل، مما يجعل الغيرة أكثر تعقيدًا وتخفّيًا في هذا الوسط
بالذات.
«الغيرة حين تزدان بثوب الثقافة، تظلّ حاضرة». ضحى عبد الرؤوف المل
كما أن الساحة
الثقافية، بتركيزها على الإبداع والتميّز الفردي، قد تعزز دون قصد هذا النوع من
التنافس الصامت. فالتميّز هنا ليس مجرد نتيجة لمجهود، بل اعتراف نخبوي يتوق إليه
الكثيرون. وعندما يدخل هذا الاعتراف في معادلة اجتماعية تحضر فيها الرموز والوجاهات،
يصبح من السهل أن تتسلل الغيرة حتى في أرقى المحافل.
كما أن الغيرة، حتى
حين تزدان بثوب الثقافة، تظل حاضرة. لكنها ، لا تُعبّر عن سطحية بقدر ما تكشف عن
حساسية إنسانية تجاه التقدير والاعتراف. وربما تكون الخطوة الأهم ليست في إنكار
هذه المشاعر، بل في فهمها وتوجيهها نحو تطوّر حقيقي، دون أن تتحوّل إلى مرآة مشوشة
نرى فيها الآخرين بعيوننا لا بواقعهم.