نحن اللغة، واللغة
نحن. إننا متصالحون جداً، وبشكل وثيق مع هذا الاعتقاد اللا إرادي، ونحن نعيش في
سجن كبير داخل ذواتنا اسمه «اللغة». نعم إن اللغة سجن لا نريد الخروج منه، لأنها
سجن معبق ومعشعش بالحرية والإرادة.
قد لا يملك الإنسان
الذي يتقن أو يتكلم لغة واحدة شيئاً من زعزعة اليقين أو لفت الانتباه، عند الحديث
عن اللغة، وقد يمر على مفردة «اللغة» مثلما يمر على حجر مهمل وسط الطريق. إلا أنني
أمر على اللغة وكأنها حجر رخام وسط فلاة، فلا أستطيع أن أتوقف عنده، وأسأل نفسي أسئلة
عديدة لا أملك إجاباتٍ عنها.
كل هذه الحيرة والقلق
لأني كوردي أُميّ – لا أكتب وأقرأ باللغة الكوردية – ودوماً أشعر بالضياع بين
اللغة العربية والكوردية، ولا أملك اليقين حيال أيّ منهما.
«هل تمتلك أكثر من
لغة؟ هل تتقن أكثر من لغة؟» قد يبدو السؤالين بنفس المعنى، لكن إذا دققنا التفكير
فيهما بعد قراءتنا لكتاب «غيرة اللغات»، سنعتبر أن السؤالين مفكّكين ومنفصلين.
«هل نحن نحب اللغات
التي نتقنها بنفس المستوى من الحب؟ وهل أستطيع أن أمتلك أكثر من لغة، أم أنه يجب
أن أتخلى عن إحداها؟» قد نتوهم أن الإجابة على هذه الأسئلة في منتهى البساطة
والبداهة، ولا تحتاج إلى تجربة أو خبرة، لأننا نتعامل مع اللغة، واللغة كما يقول
عنها ابن جنيّ في كتابه «الخصائص»: «اللغة أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم».
ويرى أرسطو أنّ اللغة
التي ينطق بها الإنسان ما هي إلا دلائل تشير إلى ما يعتمل بداخله من عواطف وأفكار
وانفعالات نفسيّة. أما ديكارت فيعتبر اللغة هوية إنسانية، ويرتبط هذا بامتلاكه
للعقل وإن فقد آلة النطق، فإنه يخترع أساليب أخرى للتواصل (لغة الإشارة مثلاً).
لكن النظر بسطحية لهذه
الأسئلة هو دليل تآلفنا مع لغاتنا التي ننطقها ونتقنها. ولإعادة تعاقدنا وتشكيل
علاقتنا مع اللغة؛ يكتب الكاتب الأرجنتيني أدريان ن. برافي كتابه «غيرة اللغات».
اللغة الأم لأدريان هي
الإسبانية، لكنه قرر أن يخوض تجربة البعد عن الإسبانية، لا ليتخلى عنها أو يستعيضَ
بغيرها، بل ليكتشفها (الإسبانية) ويتعلق بها، فانتقل إلى اللغة الإيطالية وبدأ
يكتب بها ويعيش بها (نعم يعيش بها).
صدر كتاب «غيرة اللغات»
في نسخته الإيطالية عام 2017، وقامت دار فواصل للنشر والتوزيع بترجمته في عام 2019.
حيث يقع الكتاب في 176 صفحة، ويتوزع على شكل مقالات نُشرت سابقاً، وقام الكاتب
بجمعها ونشرها.
لغة بلا شيخوخة:
لقد ظل أدريان يستخدم
لغته الأم إلى سن الرابعة والعشرين، وهجرها إلى الإيطالية لتبقى بالنسبة له لغة
الطفولة: «وما كنت لأتخيّل أبداً أن لغتي الأولى، الإسبانية، أو بالأحرى القشتالية
التي استخدمتها حتى سنة الرابعة والعشرين تقريباً، كانت ستصبح بالنسبة إليّ لغة
مبتورة، لغة بلا شيخوخة، كما هي لغتي الإيطالية بالنظر إلى الماضي، لغة بلا طفولة،
لأن ألوان ونكهات طفولتي تتحدث بلغة أخرى». وهذا جعله يترك كلمات بالإسبانية (أو
ينساها نتيجة عدم استخدامها) لتظهر مكانها كلمات بالإيطالية.
ويرى برافي أن الحنين
إلى الطفولة ليس لأجل الطفولة بعينها، ولا إلى المكان الذي عِشنا فيه الطفولة،
مستشهداً بفقرة من كتاب «ميثاق الغربة» للكاتب والناقد الإيطالي أنطونيو بريتي: «في
الواقع نحن لا نحنّ إلى المكان، ولكن إلى الزمان الذي عشناه في ذلك المكان، لا إلى
الطفولة، بل إلى الزمن الذي ترمز إليه الطفولة».
وعلى أثر طفولة ضاعت
مع اللغة يتحسر برافي على طفولته ويحن إليها وهو واثق بأنه لم يعد إليها كما كانت «موكب
من أشياء شكّلت في الماضي جزءاً من عالم كان مكنوناً بالفعل في داخلي، مخفياً
ربّما بسبب قربي منه، وكان البعد هو ما كشف الحجاب عنه ليضعه نصبَ عينيَّ. عند هذه
النقطة، يصبح هذا العالم حقيقياً على نحو مضاعف».
هل نستطيع أن نروي قصة
حزينة بغير اللغة التي حصلت فيها الحادثة؟
قد يصعب على شخص يتقن
أكثر من لغة أن يروي حدثاً أليماً يستحوذ على مشاعر مستمعيه ويؤثر فيهم بلغة غير
لغته الأم، واللغة التي حصلت بها الحادثة (بإمكانكم أن تجربوا هذا)، يبرهن برافي
على فكرته هذه بقصة حدث مع عمته قائلاً:
«كانت لي عمة، أخت
لأبي، غادرَت بعد الحرب مباشرة من سامبوكيتو، إحدى بلدات مقاطعة ماتشِرانا
الإيطالية، لتتوجه إلى الأرجنتين. غادرَت ميناء جنوة بصحبة زوجها – وهو بولندي
كانت قد التقته في أثناء محاولته الاختباء من القصف الألماني – وابن لهما لم يكد
يبلغ عمره أربعة أشهر. كانت السفينة التي كانوا يسافرون على متنها قد عبرَت منذ
قليل خط الاستواء، وكانت قد نفِذَت إمداداتهم من مياه الشرب. أُصيب جميع المسافرين
بالذعر، ولم يترك الطفل لحظة واحدة حلمة أمه. ربّما كان هو أيضاً خائفاً، وبقي
طوال الوقت ممسكاً بها بين لِثاتِه، كما روت لي عمتي. بالحلمة الأخرى الحرّة تعلّق
أطفال آخرون. كانوا يبللون شفاههم بذلك النزر من الحليب الذي تيسر لهم امتصاصه.
كانت الأمهات – كما روت عمتي – يتضرّعن إليها أن تنجد أطفالهن. وكانت هي تفعل كل
ما في وسعها بما أوتيت من حليب في صدرها. الأطفال الذين لم تُكتب لهم النجاة كانوا
يلفونهم بغطاء سرير أبيض ويرمونهم في البحر. أحَصت عمتي منهم خمسة. وذلك الرقم
بقيت تحمله في داخلها كإثم لبقية حياتها – خمسة أطفال لم أتمكن من إمساك رمقهم – كانت
تقول».
يتابع برافي: «لم أرَ
قط عمتي تبكي وهي تروي هذه القصة بالإسبانية، لغتها المتبناة، حتى وإن كان جلياً
أنها كانت في غاية التأثر، على الرغم من مرور عدة سنوات على الحادثة، ولكن عندما
سمعتها ذات يوم ترويها بالإيطالية، رايتها تبكي لأول مرة».
هذه المرأة (عمة
الكاتب) لم تبكِ في كل المرات التي روت فيها القصة بغير لغتها الأم، ولكن عندما
روتها بلغتها الأم (الإيطالية) تأثرت بها إلى درجة أن ذرفت الدموع، دلالة أن المرء
لا ينطق بأصوات جوفاء خالية من الروح ولا تبض بالحياة، إنما اللغة والألفاظ كائنات
حية ونعيش داخلها. وتأكيداً على فكرته هذه ينقل عن هيكتور بيانشوتي (كاتب فرنسي من
أصول أرجنتينية – إيطالية): «أننا لا نشعر بالحزن بالطريقة نفسها في لغةٍ وأخرى،
تماماً كما لا يمكننا أن نروي القصة نفسها بلغتين مختلفتين، سيكون هناك على الدوام
انزلاقٌ ما».
هل يمكن للمرء أن
يتخلى عن لغته الأم؟
يرى برافي أن الإنسان
لا يستطيع أن يتخلّى عن لغته الأم، حتى وإن ترك التحدث بها، وهجرها إلى غيرها. لأن
اللغة ليست مجرد وسيلة للكلام والتواصل فقط، بل هي طريقة تصوّرنا حيال الأشياء، فتعطينا
شعوراً، وتصوراً ونظرةً للأشياء، إنها فن تأويلنا للعالم ونحن في النهاية نتكلم
لغتنا الأم بلغات أخرى كثيرة. فيرى أنه ولو ابتعدنا عن لغتنا الأم لكننا لا نستطيع
الانفصال عنها، فلا توجد لغة تحل محل اللغة الأم، بل إن اللغة الأم هي التي تصوغ
صوتها داخل اللغة الأخرى، مغيرة بناء الجمل، ومشوشة علم الصوتيات.
تحدث كأجنبي بلغتك
الأم!
كلنا نظن أننا نعشق
لغاتنا عندما تحيط بنا وتحوطنا مثل أُم رؤوم، ونتكلم بها ونحفظ قواعدها النحوية
والبلاغية ونحفظ أشعارها، فنظن أننا وصلنا لقمة الحب والتعلق بها، وقد يصل بنا
الأمر أن نرفض تعلم أي لغة أخرى مخافة أن تشوّش علينا لغتنا الأم، وقد يصل بنا
الأمر إلى اعتقاد أن لغتنا لغة أهل الجنة وأفضل اللغات على الأرض على الإطلاق.
إلا أن برافي يأخذنا
إلى مساحة مختلفة من النظر والتفكير؛ فهو يرى أنه على المرء أن يكوّن لغة أجنبية
داخل لغته الأم ليفتح خط هروب في لغته ليستطيع أن ينظر إليه من مسافة بعيدة، وأن
هذه المسافة هي التي ستجعله يفهم لغته، والضياع فيها ولكن بطريقة واعية وإرادية.
يستشهد برافي بكلام للنمساوي
هوغو فون هوفمانستال (روائي وشاعر وكاتب مسرحي): «العشق الحقيقي للغة غير ممكنٍ من
دون التنكر للغة».
اللغة العدو:
يعتقد برافي أن هناك
لغة تكون عدواً للإنسان، وهي اللغة غير الأم، فهذه اللغة الجديدة تزاحم اللغة الأم
وتستحوذ على مساحة من وجدان الناطق بها، بما يخلق حالة من المنافسة والعداوة بينها
وبين اللغة الأم.
يقول أقلأني وغواتاري:
«أن ما يمكن أن يُقال بلغة لا يمكن أن يُقال بلغة أخرى، وأنه لا يمكن أبداً أن
تنتمي نفس القصة إلى لغتين مختلفتين بالقوة نفسها. وزبدة القول أن القصص الأكثر
نجاحاً هي تلك التي تحظى بإيقاعٍ في اللغة المؤهلة لسردها».
واللغات قد تغار من
بعضها البعض بحيث أن كلمات وألفاظ كل لغة تزيح الأخرى من ذاكرة ولسان الناطق بها،
ليصل إلى درجة التعثر والتلعثم، مثلما هيمنت الفرنسية على مجريّة أغوتا كريستوف
(كاتبة مسرحية مجرية).
إن كتاب أدريان ن.
برافي التجربة والاهتمام من القارئ، وخاصة لأولئك الذين يتحدثون أكثر من لغة، أو
أنهم يعيشون في بلدان تتميز بالتنوع القومي والإثني (مثلي)، ليس لأنهم سيعيدون
اكتشاف لغتهم أو أنهم سيحبونها ويتعلقون بها أكثر، بل لأنهم سيعيدون اكتشاف أنفسهم
من جديدة وبطريقة مختلفة، سيكونون كما أنهم يتكلمون مع أنفسهم أمام المرآة.