recent
جديدنا

مازن عرفة لموقع «سبا»: رواياتي هي «سيرة حياة» الإنسان المدمّر والممزّق (3)

الصفحة الرئيسية


 

حاوره: إدريس سالم

 

في ظلّ واقع عربي مأزوم، يتناسل فيه الخراب من الذاكرة، ويتحوّل فيه الحنين إلى عبء وجودي، يبرز صوت مازن عرفة، كواحد من أبرز الأصوات السردية، التي تجاوزت حدود الرواية التقليدية، متوغّلاً في تفاصيل الألم والاغتراب والكوابيس الجمعية. ما بين «داريا الحكاية» و«الغابة السوداء»، تنبثق نصوصه بوصفها مرآة للشرخ الوجودي، وسردية متمرّدة على السائد، لا تكتفي بوصف المأساة، بل تسائل جذورها العميقة، وتفتح الجراح لتدوين الوجع السوري الجمعي.

في هذا الحوار، نستكشف مع الروائي السوري، مازن عرفة، رؤيته الأدبية والفكرية والإنسانية، ونتوقّف معه عند أبرز تحوّلات تجربته، بين المنفى والذاكرة، بين «الراوي – الفرد» و«الراوي – الجمعي»، في محاولة لفهم كيف يمكن للأدب أن يكون وسيلة مقاومة، وسردية شفاء، في مواجهة العتمة.

إلى الجزء الثالث من الحوار:

 

السؤال العاشر: فكرة «الجثث الجمعية»، التي تمثّل شرخاً في ذاكرة البطل، هي طريقة كابوسية مبتكرة في تركيزها على «معاناة جمعية» لأفراد قضوا في مجازر وحشية. هي تجربة سردية متصدّعة عن قصد، بلغة كابوسية كثيفة، استطعت بها الخروج من إطار «إنسانية محلّية» إلى «إنسانية كونية». هذا ما ظهر في القسم الثاني من «داريا الحكاية» على سبيل المثال. لكنك في القسم الأول من الرواية نفسها، أفسحت المجال لنصّ يتراوح بين «الملحمية» و«تفاصيل الحياة اليومية»، بكثافة شعرية متميّزة. ما الذي يدفعك إلى اعتماد هذا الشكل السردي المتصدّع بانسجام مع الشكل الأشبه بالواقعي – الشاعري معاً؟ كيف يخدم هذا الأسلوب موضوع الرواية وأهدافها، وأيضاً مشروعك الكتابي؟

انتفضت بلدة داريا بمظاهرات سلمية في بداية «الثورة السورية»، (كان غياث مطر أيقونتها). لكن بعد مجزرة «السبت الأسود» الشهيرة فيها، تعسكرتِ المعارضة فيها، وقاومت لعدّة سنوات الحصار المطبق عليها، من قبل «ميليشيات النظام الديكتاتوري العسكري» و«الميليشيات الشيعية الإيرانية»، المستقدمة من خارج البلاد. في أثناء ذلك، وعلى طريقة مسح المدن بالكامل، التي طبقت بإشراف النظام الروسي، وفق تجاربه السابقة في الشيشان، تمّ تدمير كامل مباني البلدة بالبراميل المتفجّرة، الملقاة من الحوّامات العسكرية. وعند ترحيل مَن نجا من أهلها من الموت إلى الشمال السوري، تم البدء بمخطّط «التغيير الديموغرافي» للمنطقة، وتحويلها إلى حزام شيعي محيط بالعاصمة دمشق لمجموعات مستقدمة من خارج البلاد.

في أثناء هذه العملية، كان التدمير الشامل الممنهج للبلدة لا يهدف فقط إلى التغيير المادّي لعمران البلدة، بل وأيضاً هويتها الأنثروبولوجية – الثقافية، التي تمثّل معالم روحها العابرة للتاريخ، بهدف مسحها من ذاكرة الأجيال القادمة. وكان هذا مرتبط بالسعي لتهيئة المكان من أجل تجمّع عمراني جديد للقادمين الشيعة الغرباء، منفصل عن كل ما يُذكر بثقافة المنطقة وهويتها تاريخياً، خاصّة بعد تهجير أهاليها.

في الواقع، داريا هي واحدة من مناطق ريف دمشق (الغوطة)، الضاربة الجذور في تاريخ أنثروبولوجي – ثقافي قديم. وتراميها في سهول ممتدّة من جبال حرمون، التي تغذّي أراضيها بمياه غزيرة، جعل منها موئلاً لكروم العنب، بحيث أخذت رمزية وجودها منها (داريا العنب). إضافة إلى ذلك، فوجود أشجار الغوطة الكثيفة، جعلها من أشهر مراكز صناعة الموبيليا في المنطقة بأشهر الحرفيين المهرة. وفي تحدّ لمحاولة مسحها من الذاكرة، أعدت في نصّي الروائي بناءها مادياً وثقافياً – أنثروبولوجياً، وبسمات أسطورية، على طريقة تأسيس المدن – الممالك في أساطير الحضارات القديمة في المنطقة. وكتبت أن داريا انبثقت أسطورياً من روح طبيعية، من «جبال مهبط المساءات»، (جبال حرمون)، وتوالدت أول سلالة لها في حقل قمح (الجدّ الأول) وفي كرم عنب (الجدّة الأولى)، اللذين يتجسّدان عاشقين، ويؤسّسان العائلة الأولى لبلدة جديدة. وكان بناء بيت العروسين، وإنجاب أجيال متجدّدة للعائلة وسيلة لإعادة بناء روح البلدة بكثافة شعرية، حتى تبقى مزروعة في الذاكرة؛ الكروم والحقول، بناء البيت الريفي وتأثيثه، عادات الأعراس والضيافة، وكثير من تفاصيل الحياة اليومية الغارقة في تقاليد قديمة... وعلى هذا الأساس، تم بناء الفصل الأول كذاكرة حياة للمكان، وصولاً إلى اندلاع الانتفاضة السلمية ضدّ الديكتاتورية.

وعلى هذا الأساس، تشكّل القسم الأول هذا من النصّ الروائي «داريا الحكاية»، الذي ابتدئ أسطورياً، وتدرّج نحو تفاصيل الحياة اليومية، بأسلوب تراوح بين الواقعية والكثافة الشاعرية. كان هذا ضرورياً لتقديم أرضية ملموسة للقسم الثاني من الرواية، الغارق في كوابيس وحشية مجنونة، وبدون هذا القسم الواقعي، لم يكن من الممكن مقاربة عمق المأساة بسُريالية مجازرها التي أصابتِ البلدة.

بالطريقة نفسها تمّت مقاربة النصّ الروائي لـ «الغابة السوداء»، التي نهضت على عالم مغرق في كابوسيته بالكامل، وهو ما يعدّ لي شخصياً من أقوى النصوص الكابوسية التي كتبتها في رواياتي حتى الآن. كان النصّ في قسمه الأول بحاجة إلى أرضية ما، شبه واقعية، وإن كانت لا تخلو من الهلوسات، لتشرح أن «الأنا الجمعي – الراوي»، الذي تنتابه الكوابيس، هو مهجّر حرب وصل إلى ألمانيا. وتمّ إدخاله إلى مصحّ معالجة نفسية، لأنه مصاب بصدمة الحرب، التي عاناها في بلده، ومن ثم خرج منه في نقاهة مؤقتة. في فترة النقاهة العابرة هذه، سيلتقي بشخصيات مختلفة من المجتمع الألماني حوله، سيشكّلون بالتالي، إلى جانب ذكرياته اللا وعية عن الحرب، إطار وأرضية أحداث لكوابيسه. وبدون هذه القسم الواقعي لم يكن من الممكن فهم هذه الكوابيس.

تنهض جميع نصوصي الروائية دون استثناء على أرضية واقعية، أعيشها حقيقة كسيرة حياة، إلا إن أسلوب الواقعية السحرية والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، هو ما ينقلها من واقعيتها ووثائقيتها المباشرة، إلى نصوص عبثية هلامية، تبدو كأنها منفصلة عن أصولها. لم أكتب في أيّ مرّة أبداً نصّاً متخيّلاً؛ فما يمدّني به الواقع هو أكبر من أيّ خيال. لكن التحدّي ينهض لدي في كيفية تطويع الواقع إلى خيال مجنون بأعلى درجات الفانتازيا، بما تتطلّبه حبكة النصّ الروائي.

تحدّي آخر واجهني في «الغابة السوداء»، عندما حاولت ربط شروخ الذاكرة الكابوسية ببيئتين منفصلتين عن بعضهما البعض بطريقة مبتكرة؛ بيئة الموت والوحشية، التي قدم منها المُهجّر، وبيئة الانعزال والوحدة، التي تحيط به في بلد المنفى. كان من السهل استحضار عناصر من البيئة الأولى عبر الجثث التي يحملها البطل في شروخ ذاكرته، وهي ترافقه أينما تحرّك، وتحاصره عبر هلوساته المستمرّة. لكن المشكلة كانت في خلفية الكوابيس، التي تحدث في بلاد المنفى، فهي بحاجة إلى واقع محدّد، بتاريخ مادي وإرث ثقافي يبرزها. وكان في ذهني الطريقة التي أعدت بها تشكيل الهُوية الأنثروبولوجية – الثقافية والبنى المادّية لداريا.

ذات مرّة كنت أساعد جار عجوز ألماني، يسكن في بنايتي، في مدينتي الألمانية، بحمل بعض الأشياء الثقيلة إلى داخل شقّته، وكانتِ المرّة الأولى التي أدخلها. كان العجوز يعيش وحيداً، وشخصيته شبه مضطربة، سكّير، عدائي، لا يستقبل أحداً في شقّته. ماتت زوجته منذ خمس عشرة عاماً، ولديه ابنة تعيش في مدينة أخرى، لا تزوره أبداً، بل وحتى لا تتّصل به. الشخص الوحيد الذي يحضر لعنده من وقت لآخر هي مومس، تعمل في بيت دعارة، تقضي عنده ساعة مقابل أجر وتغادره سريعاً. وقد عرفت لاحقاً أنه يتاجر بالتحف القديمة في الأسواق الموسمية، وبالتالي فحالته المادّية جيدة نسبياً.

شعرت بدخولي إلى الشقّة الواسعة أنني انتقلت إلى عالم سُريالي غريب، إذ تعرش على الجدران وفي الزوايا بشكل كثيف نباتات منزلية مهملة، فيما رُميت بينها عشوائياً حاجيات وأدوات وأجهزة، يبدو أن الجار يكدّسها منذ أكثر من عشرة أعوام، دون أيّ عناية، ودون أن يتخلّص من القديم وغير المستعمل. ذهلت، وأنا أشاهد على سبيل المثال أكثر من أربعين حذاء، مكدّسة فوق بعضها بعضاً عشوائياً، الكثير منها غير مستخدم. وعلى مثال هذه الأحذية، شاهدت أكداساً من الملابس، والحقائب، وأواني المطبخ، بل وزجاجات مشروبات كحولية فارغة، تحتلّ معظم المطبخ. لكن إلى جانب حاجات الاستخدام اليومي هذه، شاهدت أكداساً من الكتب، والأسطوانات الموسيقية القديمة، وتحفاً ثمينة قديمة جدّاً، وساعات، ومجوهرات، فيما تزيّن جدران الشقّة لوحات فنّية أصلية، وصور فوتوغرافية، بعض منها عائلية، تمثّل عدّة أجيال... أثارني المشهد بشكل مذهل، وطلبت منه السماح بتصوير بعضها بجهاز الهاتف المحمول، فتركني أصور لا مبالياً بطلبي، منتظراً مغادرتي سريعاً... في المساء، جلست أكتب أول فصل سُريالي في «الغابة السوداء» بطريقة مبتكرة.

كان كلّ شيء في الشقّة يحمل بصمة حياة، مرتبطاً بذاكرة استخدام زمنية، تشكّل بمجملها صورة عن نسق حياة، تعيشها عائلة ألمانية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بحاجياتها الضرورية، وصولاً إلى نمط الاستهلاك المميّز لعالمنا الحالي، وبالتالي حاولت تقديم هوية ثقافية – أنثروبولوجية تاريخية لنمط حياة. هكذا، أخذت أسجّل عدداً هائلاً من الأشياء بشكل عشوائي، كما يبدو عند قراءة النصّ بسطحية سريعة، لكني في الواقع، كنت وبطريقة لا شعورية أرتّب تاريخاً لنمط الحياة وهويتها. ثم أخذت أقفز إلى داخل كلّ صورة فوتوغرافية من أجيال العائلة، بتسلسل تاريخي، وأجعل الحدث يتحرّك فيها بضمير المتكلّم، فوجدت أنني أعيش التاريخ السياسي والثقافي للأشخاص، بدءاً من صور جدّ كبير في الحقبة النازية. كانتِ الصور تمثّل أفراد العائلة بملابسهم، وزوايا المنزل وأثاثه، وحديقته، ونزهاتهم في الشوارع والمتاجر، وسط الزحام وفي وسائل المواصلات منازلهم، متاجرهم. أصبحت أنا الشخص الذي يستعمل الأدوات، ويتنقّل في الأزمنة التاريخية للأجيال عبر الصور. وفي أثناء ذلك كان الجار ومومسته تتحرّكان في المشهد بشكل سُريالي عبثي... وأعتقد أني كتبت واحداً من أجمل فصول رواياتي كلّها بطريقة عاطفية انفعالية مبتكرة، أعتقد أنها لن تتكرّر أبداً.

هكذا، أحاول دائماً في نصوصي الروائية، البحث عن أشكال تعبيرية وأسلوبية متنوّعة، تبدو متنافرة، لكنها تتكامل معاً من أجل إيصال أفكاري ومشاعري. ويحدث عبرها تفاعلي، ليس فقط مع الأحداث بتاريخيتها ووثائقيتها، التي أنتقل بها إلى الفانتازيا، بل وأيضاً مع الأشياء، التي تحمل ذاكرة الزمن عبر استخدامها الإنساني... وهذا ما يعطي «سيرة الحياة»، التي أكتبها المعنى الإنساني الشامل.

السؤال الحادي عشر: في عوالمك الروائية الكابوسية، حيث تتكشّف هشاشة الإنسان الممزّق تحت وطأة الحرب والمنفى والذاكرة، هل ترى أن الأدب يمتلك القدرة على عكس العتمة الداخلية للنفس البشرية، لا بوصفه مرآة للألم فحسب، بل كأداة للشفاء؟ وهل يمكن لحكاياتك، بما تحمله من صدمة ومحنة، أن تتحوّل في وعي القارئ إلى فعل مقاومة داخلية، وهبة تُرمّم الكسور، وتخلق من الخراب ملاذاً نفسياً؟

عندما سمعت في المرّة الأولى عبارة «الغابة السوداء»، وهي المنطقة التي تقع فيها مدينتي، تداعى إلى ذهني غابة كبيرة معتمة، تعيش فيها حيوانات برّية مخيفة من الذئاب والدببة، وتعجّ بحكايات أسطورية عن كائنات مخيفة، بحيث لا يجرؤ الناس العاديون على ارتياد مجاهلها. أكتشف فيما بعد أن «الغابة السوداء» هي منطقة غابات واسعة، إنما تتخلّلها مدن وبلدات ومنتجعات سياحية ومزارع ومعاصر نبيذ، والغابات بالذات هي مكان مفضل للنزهات والتخييم. لكن لماذا تسمّى «السوداء»؟ تخبرني صديقة ألمانية، بأن هذا الاسم أطلق عليها مجازياً؛ لأن أشعة الشمس لا تستطيع التسلّل في مناطق الغابات بين الأشجار بسبب كثافتها، فتترك أرضها ظلالاً معتمة. مع ذلك بقيت في ذهني غابة مظلمة مخيفة، بسبب ذهنيتي في أسطرة ما حولي بالفانتازيا الخاصة بي.

في زيارة مع هذه الصديقة لإحدى الغابات في منطقة «الغابة السوداء»، تتوقّف بي عند شجرة ضخمة في مدخلها، تحوي في جذعها فجوة طبيعية واسعة. تمدّ يدها فيها وتُخرج منها دفتراً مجلّداً، فوجئت بامتلائه بنصوص قصيرة؛ أشعار، قصص، ذكريات، تحيّات... مع رسوم طفولية ملوّنة صغيرة، موقّعة بأسماء أشخاص متقدّمين في العمر ومراهقين وأطفال، كتحية مودّة بين غرباء يعبرون هذا الطريق. تقول لي الصديقة بأنها هي مَن وضعتِ الدفتر هنا منذ أكثر من عام، وابتدئ المعارف في زيارتهم إلى الغابة، بإضافة نصوص صغيرة عليه، وإعادته إلى مكانه. ثم انتشر الخبر، وأصبحت عادة معروفة في المنطقة. اشتعل خيالي الفانتازي عندئذ، وقلت لنفسي: إن الغابة السوداء، هي مخيّفة ومظلمة، وتحوي كائنات أسطورية متوحّشة، لكن مَن يمتلك كلمات السرّ السحرية، التي يسجّلها على الدفتر، تفتح أمامه عوالم الغابة السرّية الأليفة، فتتحوّل عندئذ إلى «الغابة المنيرة» بكائنات لطيفة.

تستثيريني فكرة «الظلمة» أو «الظلام» برموزها المتعدّدة؛ الشرّ، المجهول، الوحشة، الوحشية، عتمة القلوب والأرواح، وذلك منذ أن قرأت الرواية الشهيرة «قلب الظلام»، للروائي البريطاني ذي الأصول البولونية، جوزيف كونراد، (كتبها في نهاية القرن التاسع عشر). وهي تتحدّث عن رحلة بحّار إلى إحدى المستعمرات البريطانية، التي تقع في مجاهل الأدغال الأفريقية، عبر نهر يخترقها، تعيش على ضفّتيه قبائل بدائية «متوحّشة»، فيما البعثات الاستعمارية، هي التي تجعل هذه المناطق متحضّرة، كغطاء لاستغلال ثرواتها الطبيعية. لكن البحّار يكتشف أنه بعكس هذه الفكرة السائدة، فإن الاستعمار، ممثّلاً بـ «الإنسان الأوروبي»، هو مَن يحمل في داخله «الظلمة والتوحّش»، بالارتباط مع طمعه وجشعه وعقد الاستعلاء الحضاري، وينقلهما إلى هذه المناطق البدائية العذراء. وهذا يعني أن «الظلمة» موجودة داخل النفس الإنسانية «الشريرة»، وليس في البيئة، وهي التي تنشر «التوحّش» فيها.

ولعمق فكرة «الظلام» و«الظلمة»، وقوّة ترميزاتها في حياتنا البشرية، سيقوم المخرج السينمائي الأمريكي المشهور فرانسيس كوبولا، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، بنقل الرواية ذاتها إلى السينما، ويصنع منها فيلماً مذهلاً بعنوان «القيامة الآن». لكنه سينتقل بأحداثها من مجاهل الأدغال الأفريقية إلى مجاهل الأدغال الكمبودية، في أثناء الحرب الوحشية الأمريكية على فيتنام، بالصياغة السردية نفسها لدى كونراد.

مع مثل هذه الرواية والفيلم، تبدو فكرة الوحشية وظلمة النفس المترافقة معها عابرة للأزمنة والأمكنة. وهي تنطبق على النفس الإنسانية التي تعيش عوالم الوحشية والعبثية والانفصامات، فتنتقل إلى داخلها وتتفجّر بالجنون، وتغدو معتمة مدمّرة لذاتها نفسها، ولما حولها.

تركت كلّ من الرواية والفيلم تأثيراً عميقاً على نفسي، وتسلّلتِ الفكرة الفلسفية لـ «الظلمة» برمزياتها المتعدّدة المرتبطة بالنفس الإنسانية إلى رواياتي، خاصة إلى «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية». هكذا، كنت أرى الإنسان السوري يحمل في ذاته المُدمَّرة والمُدمِّرة «ظلمة شديدة»، بسبب معاناته الطويلة، ليس فقط من جنون الحروب الأخيرة التي تلت انفجار الثورة السورية، بل وأيضاً بسبب تاريخ طويل من القمع والاستبداد والسفك الوحشي للدماء. وقد جعله هذا يفقد عقله، وتتشوّه إنسانيته، ويغترب عن ذاته، يحمل بالتالي في داخله أسوء رمزيات الظلمة من ناحية وحشيتها، التي تتنقّل مع روحه أينما يذهب وأينما يحلّ.

نصوصي الروائية هي «سيرة حياة» هذا الإنسان السوري خاصّة، والإنسان بشكل عامّ، المدمّر والممزّق، «الضحية» و«الجلّاد» معاً... لكن هل أتركه في هذه الأحوال المتوحّشة، دون بصيص أمل؟ ألا أمنحه ضوءاً، ، ينقذ به ذاته المعذبة؟

كان «النصّ السحري» المكتوب على دفتر شجرة الغابة هو كلمة السرّ التي تحوّل «الغابة السوداء» إلى «الغابة المنيرة». لذلك، فإن العدد الهائل من الجثث المسفوك دمها، الممثّلة بضمير المتكلّم «الأنا – الجمعي»، تتحرّر من الظلمة في داخلها، عندما تسرد «حكاياتها – نصوصها»، كي تتخلّص من وحشتها. تلاحق الجثث الممزّقة بانفصاميات التوحّش، والمتسلّلة من الذاكرة المشروخة، ذاتها عبر «الأنا – الجمعي»، طوال نصّ «الغابة السوداء»، ثم تتحرّر مع «داريا الحكاية»، عندما تسرد حكاياتها. هي جثث سوريا، تسعى إلى الانتقام من جلاديها بعدالة مفتقدة، تعيدها السردية لها. وعندما تصل إلى إعلاء سرديتها تستطيع الموت بسهولة.

رواياتي هي الأمل، هي بوح «الأنا – الجمعية» المعذّبة، التي تتحرّر من وحشتها الداخلية، عندما تسرد حكاياتها كلمات للزمن والذاكرة، للرياح والمطر، وحنين الأرض... للأجيال القادمة؛ حكاياتها عن الظلم والاستبداد الذي نالها، والموت المجّاني العبثي الذي لحق بها. لذلك نصّي الروائي، هو ليس فقط بوح «الأنا – الجمعي» الراوي، بل هو أيضاً التحرّر من ثقل الآلام لكلّ مَن يقرأه، وهو ابن البلاد المقهورة، كي تتحرّر روحه، ويعود إنساناً يشعر بكرامته... هذا هو الهدف النهائي لنصّي الروائي، وبعض من أهداف الأدب.

السؤال الثاني عشر: يتجلّى في روايتك هاجس واضح بإنقاذ العرّافات بوصفهنّ تجسيداً للمعرفة الأنثوية الحدسية المقموعة، في مقابل هيمنة الرهبان كرمز للعقل الذكوري المؤسّسي المُهيمن. كيف تفسّرون هذا الصراع الرمزي بين العرّافة والراهب، كصراع بين الذاكرة والسلطة، بين الحدس والنظام؟ وما الذي تسعون إلى قوله من خلال هذا التداخل بين الميثولوجيا والهُوية والمقدّس؟ ومن هنّ العرّافات اللواتي تكتبون لإنقاذهنّ من محارق النسيان وكهوف التهميش؟

في البدء كان «القطيع البدائي البشري»، كأول تجمّع إنساني لـ «الإنسان العاقل – الهومو سابينس»، وكان الإنسان فيه جزءاً من الطبيعة، متآلفاً ومنسجماً معها، وهنا تطوّرت روحانياته الأولى بالارتباط مع عنصرها. كان البشر يعتقدون بأنهم ليسوا هم فقط الذين يمتلكون الأرواح، بل وأيضاً الحيوانات، كطواطم حماة لهم، وعناصر الطبيعة ذاتها التي يعيشون بين جنباتها؛ الغابات، الجبال، الوديان، الأنهار، البحيرات، حتى المطر والرياح. في هذه المجتمعات البدائية التنظيم، كان الشامان في «القبيلة الأولى» هو الشخص الرئيسي؛ العرّاف والساحر والمداوي لأمراض أفرادها. وفي لحظات تجلّي تنتابه (بفعل الأعشاب المخدّرة أو الغشيان مثلاً)، يُسافر إلى أرواح الأجداد والحيوانات والعناصر الطبيعية، يحادثها ويكتسب منها قوّة شفاء. وعندما يعود إلى وعي الواقع، يمنح قوّته الشافية التي استحضرها معه إلى أبناء القبيلة. مثّل تفاعل الشامان مع الطبيعة المرحلة الإنسانية الأولى للتآلف معها، وهي التي ستتألّه لاحقاً بشكل ما نحو «الحقيقة المطلقة»، في أشكال تصوّف مختلف التجمّعات الروحانية عبر العصور. وما زال الشاعر حتى الآن هو «شامان العصر»؛ لأنه هو الوحيد الذي ما يزال يستطيع السفر رمزياً مع أرواح الناس البسطاء، والأهم مع أرواح الأشياء العابرة للزمن، عبر ارتباط الذكريات بها.

مع بداية فجر التاريخ الإنساني، بدأ «العصر الأمومي» كمرحلة متقدّمة، حيث احتلّتِ الأمّ مركز الفعل والقرار في القبيلة، بسبب غياب الرجال في رحلات الصيد الطويلة لعدّة أيّام، بل وأسابيع، وإليها كان يُنسب الأطفال. ومع تطوّر روحانيات الإنسان في هذه المرحلة، ظهرتِ الإلهات الأنثى، اللواتي تمنحن الخصوبة للحقول (الدورات الزراعية) وللنساء (الحمل والولادة)، فتتجدّد بهنّ الحياة، و«عشتار» إلهة الخصب والنماء في حضارات سوريا القديمة هي أبلغ مثال. وقد شوّه الإسلاميون الدور المركزي الكبير الذي لعبته الإلهة القديمة، المسمّاة «الغرانيق» (اللات والعزة ومناة). وهاته الآلهات لعبن أدواراً مهمّة، ليس فقط في حياة الصحراء قبل سيطرة الإسلام، بل وفي الحضارات السابقة في بلاد الرافدين وسوريا، حيث انبثقن من ثقافاتها. وإن أخذت هذه الإلهات الثلاث معنى سلبياً، في رواية «الغرانيق»، من حيث تلبّس الديكتاتور العسكري صورة الآلهة، وبمَن فيهم الإله التوحيدي، فإنني سأعيد لهم بعضاً من حقوقهم الروحية، كميراث ثقافي إنساني في حياة الصحراء العربية، في روايتي الجديدة «نزوة الظلال والاحتمالات»، إلى جانب الإله «هبل».

 مع ظهور الآلهة الذكورية، خاصة بذروتها مع «الإله التوحيدي»، بأصوله اليهودية الدموية، كتعبير عن سيطرة الرجل البطريركي المستبدّ على السلطات، سيسود التوحّش الغرائزي وسفك الدماء العبثي باسمه، وهو ما يستمرّ حتى الآن. وسيبلغ ذروة وحشيته الغرائزية عبر اجتياح الأصوليات الإسلامية السنّية والشيعية بعشقها لسفك الدماء لمنطقتنا. تعتمد قمعية هذه الأصوليات على رؤى معارضة لأبسط أشكال الحرّية الإنسانية. على سبيل المثال، يولد الإنسان بالمصادفة في عائلة إسلامية (وليست يهودية أو بوذية أو سيخية)، دون أيّ خيار لوجوده فيها، فإذا ما شعر بالوعي ورفض الإيمان بالإسلام، فهو مرتدّ ويُحكم عليه بالقتل، على الرغم لم يختر هو هذا الدين. وهذا التعصّب للأديان لا يقتصر على الإسلام، بل وعلى كلّ الأديان التي يعتبر كلّ منها أن إلهها هي الحقّ وبقية الأديان باطلة. هذا دون الحديث على رفض الأديان ووجود الآلهة بالمطلق.

ستتقاسم روايتي «وصايا الغبار» بوضوح جانبيّ الصراع بين رمزية توحّش «الإله التوحيدي» من جهة، وصفاء «الإلهة الأمّ» من جهة ثانية. يتمثّل الجانب الأول بالإسلام السياسي، خاصّة بأبشع أشكاله عبثية ووحشية ودموية؛ «الإسلام الوهّابي»، الذي يشكّل مع «الديكتاتورية العسكرية» وجهَي العملة الواحدة للاستبداد في منطقتنا. بالمقابل يبرز الجانب الثاني عبر شخصية «أمّ العيون العسلية»، الإلهة – الأمّ، الحبيبة – الحلم المنشود، القادمة من أعماق التاريخ، بدفئه وإنسانيته، والعابرة للأزمنة والأمكنة. وهي التي تمنح الحياة مشاعر إنسانية، وخصباً متجدّداً مبدعاً، على عكس وحشية التديّن الوحشي البطريركي الإسلامي. ولا يمكن فهم الرواية دون مقاربة هذا التقابل بين الجانبين المتعارضين بالكامل.

في رواية «الغرانيق» تظهر المرأة – الشابّة روحاً ملهمة لشباب الانتفاضة السلمية في المظاهرات. تطلب إحداهنّ من شابّ يتقدّم للزواج منها مهراً متمثّلاً بـ «الحصان الأبيض»؛ رمز الحرّية، وتطلب ثانية أيضاً بالمقابل «أناشيد شعبية»، تزيد من حماس المتظاهرين السلميين.

في رواية «سرير على الجبهة» هي الإلهة الأمّ، التي توقظ الأرض من سباتها الطويل تحت الظلم بالرقص، بأشكال مختلفة عبر ثقافات الشعوب. الرقص هو لغة تسود الرواية تعبيراً عن عشق للحياة في وجه الخراب الذي يحمله النظام الديكتاتوري.

في «الغابة السوداء» تلوّح الفتاة – الحلم، متسلّلة عبر الذاكرة المشروخة، بشخصية «فتاة الزنابق»، لكنه حلم مفتقد هارب أمام كثافة الكوابيس المحيطة بالبطل «الأنا الجمعي». لكنه سرعان ما تتبدّى عبر شخصية العرّافة المقدّسة، القادمة من أعماق التاريخ بحدسها المعرفي الأنثوي، وهي تتحدّى عبثية سلطة رجال الدين وتوحّشهم، كرموز بطريركية قمعية (كلّ رجال الأديان دون استثناء، مع آلهة استيهامهم المرفوعة إلى السماء)، المثبتّة بقوّة السلطة المؤسّساتية الناظمة لمختلف شؤون الحياة. هي الذاكرة الأنثوية أمّاً وحبيبة وابنة، التي تحيطنا بطقوس خصبها ومشاعرها في وجه دموية القوانين البطريركية، المستندة على المؤسّسة الدينية.

في «داريا الحكاية» المرأة هي أصل الحياة، والجدّة والأمّ والأخت والزوجة والابنة، اللواتي يعانين نتائج التدمير والتهجير. لكن الرواية هذه ستحتوي أيضاً سخرية فانتازية من ذكورية الرجل الشرقي، المستندة على أوهام دينية. يعيش البطل في المنفى، حالات استيهام متعدّدة، وقد جرّدته الكوابيس من أصوله الشرقية الاستبدادية، فأصبح عاجزاً أمامها. يلتقي امرأة متحرّرة ذات أصول إسلامية، تعيش في أوروبا، طالباً منها أن تكون له زوجة، فتنقلب الأدوار بين الرجل والمرأة. تخبره بأنها متزوّجة من أربع رجال، حسب الشرائع الدينية الإسلامية، وأحدهم عمره فقط تسع سنوات، حسب التقاليد الصحراوية البدوية. وهي تنام معهم بالدور، كلّ ليلة مع واحد، وإن كانت تجمعهم أحياناً معاً في ليلة مجون جنسية. والتشريع الديني لا يسمح لها بالزواج من رجل جديد، إلا إن طلّقت أحد الرجال الأربع. لكن بما أنها تحبّ أزواجها الأربع، فستجد حلاًّ بديلاً بشرائه من سوق العبيد، أولئك المأسورين مثلاً في الحروب. ثم تعلّمه بشروط جنّتها النسائية، بأنه لا يوجد فيها حوريات، بل فقط حوريين لمتعتها الشخصية، يتناوبون على مطارحتها الجنس باستمرار، وقد امتلكت قوّة «سبعين امرأة على الطعام والشراب والجماع»، دون أن تخاف الحمل والولادة. وإذا أراد مشاركتها هذا الفيلم الإباحي، هناك، فعليه أن ينتظر دوره بين الحوريين المتجمّعين عليها... لم يكن هذا المقطع بحاجة إلى كثير من الفانتازيا، سوى قلب الأدوار بين الرجال والنساء.

السؤال الثالث عشر: في ظلّ التصدّع الروحي والشتات الجسدي، الذي يعانيه الإنسان السوري المعاصر، يتفجّر سؤال الهُوية على نحو وجودي مؤلم: مَن أنا؟ وكيف يمكن أن أكون إذا لم أعرف مَن أكون؟ فهل يمكن لهوية جديدة أن تتشكّل بلا ذاكرة أو قيم جمعية، وسط منفى داخلي أو خارجي، يفتقر إلى دفء المشاعر والانتماء؟ ولماذا يظلّ الشرقي – في سردياتكم – ينسج وجوده من وجع الحاضر وأطلال الماضي، عالقاً في منطقة رمادية بين الحضور والاغتراب، بين ذاكرة مأساوية ومدينة باردة لا تعترف بحنينه؟  وهل ترى أن المنفى بات يُعيد تشكيل الذاكرة السورية، بشكل يهدّد بزوال الحكاية الأصلية لصالح حكايات منزوعة الجذور، وكيف ينعكس كلّ ذلك على تصوّر الذات والانتماء في عالم ما بعد الانهيار.

السؤال يبدو متشعّباً، لكنه في النهاية هو بمضمون واحد، وإن كان يتضمّن بعضاً من الجواب؛ أين هي هوية المنطقة الآن؟ في هذا التصدّع الروحي المستمرّ للإنسان السوري وابن منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، منذ منتصف القرن الماضي، دمّرتِ «العسكرة» و«الأسلمة» أيّ شكل من أشكال إحياء هوية واضحة، أو حتى تشكيل هوية جديدة. ثم أكملتِ الأحداث القمعية الدامية، من قبل هذين الطرفين بعد عام 2011م، على أيّ إمكانية قيام أيّ هوية مشتركة بين أهالي مجتمعات المنطقة. لم تعد هناك ذاكرة تاريخية مشتركة، ولا فعل سياسي عقلاني، ولا آمال بمجتمع ديمقراطي علماني، يمكنها أن توحّد، بل هناك أحقاد، أضحت تاريخية، تنتقل الآن مع الأجيال، لا تنهض إلا على ذاكرة الانتقام.

أصبحتِ «الهُوية العربية» الطوباوية، خاصّة بعد السقوط الكارثي والأخلاقي التاريخي للأحزاب القومية العربية، تثير السخرية. ومن حقّ الكورد الآن، المغبونة حقوقهم تاريخياً بسلطات قمعية، إعلان هُويتهم الكوردية الأصيلة، التي تبدو الآن الأكثر تماسكاً على الأرض، ومدعمة بجذور ثقافية تاريخية وطموحات سياسية واضحة ومحدّدة. هذا دون الحديث عن الهُويات السريانية والآشورية والكلدانية والإيزيدية...

أما ما يُسمّى «هُوية إسلامية»، فقد تشرذمت أكثر فأكثر إلى هُويات طائفية، تُكفّر فيها التنظيمات الدينية السنّية كلّ ما يقع خارج إطارها من طوائف، بعد أن كان يتمّ الاعتراف بها سابقاً كشكل من المذاهب الإسلامية. أصبح الآن الدروز والعلويين والإسماعيليين فئات يجب استئصالها بالقتل وفق «الفتاوى السنّية» المتطرّفة، بعد أن كان يتمّ النظر إليها كشكل من أشكال المذاهب الإسلامية. بل إن الإسلاميين أنفسهم، وبتدرّجات أطيافهم المختلفة، دخلوا في صراعات دموية، تفرّقهم بالكامل حول تحديد شكل ما من هُوية إسلامية لهم. هذا دون الدخول في حديث «التشيّع السياسي»، الذي دخل المنطقة حديثاً، وزاد من حدّة التشرذمات. في حين أصبحت للدول الخليجية لها هُويتها الخاصّة، وهي ما كانت تُسمّى في الأدبيات السياسية السابقة «بلدان البترو – دولار»، هُويتها المستقلّة القائمة على تحويل ثرواتها الوطنية إلى مشاريع تغلب عليها سمات العولمية الاستهلاكية.

سيحلّ مكان الأشكال الممزّقة بُنى اجتماعية تأخذ شكل هُويات مشوّهة، تستند إلى تقسيمات ما قبل الحداثة؛ الدين، والطائفة، والعشيرة، والعائلة... ومستقبلاً «المافيات المحلّية»، المرتبطة بها.

تمزق الهُوية يبدو واضحاً أكثر لدى المهاجرين والمهجّرين قسرياً إلى بلدان الغرب، نتيجة الحروب المستمرّة، ومشاريع التغيير الديموغرافي. ستفتقد الأجيال القادمة، أيّ «حكاية سورية»، أو أيّ ارتباط عاطفي بسوريا (ربما في المستقبل الزيارات السياحية)، خاصّة بعد اندماج الأجيال الشابّة في المجتمعات الجديدة. لم يعد يمكن الحديث في بلاد الغرب عن جاليات عربية، بل إسلامية، وعلى الأغلب بمعاني مرادفة للتطرّف الديني. وهذه الإسلاموية لا تشكّل بأيّ شكل من الأشكال أيّ هُوية، ولو بأبسط أشكالها، فالطقوس الدينية الشكلية، مثل ارتداء الحجاب والصلاة في منتصف الطريق، هي ردود فعل سلبية، نتيجة الإخفاقات وعدم القدرة على الاندماج في المجتمعات الجديدة.

 في «الغابة السوداء»، يصحو البطل ذات صباح «وحيداً»، في شقّة دون أناس، في شوارع مدينة دون أناس، لا يعرف كيف وصل إلى هنا ولماذا، فقط وحيد في مدينة فارغة. لا يمتلك أيّ أوراق رسمية، وليس لديه أيّ أداة للاتّصال بأحد في العالم، الذي هو مؤطّر بـ «محاكاة كونية»، دون أن يدرك ذلك. والأقسى أنه لا ذاكرة لديه بل ولا يعرف حتى وجهه، فلا مرآة في شقّته. وسيعيش فقط مع هلوساته الخارجة من شروخ ذاكرة مشوّشة... هكذا هو، بلا أيّ هُوية، دون بلاد، دون علاقات إنسانية.

 

السؤال الرابع عشر: تصوّر في روايتك المجزرة لا كحدث عابر، بل كتحوّل وجودي ينسف معنى المكان واللغة والذاكرة الجماعية، ويحوّل داريا من مدينة حيّة إلى رمز للموت المنظّم، بل إلى نوع من «العدم». عندما يقرّر بطل روايتيّ «الغابة السوداء» و«داريا الحكاية» العودة استيهامياً إلى بلدته، ويحلّق فوقها، يجدها فارغة من الناس، والظلمة تخيم عليها. لا بل يُحلّق فوق المنطقة كلّها، فوق دمشق، وفوق سوريا كلّها، فلا يجد أيّ أثر للبشر، والظلمة تخيم عليها بالكامل. لماذا هذه النهاية، وقد أثبتت الأيّام سقوط النظام الديكتاتوري العسكري الذي دور «داريا»، وسوريا بشكل أعم؟

الروايتان هما حلقتين من سلسة «سيرة الحياة»، بالخراب المدمّر السابق نفسه الذي نعيشه، وسيبقى يلاحقننا باستمرار، لأن البنى الاستبدادية والعنفية المتخلّفة نفسها ما تزال تتحكّم بنا، دون أيّ أفق لتغيّرها. لا عودة للمنطقة إلى أيّ سلام، فقد تراكمتِ الأحقاد بكلّ أشكالها السياسية – الاجتماعية، وهي ستتفجّر بعنف مستمرّ. سقط النظام العسكري الديكتاتوري، لكن حلّ مكانه نظام ديني متشدّد، سيكون أسوء أكثر فأكثر من سابقه الديكتاتوري، كلّما تمكّن أكثر (سواء لو كان ممثّلاً بالإخوان المسلمين» أم بالسلفيين الجهاديين).

ما يدفعني إلى هذه النهاية السوداوية المتشابهة في الروايتين (وهما في الأصل متكاملتين)، وبرمزيتها المتشائمة، هو معرفتي وإحساسي بغياب البديل السلمي المدني الديمقراطي العلماني، الذي يحترم التعدّدية الثقافية وحرّية الفرد وكرامته، ليس فقط بعد كلّ هذا الجنون الكارثي الذي أصاب البلاد منذ عام 2011م، بل وأيضاً بسبب بنية مجتمعاتنا الشرقية، القائمة بالأصل على الاستبداد والعنف. لذلك، حاولت أدبياً عبر هذه النهاية تصوير المنطقة فارغة من البشر تخيم عليها الظلمة، والبطل «الفردي الجمعي» المهمّش في «المنفى الغربي»، لن يجد هنا أيضاً مستقرّاً. لقد أصبح بالكامل خارج المكان والزمان بلا بلاد، هذا إذا لم نتحدّث عن اختفاء كلمة «وطن» لديه.

لم يرافق الحراك السياسي في عام 2011م، منذ البداية، أيّ حراك اجتماعي مرافق، ضدّ البنى المتخلّفة المستحكمة فينا تاريخياً، فردياً وجمعياً واجتماعياً. وهذا الحراك انضمّ إلى إعادة تجديدها، وإنتاجها بأشكال مختلفة، بحيث أصبح «رجل الدين»، و«رجل الطائفة»، و«رجل العشيرة»، هو البطل الاستيهامي المنقذ. بالمقابل، اختفى رجل «النخبة اليساري» القديم، هو وأنظمته اليسارية القمعية وأحلامه الطوباوية المثيرة للرثاء، وفي أحسن الأحوال تحوّل إلى تابع لهم. والأهم من ذلك إن مشاريع تفتيت المنطقة وتدميرها أكثر فأكثر، بحسب المخطّطات الإقليمية والخارجية؛ لم تصل بعد إلى نهاياتها الأكثر كارثية. وإن انتهى عنف النظام الديكتاتوري السابق، وانحسر وقتياً الخطر الشيعي، فلا زالت الحركات الإخوانية الإسلامية والجهادية السلفية، ومعها رغبة إسرائيل بالتحوّل إلى القوّة الوحيدة المهيمنة على المنطقة، هي الفاعلة.

رواياتي التالية هي استمرار لعرض التمزّق والدمار، في «سيرة الحياة». «ترانيم التخوم» هي الدمار للمنفي في بلاد الغرب دون أيّ بلاد... و«نزوة الاحتمالات والظلال» هي فانتازيا عن الديكتاتور العسكري/ الديني «الكوني»، الذي يقود عالمنا من خراب إلى خراب.

 

 

يُتبع في جزء رابعٍ...

 

 

مازن عرفة – كاتب وروائي سوري، مقيم كلاجئ في ألمانيا منذ عام 2017م، من مواليد قطنا بريف دمشق 1955م، يحمل إجازة في الآداب – قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق 1983م، دكتوراه في العلوم الإنسانية – تخصّص علم المكتبات والمعلومات من جامعة «ماري كوري سكودوفسكا» في مدينة لوبلين – بولونيا 1990م.

 


من مؤلّفاته:

 1 – «العالم العربي في الكتابات البولونية في القرن التاسع عشر»، (باللغة البولونية)، لوبلين 1994م.

2 – «سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصّية إلى سلطة اللامرئي»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2007م، (464 ص).

3 – رواية «وصايا الغبار»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2011م، (663 ص).

4 ـ كتاب «تراجيديا الثقافة العربية»، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2014، (295 ص).

5 – رواية «الغرانيق»، لبنان، بيروت، مؤسّسة نوفل/ هاشيت أنطوان، 2017م، (356 ص).

6 – رواية «سرير على الجبهة»، لبنان، بيروت، مؤسّسة نوفل/ هاشيت أنطوان، 2019م، (335 ص).

7 – رواية «الغابة السوداء»، المملكة المتّحدة، لندن، دار رامينا، 2023م، (205 ص).

8 – رواية «داريا الحكاية»، فرنسا، باريس، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2023م، (184 ص).

9 – رواية «ترانيم التخوم»، فرنسا، باريس، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2025م، (300 ص).

10 – رواية «نزوة الاحتمالات والظلال»، الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن، دار الخيّاط، 2025م.

 


إدريس سالم – شاعر وكاتب كورديّ سوريّ، مقيم في تركيا. مواليد (19 آذار، 1986م). وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكورديّة السوريّة.

عمل مدرّساً للغة العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة.

محرّر وعضو في موقع وجريدة «سبا» الثقافيّة.

مدير «مكتبة فيرمين للكتاب» في تركيا.

 

من مؤلّفاته:

1 – «جحيمٌ حيٌّ»:

أول عمل أدبيّ له في الشعر، صدر طبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (تمّوز 2020م)، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة (أيلول 2022م)، والطبعة الثالثة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (كانون الثاني 2025م).


2 – «مراصدُ الروحِ»:

ثاني عمل أدبيّ له في الشعر، صدر بطبعته الأولى، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (أيّار 2025م).

 

google-playkhamsatmostaqltradent