recent
جديدنا

إدريس سالم يخاطب الهيجاء في «مراصد الروح»


 

ماجد ع  محمّد

 

قد لا يُستحسن عند الحديث عن أيّ قطعة فنّية، أو أيّ عملٍ أدبي البدء بطرح التساؤلات، ولكن مَن قال إن المداخل التقليدية على الدوام هي الجذابة والقادرة على إغوائنا؟ فيما المخالِف للسائد سيغدو متروكاً في القَعَر يُساجِل المهملات، ومَن قال إن اللا مألوف يستدعي النفور الدائم؟ إذن فمن قاعدة المغايرة جاء طرح السؤال التالي: ترى هل نجازف القول إذا قلنا إن العمل الجديد للشاعر إدريس سالم «مراصد الروح» هو من جهة الفضاء والمناخ والموضوعات امتداد للعمل السابق؟ أو القول إن الشاعر ها هنا أتمّ بناء ما كان قد بدأ به في ديوانه «جحيم حي»، بما أنه من خلال قراءتنا لقصائد المجموعتين نحسّ بأن الشاعر لم يغادر الجحيم قط، إنما انتقل بين أجنحته وفصوله، هو لم يخرج منها إنما غيَّر مكانه فيها، على أمل أن تكون حدّة اللسعات في الزاوية الجديدة أقلّ من السابقة، مَن يدري لعلّه تأقلم مع سعيره؛ بسبب دوام المكوث بين الأطلال وهو محاط كلّ هذه السنين بمجمل الأهوال والمصائب والويلات.


ولعل المفتتحُ في ذلك الديوان الموائم للمفتتحِ هنا في «مراصد الروح» يعزِّز تصوّرنا حيال ما لمحنا إليه في الأعلى؛ ويبقى اللافت للنظرِ في الاستهلالِ «نصفُ كلمة» هو البدءُ بجسارة التعريف بالذات، فالبرغم من أن الشاعر حسب قراءتي له ووفق معرفتي الشخصية به بعيد عن المغالاة ومناهض للذهنية الشوفينية، ولكنه في الوقت ذاته لم يتهرّب من تبعات إظهار هُويته كما فعل يوماً بعض النخب المنتمية إلى ملّته، إذ حاولوا جاهدين الاختباء خلف الانتماءات الفنّية أو الإبداعية، بدعوى أنها تخصّ البشرية جمعاء، ولا ترتبط بملّة دون أخرى، إذ أنهم  من أجل الاستتار عملوا على احتجاب أناهم القومية عبر كلّ ما هو هلامي، ضبابي، غير منظور، بحيث لا يكون القبضُ على ذلك الجزء منهم في متناوَل أيّ شخصٍ كان، فهربوا من الذات نحو يافطات كبيرة وفضفاضة، تضمن لهم ضياع الخصوصيات فيه، وذلك خشية من تبعات الإفصاح عن ذلك الجانب فيهم، بينما سالِم أعلن في المفتتح عن أناه بكل إباء، وانحاز إلى الملّة المضّطهدة، التي ما تزال أنظمة الشرق ترفض الاعتراف بحقّها في الوجود.

وفي قصيدة «دمٌ أعمى»، يضع الشاعر مبضعه على الوجع المحلّي الماثل أمامه والظاهر للعيان، ذلك الإشكال القريب جداً كما انطلق يوماً رسول حمزاتوف في روايته «داغستان بلدي» من دروب منطقته، إذ إنه يتمثّل دور فتاة مغرمة بعد أن منعتها الأعراف المجتمعية من إظهار ما تخبّئة في فؤادها:

«وحيدٌ أنا

كعاشقةٍ جائعةٍ في أزقّةِ «كوباني»

تخشى رائحةَ العاداتِ، ولِفافةَ الذكوريةْ».

فالنظرة البطريركية، ما تزال تحرم الفتاة من إبداء مشاعرها والتعبير عما يشغل قلبها، وثمَّة طوقٌ يُحيق بمشاعر الإناث، ولا يسمح لهنّ بالعيش في منطاد الحبّ الجميل، من دون أن يتعرّض الماكثون فيه للركل أو القنص، ومن دون أن يقتحم الذكور مخادِع العاشقات، أو يرشقوا منطاد الهوى بنبال التخلّف الصلد، لتتلاشى المشاعر في الهواء الطلق قبل اصطدام المحبّين بصخرة المجتمع، ومن ثم يتدرّج الشاعر منطلقاً من المحلّي إلى مآسي النسوة على يدي صنَّاع الحروب في عفرين، كركوك، بيروت، دمشق، بغداد، دُكالة والجيزة.

 

«نقِّب في ذاتك، ها هنا بالداخل ينبوعُ خيرٍ جاهزٌ لأن يتدفّق في أيّة لحظة إذا ما بقيتَ تُنقِب». ماركوس أوريليوس

 

بينما قصيدة «ليس للكوردي إلا البكاء»، هي صدى الواقع المرير الذي لم يتخطَّ مرحلة التهديد الوجودي، بالرغم من تقديم آلاف القرابين إلى هذا اليوم، منذ بدء الحَرَاك التغييري في البلد، إذ ما يزال الكورد محاطون بألسنة الترهيب، وهو ما يدعو إلى بقاء غيوم الإحباط في سماء الشاعر، حيث إن لغة التخويف والوعيد من قِبل رُسل الظلام سارية المفعول، كما أن صور تجاربهم السابقة المتمثّلة ببتر كلّ ما هو جميل، لم تفارق مخيال مَن شاهدوا عدوانهم وعسفهم وفظائعهم، وهو ما تسبّب باستجلاب كلّ هواجس القنوط لتطبّق على سماء الشاعر، وتجعله أسير تكهّنات الغد القاتم، طالما أن الوضع على الأرض بعد كلّ الخراب والدمار يدعو للاستنفار والتأهّب لما هو أسوأ، والعوامل التي تدفع لتكهّن الخيبات والنكسات تسيطر على المشهد السياسي والميداني.

إذ إن مملكة العواطف الجيّاشة والأحلام الوردية سرعان ما تضمحل أمام الوقائع الممهورة بحبر الخذلان، بما أن جيوش الآخرة ما تزال تفرض سلطانها في تلك الجغرافيا المبتلاة بحشود الغلاة، وبما أن احتمالات التهجير والطرد ما تزال قائمة، وليست بعيدة عن حياة الكورد، لذا فمن باب التحذيرِ يُعيد الشاعر ذات الهواجس في قصيدة «سقوطٌ ساقطٌ»:

«كلُّ الدموعِ لها بيوتُها

فلِمَ دمعةُ الكورديِّ مشرّدةٌ

تتدحرجُ في الشوارعِ

تلحقُها حشودٌ سوداء؟».

أما في قصيدة «مراصد الروح»، يصعد الشاعر لأعلى نقطةٍ تسمح له بالمعاينة من فوق، إلّا أنه لم يرتقِ مرصده ليراقب الآخرين، إنما ليلتفت إلى الداخل، تسلَّح بعُدّة الرؤية وأجهزة الرصدِ في العلالي، لا لكي يحمل منظاره ويحدّق في البعيد، إنما لكي يُعيد استكشاف القريب، فهو لم يطلع لكي يستطلع الأبعاد في الخارج، إنما لكي يغوص في أعماق ذاته، تماماً كما ينصح بذلك ماركوس أوريليوس: «نقِّب في ذاتك، ها هنا بالداخل ينبوعُ خيرٍ جاهزٌ لأن يتدفّق في أيّة لحظة إذا ما بقيتَ تُنقِب».

أما عن الدور العلاجي للكتابة وقدرتها على التعافي في تساؤله:

«لِم الكتابةُ تُريّحُ الأرواحَ المُتعبةَ؟

لِم الكتابةُ تُخرِجُ الأرواحَ من قوقعاتِها؟

لِم الكتابةُ تُشعرُني بأنني إنسانٌ؟».

يذكّرنا الشاعر بما أشار إليه العلماء عن أهمية الكتابة كوسيلة شفائية فعّالة؛ لافتين إلى مساهمة التدوين في تحسين صحّة الفرد النفسية والجسدية، وذلك بعد تجربة أجراها عالم النفس جيمس بيكر عام 1986م على مجموعة من الطلاب، وكيف توصّل العالمُ إلى علاجٍ نفسي جديد مبتكر وملهم، وذلك بعد أن طلب من مجموعة من الطلاب الكتابة لمدّة 15 دقيقة يومياً، عن أكبر صدمة أو أصعب وقتٍ مرّ عليهم، ليكتشف بعد 6 أشهر من الملاحظة، أنهم تمتّعوا عقب الكتابة بصحّة أفضل، ليبدأ علم النفس من وقتها في دراسة العلاقة بين ما يعرف بـ «الكتابة التعبيرية أو العلاجية».

في جدال الشاعر مع البغضاء في «ممرّات الكراهية»، ثمّة تنويه إلى ما تفعله الكراهية من خلال خطابها الموجّه إلى مَن كانوا على أهبة الانفجار لأتفه سببٍ بعد أن تأجّج الشارع وامتلأتِ القلوب بالأحقاد، بما أن ما يجري على أرض الواقع من انتهاكاتٍ يومية مسبّبها الرئيس خطاب الكراهية الذي بات يُهدِّد النسيج المجتمعي برمّته، وبما أن للمقتِ أثره السلبي الذي يعاني منه اليوم حتى بعض زُرّاع الضغينة ومشعلي مواقد الغِلّ أنفسهم، ولخطورة خطاب الكراهية جاءت مخاوف الشاعر من الكراهية التي صُنع لها هرماً خاصّاً بها، ذلك الهرم الذي يبدأ بالتحيّز الفكري، التحامل الفردي، التميّز، العنف ومن ثم الإبادة الجماعية، كما حصل للإيزيديين على يد تنظيم داعش في 2014م، وكما كان سيحصل للمكوّن الدرزي هذا العام، لولا مساندة وتدخّل دولةٍ إقليمية بقوّة ترسانتها الجوية.

واضح أن الشاعر اشتغل على مهلٍ في نسج قصائد هذا الديوان، ورتَّق الكلمات المضمخة بنسغه الحيّ بتؤدة، لذا ربما يكون من المجحف التسرّع في قراءة الديوان، ولكن بما أننا لسنا بصدد إعداد دراسة عن مضمون المجموعة ككل، لذا فليسامحنا الشاعر على عدم التزامنا بأصول التمهّل وقواعد التأمّل الطويل؛ كي نتمثّل الحالة التي كان عليها إبان الانهماك ووقت نزول الإلهام عليه.

 

«إن كان المتلقّي فائض الحساسية، فالقصيدة التي تُتعِب شاعرها تُتعِب القارئ أيضاً، وعندما تكون القصيدة عسيرة يستنفر معها كلّ المعنيون بها». ماجد ع محمّد

 

حيال ألبوم العائلة في قصيدة «حروب أمّي»، وكذلك الأمر في «حرائق أخي»، يرفع الشاعر المجريات اليومية في المنزل إلى أعلى مراتب الخطاب الرحماني، بين العائلة الواحدة وعلى الأخصّ بين الإخوة، فهذا النمط من الخطاب لا يعتصم به ولا يبلغه إلاَّ مَن كان يطحن العادي والمعاش فيجعله بمقام الأيقونة، الخطاب الذي لا يلجأ إليه إلّا مَن كان عشّاً رؤوماً وملاذاً لخلجات وأوجاع قاطني المنزل، ومَن كان قادراً على أن يعصُر ذاته كي يصنع للذوات عصائر الفردوس الأرضي، حتى ولو كان هو شخصياً في جحيم حالته النفسية، إن العلوَ الذي يبلغ كماله وهو يصعد من مجريات الحياة اليومية لا يقدر على التصدّي له إلّا مَن كان حقّاً يعيش واقعياً بين أفانين تلك الشجرة المتطلعة لسموات الألفة والسماح والوئام.

أما بخصوص القصيدة المنهكة، فصحيح أن العمل الذي يستغرق وقتاً أطول وجهداً أكبر يكون من نتاجه تقديم المنتج بأفضل حُلَّة، وهو ما يجعل المتلقّي يبلغ ذروة الاستمتاع بها، إلّا أن المرء حيال المنتج الفنّي لا يكون حيادياً قط، فالمنتج الإبداعي لا يُعامل معاملة المنتجات التقنية أو الآلية أو الاستهلاكية، وحقيقة إن كان المتلقّي فائض الحساسية، فالقصيدة التي تُتعِب شاعرها تُتعِب القارئ أيضاً، وعندما تكون القصيدة عسيرة يستنفر معها كلّ المعنيون بها، فهي تهزّ الجميع، وتشعل أخيلة القرّاء، وتقلقهم جميعاً، حتى وهي تضع آخر حجرِ من قلعتها، التي تئنّ تحت وطأتها الصفحة، وكحال مختلقها يشعر القارئ وكأنه على حافة هاويةٍ مرعبة يسير وهو مجبرٌ على المضي معها للخاتمة، حتى يصل السطر الأخير، فيتنفّس الصُّعداء مع الشاعر.

 

«ليس الشاعر من المغرمين بالمعاناة، ولا يجرّ الحزن والألم إلى دياره جرّاً، ولكنه لا يقدر على تجاهل ألم الآخرين». ماجد ع محمّد

 

في مخاطبة النبيلين الراحلين «نبيلان كورديان»، ينجح الشاعر في استدراجنا كي نتلمّس مُحَيّا مَن يخاطبهم، وأحسب أنه أفلح في سحبنا رويداً رويداً صوب مضارب النبيلين، وناحية ما كان يفكّر به أوان التدوين، ربما من أجل إبقاء سِماهم في الأذهان أطول فترة ممكنة بعد أن رسم ملامحهم على الورق، وفي الوقت ذاته فهو لا يعتقلنا هناك، إنما يُحرّضنا على الإقلاع بعيداً فترتسم أمامنا كقرّاء هيئة وصور قامات مماثلة، للتي يخاطبها الشاعر، طالما أن لكل فردٍ سوريٍّ حسب البيئة والمكان رموز اجتماعية وشخصيات نضالية سكنت الغياب، ولم تفرح مع الموجودين الآن بمغادرة الغول، الذي بقي جاثماً على صدورهم لعقود.

في قصيدة «شرق الغرابات»، يضعنا الشاعر مباشرة أمام لوحةٍ اجتمعت فيها أركان الثيوقراطية، مع فيالق من المعبّأين بأطنانٍ من الديناميت العقائدي القادر على تفخيخ الحياة في القرى والبلدات والمدن، مشهَداً اعتدنا حين ملاحظته على رؤية الأشكال التي تجرّ ظلامها منذ سنوات أينما حلّت واستوطنت.

«يجلسُ شريدٌ مُلتحٍ على عرشٍ،

قصيرُ القامةِ

مَنفيٌّ

يتسلّلُ من الضباب

يتّخذُنا قُرباناً

ليُرضي الآلهةَ

ويقودُنا نحوَ الهلاك».

فبفضل التعبئة الدينية والتجييش المذهبي، زحفت أسراب الفتكِ، واجتمعت في تلك البقعة الجغرافية، لتؤسّس إمبراطورية الخراب، بناءً على الحَقنِ وعلى ما تلقّفته من رسائل تحضّ على الشحناء، وتدفع نحو التضحية بالآمنين إرضاءً لإلههم الخاصّ، إلاههم الذي لم يجد إلّا الهمج والغوغاء والمنتهكين، لينفذوا قراره ومشيئته على البسيطة.

كقارئ لا أنكر بأن الحيرة أطلّت برأسها منذ أن عاينتُ غلاف الديوان الشعري الثاني للشاعر الكوردي إدريس سالم، حيث إن العنوان الفرعي كان له حضور آثر، واستحوذ على تفكيري طوال فترة مكوث الديوان أمامي على الطاولة وهو في انتظار القراءة، ليس لأن مفردة الحرب ذُكرت تسعة عشر مرّة على طول قصائد الديوان فحسب، إنما لأن الشاعر ينظر للحرب كقاصر لم تبلغ سنّ الرشد، فهو يرى المعمعة كمراهقة لم تصل مرحلة النضج، كي تستطيع تحمّل مسؤولية نفسها، ومتى تكون الهيجاء مسؤولة بحقّ عن أفعالها وأعمالها، فالعنوان الفرعي بالنسبة لي كمتلقي زاحَم العنوان الرئيسي للديوان، بالرغم من أن الأخير كُتبَ بالبنط العريض، واستغلّ مساحة كبيرة من الغلاف، وكان له مكانة خاصّة لدى مصمّم الكتاب والشاعر نفسه، مع أن قصيدة «متى تقرّرُ الحربُ، أن تكبرَ، وتتخلّى عن جبروتِها وعفاريتها؟!» هي الأطول من بين كلّ قصائد الديوان، كما أن الإطار الزمني للقصيدة أشمل من كلّ قصائد الديوان؛ باعتباره بدأ منذ بدء الحراك الجماهيري في سوريا، مستذكراً في سياقه الفظاعات التي ارتُكبت في ظلّ النظام البعثي البائد، وصولاً إلى ارتكاب المجازر في الساحل السوري هذا العام من قبل عناصر النظام الجديد، موثّقاً في العمل أيضاً مشهد حراسة أم أيمن لجثث أولادها طيلة أربعة أيّام خلف منزلها، لرفض القَتَلة تسليم جثث ذويها، لافتاً إلى التشوّهات الثقافية التي أودعها النظام السابق في حجر النظام الحالي قبل خلعه «رحل مستبدٌ آخر ترك خلفه إرثاً مشوّهاً».

 

«إذا ما خيّرتُ بين الألم واللا شيء سأختار الألم». وليم فوكنر

 

كما ينوّه الشاعر مثل الكثير من السوريين إلى أن الحرب لم تغيّر الأوضاع نحو الأحسن كما كان مأمولاً، إنما أخرجت كلّ ما هو فظيع ودموي ومدمّر، وغدا حال البلد وكأن صندوق باندورا فُتح فيه، وبدلاً من التخلّص من شرّ الطاغية انتشرت كلّ الشرور في البلد، هو في الحقيقة ليس بنادم على الانتفاض بوجه المستبدّ السابق، لكنه متأسّف على الذي جرى لاحقاً:

«وطنٌ كانَ ياسمينةً

كانَ قَرَنْفُلةً

وصارَ عفريتاً».

كما أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه مع مرور أكثر من عقد من غير أن تلوّح بشائر الأمل تركت أثلام اليأس على شغاف المشاعر، حيث إن الأحلام العظيمة اختُزلت، تقهقرت، تقلّصت إلى حدودها الدنيا، فمن فضاءات الانعتاق والخلاص والحرّية المنشودة وصل الحال بالناس إلى حصر التفكير بالقوت اليومي:

«أكبرُ أحلامِنا

رغيفُ خبزٍ يقمعُ صوتَ أمعائِنا

فليحترقْ وطنٌ

أكبرُ أحلامِنا فيه رغيفُ خبزٍ معجونٍ بالآلام».

وبما أن الحرب كانت جشعة وما تزال مستمرّة في توسيع نطاق بشاعتها وتكبير حجم المقابر، وقد امتدّت مخالبها لمعظم بيوت البلد، لذا قدّمها الشاعر بهيئة ممسوخة وبأشنع صورة حيث يقول:

«الحربُ يا أبي

وجهٌ قبيحٌ يطاردُنا بأنفاسٍ كريهةٍ

الحربُ

ظلٌّ موِحشٌ

لصٌّ يحنِّطُ الخراب...

كلُّ الحروبِ

خاسرةٌ

وحدَها الآلامُ

مَن تنتصرُ

على رصاصِها».

وحيال المونولوج الوارد في ذات القصيدة وسؤال الخلان: «لمَ كلّ كتاباتك عن الألم، تتنفّس السوداوية والعبثية؟»، أحسب أن الشاعر لم يقل كلّ ما لديه، وربما تملّص من كامل الإجابة الماكثة في الأعماق، ولكن لكي يقطع الطريق على استفساراتهم التي قد تفضي إلى أماكن لا ينوي الولوج إليها يجيب باختزال: «الحزن وباءٌ عالميّ»، لا شك هو ليس من المغرمين بالمعاناة، ولا يجرّ الحزن والألم إلى دياره جرّاً، ولكنه لا يقدر على تجاهل ألم الآخرين، وقد يُفضل شاعرنا الألم على المسرة الفارغة من أيّ معنى أو غاية، كما ذهب إلى ذلك المنحى وليم فوكنر بقوله: «إذا ما خيّرتُ بين الألم واللا شيء سأختار الألم»، وبما أن الآلام الشخصية للشاعر لا تنفصل عن الآلام العامة، بل ولأنه يربط ألمه الخاصّ بألم الناس لذا جاء جوابه المقتضب «الحزن وباءٌ عالميّ» موائماً لما يذكره الشاعر حجي نعسان في كتابه (Tarîkoj) إن «الذين لا آلام شخصية لهم، لا يقدّرون على فهم المشاعر الكونية»، وعن أهمية الألم في بعض الحالات ودوره ليس في الإحساس بمَن يتألّمون فحسب، إنما لولا الألم لما انتبه المرءُ إلى ما يحدث في جسده من دمار يومي، كما هو الوضع لدى المصابين بمرض الجذام، ففي إطار العلّة المذكورة آنفاً اعتبر كلّ من الدكتور بول براند وفيليب يانسي أن الألم بمثابة الهبة.

ومن اللقطات الغرائبية في القصيدة ذاتها نقرأ:

– تفقيس القمل داخل الأفكار.

– السجناء أرقام صدئة في ذاكرة الجلّاد.

– متى ينهش الفرح أنيابه الجشعة المتعطّشة لرائحة أرواحنا؟

 

«الذين لا آلام شخصية لهم، لا يقدّرون على فهم المشاعر الكونية». حجي نعسان

 

وبما أن توقّعات الظفر ما تزال مستبعدة لذا ينهي الشاعر قصيدته بسؤال عنوانها الذي يأخذنا من خلال حروفها إلى وطنٍ لا ننتمي إليه، وطناً نرى أنفسنا فيه غرباء، لدرجة أننا نجهل كلّ شيء في ذلك الوطن بعد العودة إليه، فلا نتعرّف على أناس وأسواق البلد، طرقه، أزقّته ولا حتى أسماء شوارعه، وطنٌ فُرض علينا مقاسهُ ومناخهُ ولونهُ وقانونهُ الذي تم صياغته بالدم والتراب، نيابةً عن تطلّعات وآمال وأحلام ملايين السوريين.

«سنزورُ وطننا

سنزورُ وطنَنا

سنربّي خُطانا على أرضِه من جديدْ

كأيّ غريبٍ يجهلُ أسواقَه، طرقَه، وأزقّتَه...

سنزورُ وطنَنا

لنحفظَ أسماءَ الشوارعِ

لنحفظَ نشيداً وطنياً

ألّفوه بلغةِ الدمِ والترابْ. 

سنزورُ الصامتينَ

لنصلبَ الفجائعَ

على نخلةٍ ما زالَتْ تحاولُ أن تُثمر

وتصيحُ بصوتٍ عالٍ

متى تقرّرُ الحربُ

أن تكبرَ،

وتتخلّى عن جبروتِها وعفاريتها؟!».

 

صدرت المجموعة الشعرية «مراصد الروح»، للشاعر الكوردي السوري، إدريس سالم، هذا العام 2025 عن منشورات «نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب»، بهولندا، في 120 صفحة من القطع المتوسّط.

 


google-playkhamsatmostaqltradent