recent
جديدنا

أحمد الزاويتي لموقع «سبا»: «هروب نحو القمّة» مرآة لمأزق الهُوية الكوردية المعاصرة


 

حاوره: إدريس سالم

 

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد...

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ تتحوّل تجربة الهروب القسري من الموت إلى مرآة تعكس مأزق الإنسان المعاصر: هل الحرّية غاية أسمى من البقاء، أم أن التشبّث بالحياة هو الشكل الأقصى من الحرّية؟

تتجلّى في هذه الرواية، ومن ثم في الحوار، جدلية العلاقة بين الذاكرة والزمن، حيث الماضي لا ينقضي، بل يتشبّث بالوعي كقدر، محوِّلاً الحاضر إلى امتداد دائم للجرح. هنا يغدو السؤال: هل الكتابة تحرير للذاكرة أم استسلام لسطوتها؟ وهل يمكن للأدب أن يمنح للمأساة معنىً يتجاوز عبثيتها؟

كما يستدعي الحوار سؤال الهُوية، لا بوصفها بطاقة أو حدوداً جغرافية، بل كجرحٍ جمعي متوارث، وكوعي يتشكّل من الألم بقدر ما يتشكّل من الأمل. فيصبح الأمل ذاته موضع مساءلة: هل هو مجرّد خدعة وجودية لتلطيف العذاب، أم طاقة داخلية تبرّر الاستمرار؟

إن هذا الحوار مع الزاويتي لا يقرأ رواية، بقدر ما يضع القارئ أمام امتحان وجودي مفتوح، حيث الحرّية والموت، الذاكرة والكتابة، تتحوّل إلى أسئلة تضيء عتمة الإنسان وهو يصعد نحو قمّته الداخلية.

 


أسئلة الحوار:

تضع روايتك «هروب نحو القمّة» الإنسان أمام امتحان الوجود ذاته؛ ففي لحظة الهروب القسري من الموت يصبح معنى الحياة على المحك، لتكون الحرّية ليست مجرّد شعار سياسي أو مطلب قومي، بل معركة داخلية بين الخوف والأمل، بين الرغبة في النجاة والرغبة في الكرامة. إنها رواية تكشف أن الحرّية ليست مكاناً نصل إليه، بل تجربة وجودية نعيشها وسط المأساة.

– هل الحرّية قيمة تستحقّ التضحية بالحياة من أجلها، أم أن البقاء نفسه هو أسمى أشكال الحرّية؟

في لحظة يصير كلّ شيء عالقاً بين نبضتين: أن تحيا، أو أن تكون حرّاً.

الحياة في ظاهرها هي الامتداد البسيط للزمن، هواء في الرئتين، قلب يخفق ليثبت أننا ما زلنا هنا. لكنها، حين تُجرّد من المعنى، قد تغدو مجرّد إقامة طويلة في سجن لا جدران له. سجن يتزيّن بالاستمرار، لكن أبوابه موصدة في وجه الحلم.

أما الحرّية، فهي ليست شيئاً ملموساً، إنها شعور يختبئ في العمق، كالضوء في عتمة حالكة. كثيرون رأوا أن الحرّية أثمن من هذا الجسد الفاني، فاختاروا أن يُطفئوا وجودهم ليُشعلوا شرارة للآخرين. كانوا يؤمنون أن الموت حرّاً أبهى من العيش أسيراً.

لكن ثمّة أصوات أخرى تقول: «لا تتعجّل الرحيل؛ فالبقاء نفسه شكل من أشكال الحرّية». أن تبقى رغم القهر يعني أنك ترفض أن يُمحى حضورك، أنك تنتزع لنفسك حقّ الترقّب، وحقّ الأمل، وحقّ الكتابة على جدران الزمن بأنك لم تُكسر.

هكذا يتأرجح المعنى بين جناحين: جناح يصرخ «الحرّية أو الموت»، وجناح يهمس «البقاء هو الطريق إلى الحرّية». وما بين الصرخة والهمس، يقف الإنسان وحيداً، يحاول أن يختار، أو ربّما يحاول فقط أن يفهم: هل الحرّية غاية تستحقّ أن نفنى لأجلها، أم أن سرّ الحرّية كامِن في أن نعيش... مهما كان الثمن؟

 

– كيف يغيّر الهروب – كفعل قسري – معنى الوطن في وعي الفرد؟ هل يبقى الوطن مكاناً أم يتحوّل إلى ذاكرة؟

الهروب، حين يأتي قسرياً، لا يُختزل في كونه انتقالاً جسدياً من أرض إلى أخرى؛ إنه انفصال عن المعنى الأوّل للوطن.

في البداية، يبقى الوطن مكاناً واضح المعالم: مدينة، بيت، جبل، أو زقاق ضيّق يعلو فيه صدى الطفولة. لكن حين يُنتزع الإنسان منه قسراً، يتسرّب المكان من تحت قدميه ويذوب شيئاً فشيئاً في الذاكرة. تتحوّل الشوارع إلى صور معلّقة في الذهن، وتغدو الأزقّة ضوءاً باهتاً في المخيّلة؛ لا تُمسك بها اليد، لكن يستحيل نسيانها.

الوطن، عندها، لا يعود جغرافيا ملموسة، بل يصبح حالة وجدانية. رائحة الخبز تتحوّل إلى طيف عالق في الذاكرة، وصوت المطر على السقف يتحوّل إلى موسيقى منفى. وحتى اللغة الأمّ تُحمَل كوشمٍ على الروح، لا كأداة للتخاطب فقط.

الهروب يُضاعف معنى الوطن: يجعل منه جرحاً دائماً، لأن ما غُصِب بالقوّة يتحوّل إلى فقدان لا يلتئم. لكنه يجعله أيضاً فكرة أوسع من المكان، إذ يصبح الوطن هو الحلم بالعودة، أو القدرة على إعادة صياغة الحياة في أيّ أرض جديدة بروح المكان المفقود.

وهكذا يتحوّل الوطن في وعي الفرد المطرود من حضنه إلى ذاكرة ممتدّة، ذاكرة قد تُثقل صدره بالحنين، أو تدفعه ليعيد بناء الوطن في ذاته: في كتاب يكتبه، في أغنية يردّدها، أو في طفل يعلّمه أسماء الشوارع التي لم يزرها قط.

 

– حين يصبح الجبل ملاذاً، هل يظل «صديقاً»، أم يتحوّل إلى رمز لخذلان الطبيعة للإنسان؟

الجبل كـصديق

الجبل ظلّ عبر الذاكرة الإنسانية مرادفاً للأمان:

هو الحصن الذي يحمي من بطش الجيوش، والظلّ الذي يضمّ الهاربين من المدن.

في المخيال الكوردي، مثلاً، قيل: «ليس للكوردي من صديق سوى الجبال»، تعبيراً عن أن الطبيعة احتضنت شعباً خذله العالم. هنا الجبل ليس مجرّد تضاريس، بل رفيق صامت، يقاسم الإنسان وحدته ويمدّه بشعور من الصلابة والثبات.

الجبل كرمز للخذلان

لكن الملاذ نفسه قد ينقلب إلى قسوة:

فالجبل، بما يحمله من برد وجوع وعزلة، قد يفرض على الإنسان ثمناً باهظاً للبقاء. حين يطول الاختباء ويصبح الأفق مسدوداً، يتحوّل الجبل من صديق حامٍ إلى جدار يحاصر، يذكّر الإنسان بأن الطبيعة محايدة لا تعرف الرحمة. هنا، يغدو الجبل رمزاً للخذلان، كأنما يقول للإنسان: «لن أنقذك، سأبقى كما أنا، صخرة صمّاء، وأنت وحدك في معركتك».

المفارقة:

الجبل في النهاية ليس خيّراً ولا شريراً، لكنه مرآة لوجدان مَن يلجأ إليه.

مَن رآه صديقاً، وجد فيه الصبر والستر والملاذ...

ومَن رآه قاسياً، حمله كعبء ثقيل ورمز لخذلان الطبيعة.

وهكذا، يبقى الجبل نصف الحقيقة: صديق بقدر ما يتحمّل الإنسان قسوته، وخذلان بقدر ما يطلب منه ما هو فوق طاقته.

 

– هل نلجأ إلى الماضي لأنه يحمل عزاءً حقيقياً، أم أن الحاضر عاجز عن منحنا المعنى الذي نفتقده؟

الماضي كعزاء:

الماضي يبدو أحياناً مثل بيت قديم تُركت أبوابه مفتوحة. ندخله فنجد فيه وجوهاً أحببناها، أصواتاً رحلت لكنها تظلّ حيّة في الذاكرة، وأحداثاً نعيد تشكيلها كما نشتهي.

نستعيد الماضي لأن فيه عزاء جاهزاً، حتى لو كان وهمياً؛ فهو يعطينا شعوراً أن هناك زمناً كان أكثر صفاء من حاضر مثقل بالتشظّي.

أحياناً يكفي أن نغلق أعيننا ونستدعي لحظة دافئة من الماضي لنشعر أن الحياة لم تكن كلّها قسوة.

الحاضر كعجز:

لكن اللجوء المتكرّر إلى الماضي يكشف شيئاً آخر: أن الحاضر عاجز عن أن يمنحنا ما نبحث عنه. في اللحظة الراهنة، كلّ شيء سريع، هشّ، متغيّر، لا يسمح بتكوّن المعنى العميق. إذاً نهرب إلى الماضي لأننا لا نجد في الحاضر ما يوازي ذلك الطمأنينة، ولا نملك الصبر الكافي لننتظر أن يتحوّل الحاضر نفسه إلى ماض يملك قيمة.

المفارقة:

الحقيقة أن الاثنين متداخلان:

·        الماضي يمدّنا بالعزاء، لأنه يمنحنا وهم السيطرة، إذ يمكننا أن نعيد صياغته كما نريد.

·        أما الحاضر، فهو فوضوي، متفلّت، لا يُمسك بسهولة، ولهذا نراه عاجزاً. لكن إن تأمّلنا أكثر، نكتشف أن كلّ عزاء في الماضي لم يكن يوماً سوى حاضر عِشنا قسوته ثم صار ذكرى مطمئنة.

معنى آخر: نحن لا نلجأ إلى الماضي لأنه أفضل بالضرورة، بل لأننا لم نمنح الحاضر فرصته الكاملة ليصير ذكرى تملك المعنى.

 


إن الهُوية ليست بطاقة تعريف أو انتماء عابر، بل سؤالاً وجودياً يتجذّر في الذاكرة الجمعية والفردية معاً. فالشخصيات، وعلى رأسها أوميد، تحمل في داخلها تاريخ شعب ملاحق بالهروب والمجازر والتهجير، لتصبح الذاكرة خزّاناً للألم بقدر ما هي خزّان للمعنى. فالهوية هنا لا تُبنى فقط من الأرض والجغرافيا، بل من التجربة المشتركة: من صرخات الأطفال في المخيّمات، ومن حكايات الأمّهات، ومن تفاصيل الرحيل عبر الجبال. ومع ذلك، يبقى السؤال قائماً:

– كيف تسهم الذاكرة الجمعية للمآسي في تشكيل هُوية شعب ما؟ هل الهُوية تُبنى أكثر من خلال الانتصارات أم من خلال الآلام؟

الذاكرة الجمعية بين الألم والانتصار: أيّهما يصوغ هوية الشعوب؟

ليست الهوية وليدة اللحظة، بل هي تراكم طويل من التجارب، تتجسّد في وعي جماعي يُعيد تعريف نفسه عبر الأجيال. في هذا السياق، تبرز الذاكرة الجمعية للمآسي بوصفها إحدى أقوى القوى التي ترسم ملامح الشعوب. فالمأساة، حين تتكرّر أو تبلغ ذروة القسوة، تتحوّل إلى بنية تحتية للوعي، أشبه بجذرٍ خفيّ يمدّ الهوية بصلابتها.

الألم كذاكرة مؤسِّسة:

حين يواجه شعب إبادة، تهجيراً، أو قمعاً، لا يعيش الأفراد معاناتهم كحوادث متفرّقة، بل كقدرٍ مشترك. تتكوّن من ذلك لغة رمزية جامعة: طقوس حداد، أغانٍ حزينة، نصب تذكارية، وروايات تُروى في البيوت والمدارس. وهكذا يصبح الألم نقطة تعريفية.

اليهود ما زالوا، حتى اليوم، يعرفون أنفسهم في ضوء الهولوكوست، فالإبادة النازية لم تجرّدهم من الحياة فقط، بل منحتهم أيضاً ذاكرة جمعية جعلت من «الناجي» صورة كبرى للهوية.

الكورد يُعرّفون أنفسهم من خلال مآسي مثل الأنفال وقصف حلبجة، حيث غدا الألم رابطاً مشتركاً يذكّر الأجيال بأن وجودهم ذاته كان مهدّداً بالفناء.

في هذه الحالات، الهوية تُبنى على أسطورة البقاء: أن نكون معاً، رغم ما أُريد لنا من زوال.

الانتصار كذاكرة محفّزة:

في المقابل، الانتصارات تمنح الشعوب طاقة إيجابية: شعوراً بالقدرة، بالكرامة، وبالجدارة التاريخية. الفرنسيون، مثلاً، لا يزالون يستمدّون جزءاً من هويتهم الوطنية من ثورة 1789م وما تبعها من إعلان حقوق الإنسان.

الجزائريون يستعيدون نصرهم على الاستعمار الفرنسي كأحد أعمدة هويتهم الحديثة. الانتصار يكتب أسطورة القدرة، نحن الذين هزمنا الغزاة، نحن الذين رفعنا راية الاستقلال. لكنه غالباً ما يكون عابراً، يحتاج إلى إعادة الاحتفاء به باستمرار حتى لا يذوب في رتابة الزمن.

ثِقل الألم وخفّة الانتصار:

المفارقة أن الألم، رغم فداحته، أكثر رسوخاً من الانتصار. فبينما يمكن أن يُنسى النصر مع مرور الأجيال أو يُؤوَّل بطرق متناقضة، يبقى الألم جرحاً حيّاً، يتوارثه الأبناء كأنه جزء من دمائهم. إنه علامة هوية لا يمكن إنكارها أو تجاوزها.

الهوية إذن تُبنى من الاثنين:

الانتصارات لتقول: نحن قادرون.

الآلام لتقول: نحن باقون رغم كلّ شيء.

لكن إن كان لا بدّ من المفاضلة، فإن التاريخ يبرهن أن الشعوب تتذكّر نفسها عبر جراحها أكثر مما تفعل عبر انتصاراتها. فالانتصار يمنح الهوية أجنحة، لكن الألم هو الذي يمنحها جذوراً.

 

– «أوميد» (الأمل) رمز مركزي في الرواية؛ فهل الأمل وهم وجودي يُخدّر الألم، أم أنه القوة التي تبرّر استمرار العيش؟

أوميد: الأمل بين وهم يُسكّن الألم وقوّة تُبرّر العيش:

في روايتي (هروب نحو القمة)، يتجلّى أوميد – واسمه يعني الأمل – بوصفه رمزاً مركزياً، ليس فقط في الحكاية، بل في البنية الرمزية للرواية كلّها. فهو الشخصية التي تحمل على كتفيها التوتّر الوجودي بين الألم العاري، وبين الوعد المؤجَّل الذي يمنحه الأمل.

الأمل كقناع للألم:

يظهر أوميد في كثير من اللحظات وكأنه يعيش على وعود مؤجّلة. فالأمل عنده قد يُفهم كآلية دفاع نفسي، كستار يخفّف من قسوة الواقع. كأن حياته سلسلة من الجروح التي يغطّيها بالعبارة الضمنية: «أن ما ينتظرنا أفضل ممّا تركنا». هنا يصبح الأمل مخدّراً وجودياً، يتيح الاستمرار لكن بثمن الوهم.

الأمل كطاقة للاستمرار:

ومع ذلك، لا يمكن اختزال أوميد في صورة الحالم المخدوع. فالرواية تقدّمه أيضاً كمَن يستمدّ من الأمل طاقة حقيقية، تجعله قادراً على حمل المعاناة دون أن ينكسر. الأمل عنده ليس زينة فارغة، بل هو المحرّك الصامت الذي يمنحه القدرة على تحمّل المشاق، وعلى النظر إلى المستقبل باعتباره احتمالاً مفتوحاً، لا جداراً مسدوداً.

المفارقة الرمزية:

بهذا المعنى، يصبح أوميد تجسيداً للمفارقة التي تلازم الشعوب المنكوبة: هل الأمل خيانة للحاضر الموجع لأنه يؤجّل المواجهة، أم أنه بالضبط ما يجعل الصمود ممكناً؟ الرواية لا تقدّم إجابة قاطعة، بل تترك القارئ أمام مأزق فلسفي: من دون أمل لا معنى للعيش، لكن بالأمل فقط لا يتحقّق الخلاص.

أوميد بوصفه استعارة:

في النهاية، أوميد ليس مجرّد بطل روائي، بل استعارة عن الإنسان في أقصى حالات ضعفه وقوّته معاً، مخلوق يجرحه الواقع ويُسعفه الوهم، لكنه يظلّ يتشبّث بخيط الأمل، لا لأنه يثق بوعوده حتماً، بل لأنه يدرك أن غيابه يعني السقوط في فراغ لا نهائي.

 

«الأدب لا يغيّر الماضي، لكنه يغيّر نظرتنا إليه».

– أيمكن للخيال (السرد الأدبي) أن يمنح للواقع معنى مفقوداً، فيتحوّل التاريخ من مأساة إلى «ملهاة» كما يقولها أحمد الزاويتي؟

من المأساة إلى الملهاة: حين يمنح الخيال للتاريخ معنى جديداً

هل يمكن للخيال أن يمنح للواقع معنىً مفقوداً؟ وهل يستطيع السرد الأدبي أن ينتزع من قلب المأساة شيئاً يُشبه الملهاة؟

حين نتأمّل التاريخ في صورته الخام، نراه مثقلاً بالدمار والخسارات، مجرّد سلسلة من الوقائع الثقيلة التي تجرّ وراءها ذاكرة جماعية من الألم. لكن ما إن يدخل هذا التاريخ إلى النصّ الأدبي، حتى يبدأ بالتحوّل: المأساة تُستعاد لا كجرح مفتوح فحسب، بل كمشهد يمكن إعادة تأويله، وربما الضحك على مفارقاته.

الأدب هنا لا يُنكر الألم، بل يمنحه بُعداً آخر. فالتراجيديا التي تُرهق النفس تُصبح، في يد الكاتب، مادّة لإنتاج سردية جديدة، سردية قادرة على تحويل العبث إلى دلالة، والكارثة إلى نصّ يُقاوم النسيان. إنها ما عبّرت عنه حين أشرت إلى أن التاريخ قد يتحوّل من مأساة إلى (ملهاة). فالملهاة ليست هنا دعابة سطحية، بل هي سخرية سوداء تنبع من عمق التجربة، تجعلنا نرى أن الكارثة، في لحظةٍ ما، كانت أيضاً مسرحاً لعبث البشر وصراع القوى وتقلّبات المصير. وبذلك، يصبح الخيال الأدبي وسيلة لإنقاذ الإنسان من أن يبتلعه العبث؛ إذ يضع الألم في إطار يمنحه المعنى، ولو كان هذا المعنى نفسه مشوباً بالمرارة.

الأدب لا يغيّر الماضي، لكنه يغيّر نظرتنا إليه. فالتاريخ يقول: هذا ما حدث. أما السرد الأدبي فيقول: هكذا يمكن أن نفهم ما حدث. وفي هذه المسافة يولد المعنى، ويتحوّل التاريخ من عبءٍ خانق إلى نصّ مفتوح على احتمالات التأويل.

 

«لماذا نتمسّك بالحياة ونحن نعلم أن الموت يتربّص بنا في كلّ خطوة؟».

يحضر الموت كظلّ دائم يلاحق الإنسان في هروبه، في الطبيعة القاسية ورصاص الجنود، حتى يغدو سؤال الحياة نفسه موضع شكّ. هنا يطلّ سؤال العبث، عن معنى البقاء وسط مأساة لا تنتهي، عن الأمل والدعاء وما إن كانا مقاومة للفناء أم محاولة لتخفيف عبث الوجود. والسؤال:

– إذا كان الموت يترصّد في كلّ طريق – كما في الهروب – فما الذي يجعل الإنسان متمسّكاً بالحياة؟

لماذا نتمسّك بالحياة ونحن نعلم أن الموت يتربّص بنا في كلّ خطوة؟

الغريزة الأولى:

أبسط جواب هو غريزة البقاء. الإنسان، مثل كلّ كائن حيّ، محكوم بدافع فطري للحفاظ على حياته. حتى في أقسى لحظات اليأس، يستيقظ هذا الدافع فجأة ويشدّ الجسد إلى الأمام، كما لو أن الحياة ترفض الاستسلام.

المعنى في مواجهة الفناء:

لكن الغريزة وحدها لا تفسّر كلّ شيء. ما يجعل التمسّك بالحياة ممكناً هو المعنى:

أمل برؤية وجه عزيز مرّة أخرى.

حُلم مؤجَّل يريد المرء أن يحقّقه.

رغبة في أن يشهد الغد ولو كان غامضاً.

المعنى، حتى لو كان صغيراً، يُحوّل البقاء من مجرّد استمرار بيولوجي إلى فعل مقاومة.

الحُبّ والارتباط:

كثيراً ما يكون الحبّ هو ما يربط الإنسان بالحياة: حبّ لأبناء، لشريك، لأرض، لفكرة. في لحظات الخطر، لا يتذكّر المرء ذاته فقط، بل يتذكّر مَن يحبّهم. هؤلاء يصبحون الحبال غير المرئية التي تربطه بالعالم.

الموت نفسه محرّك للحياة:

حين يكون الموت حاضراً في كلّ طريق، يتضاعف وعي الإنسان بقيمة الحياة. الخوف من الموت لا يشلّ الإرادة دائماً، بل قد يشعلها. في الهروب، مثلاً، يصبح كلّ نفس بمثابة انتصار صغير، وكلّ خطوة نجاة مؤقّتة لكنها كافية لزرع معنى جديد في القلب.

إذن، ما يجعل الإنسان متمسّكاً بالحياة ليس إنكار الموت، بل وعيه العميق بوجوده. فالحياة، في لحظات الهروب، تصبح أكثر كثافة، أكثر صفاءً، لأن كلّ لحظة قد تكون الأخيرة.

 

– ما قيمة الصلاة والدعاء في مواجهة المطر والرصاص والبرد كما وصفته؟ هل هي بحث عن معنى أم مجرّد محاولة للبقاء؟

كان الليل ينهار على رؤوسهم، والسماء تمطر بلا رحمة. المطر لم يعد ماءً فقط، صار يختلط برائحة البارود، ويتناوب مع صفير الرصاص، كأن الطبيعة والإنسان اتفقا على حصارهم معاً. الأرض تحت أقدامهم وحل بارد، والبرد ينهش العظام كوحش جائع.

في تلك اللحظة، لم يجدوا ما يحتمون به سوى أصواتهم. ارتفعت همسات الدعاء أولاً خافتة، كأنها اعتذار، ثم تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى أنين جماعي. واحد يلهج بآية، وآخر يرفع يديه المرتجفتين وكأنهما درع خفي، وثالث يغمغم باسم أمّه ليحوّله دعاءً.

الصلوات لم توقّفِ الرصاص، ولم تمنع المطر من الانهمار، لكن شيئاً غامضاً حدث: تماسكوا أكثر، وخطوا خطوة إضافية رغم إن الجسد كان يصرخ بالتعب. كأن الدعاء أعطاهم جناحاً داخلياً، أو جعل للبرد معنى آخر غير العذاب، معنى الانتظار حتى ينجلي الليل.

في تلك الأصوات المرتعشة، كان هناك مزيج من الخوف والأمل، من الرغبة في البقاء والبحث عن معنى. وكأنهم جميعاً كانوا يقولون للسماء والأرض معاً: لسنا وحيدين، ما دام فينا نفس قادر على الدعاء.

 

– هل المأساة قدر لا فكاك منه للشعوب المستضعفة، أم أنها نتيجة اختيارات بشرية يمكن تغييرها؟

تتردّد في أذهان الشعوب المستضعفة فكرة أن المأساة قدرٌ محتوم، وأنها محكومة بالمعاناة جيلاً بعد جيل. فالجغرافيا القاسية، والموقع بين القوى المتصارعة، والتاريخ المليء بالغزوات تجعل الإحساس بالمظلومية أشبه بقدر مكتوب في سجلّ الأبدية. ومن هنا، ينسج الناس حول آلامهم أساطير الصبر والثبات، لتصبح المعاناة جزءاً من الهوية نفسها. لكن التأمّل يكشف أن المأساة ليست قدراً سماوياً خالصاً، بل في جوهرها نتيجة خيارات بشرية. قرارات سياسية خاطئة، تحالفات آنية، صمت دولي، عجز النخب عن تجاوز انقساماتها... كلّها عوامل تصنع المأساة وتعيد إنتاجها.

مثلاً: اليهود والهولوكوست:

مثّلتِ الإبادة النازية مأساة إنسانية كبرى، لكن الذاكرة الجماعية لليهود حوّلت هذا الجرح إلى أساس لبناء دولة ومشروع سياسي قوي، حتى باتتِ المحرقة جزءاً مركزياً من خطاب الهوية الإسرائيلية.

الكورد وعمليات الأنفال وقصف حلبجة:

رغم هول المأساة وما خلّفته من جراح عميقة، صارت هذه الأحداث حافزاً لترسيخ خطاب الهوية الكوردية، وللمطالبة بالحقوق السياسية والاعتراف الدولي.

ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية:

كلا الشعبين خرجا من الحرب منهزمَين ومدمَّرَين، لكن خيارات سياسية واعية (الإصلاح الاقتصادي، الانفتاح على العالم، إعادة بناء المؤسّسات) حوّلت المأساة إلى نقطة انطلاق، وجعلت من البلدين قوّتين عالميتين خلال جيلين فقط.

إذن المأساة تحمل في طيّاتها معنيين متناقضين: فهي من جهة تبدو قدراً يفرض نفسه بقوّة، ومن جهة أخرى تكشف عن مسؤولية بشرية لا يمكن إنكارها. إنها قدر يُصنع بالاختيارات، قدر يفرض سياقه، لكن البشر يظلّون قادرين على إعادة كتابة فصوله.

يبقى السؤال إذن: هل ستظلّ الشعوب المستضعفة تُفسِّر مأساتها على أنها لعنة أبدية لا مهرب منها، أم ستملك الشجاعة لتراها كما هي: نتيجة خيارات قابلة للتغيير؟ وهل يمكن أن تتحوّل ذاكرة الألم، بدل أن تكون سجناً، إلى جسر نحو مصير آخر تصوغه الإرادة لا القدر؟

 

«الألم لا يُمحى بالإنكار».

في «هروب نحو القمّة» يتشابك الزمن مع الذاكرة، بحيث يصبح الماضي جزءاً لا ينفصل عن الحاضر. فالذكريات لا تتلاشى، بل تعود لتتجسّد في تفاصيل الحياة اليومية، كأنها تفرض حضورها على الوعي الفردي باستمرار. وهكذا يغدو الزمن دائرة يتداخل فيها الماضي بالحاضر، وتتحوّل الذاكرة إلى قوّة تحدّد نظرة الإنسان لذاته ولمعنى وجوده.

– كيف يواجه الإنسان مرور الزمن، عندما يظلّ عالقاً في ذاكرة حدث واحد (كما عاش الزاويتي ستة وعشرين عاماً مع ذكرى الهروب)؟

سؤالك يضعنا أمام صراع الإنسان مع الزمن حين يتجمّد في لحظة ماضية، فيتحوّل الحدث الواحد إلى سجن داخلي.

الزمن، بطبيعته، نهر جارٍ. لكن الذاكرة حين تتشبّث بلحظة واحدة، تُقيم سدّاً في مجراه. يصبح الماضي حاضراً دائماً، يطلّ على كلّ يوم جديد بوجهه القديم. فالإنسان لا يعود يعيش السنوات كما هي، بل يعيش عاماً واحداً مكرّراً بعدد ما مرّ من أعوام.

أثر العيش في «حدث واحد»

التجربة المأساوية:

كما عشت ستة وعشرين عاماً مع ذكرى الهروب، لم تكن حياتي سلسلة من أحداث متنوّعة بقدر ما كانت صدى ممتدّاً لصدمة أولى لم تهدأ. كل لحظة جديدة تُقاس بمدى قربها أو بعدها من تلك اللحظة الأمّ.

تجميد المعنى:

حين يعجز الحدث عن التحوّل إلى ذكرى عادية، يبقى محتفظاً بحرارته الأولى. فيغدو الإنسان أسيراً له، وكأن العالم لم يتحرّك قيد أنملة.

كيف يواجه الإنسان هذا الجمود؟ بالمحو المستحيل، محاولات النسيان، لكنها غالباً تفشل، لأن الألم لا يُمحى بالإنكار.

بالتأويل الجديد: تحويل الحدث من مأساة شخصية إلى معنى أوسع، إلى قصّة جماعية، إلى نصّ أدبي أو شهادة. هنا يصبح الألم مادّة للكتابة، بدل أن يبقى ندبة خامدة.

بالتصالح الجزئي: أن يتعلّم المرء أن الماضي لا ينتهي، لكنه يتغيّر شكله داخلنا. قد يظلّ حاضراً، لكنه يفقد حدّته مع الزمن حين نضعه في كلمات أو رموز.

الحدث الذي يعلّق الإنسان في الزمن هو نفسه الذي يمنحه هوية: لولا هذه الذاكرة القاسية، لكان إنساناً آخر. وهنا المفارقة: الماضي يقيّده، لكنه أيضاً يمنحه معنى لوجوده. كأن الإنسان، في هذه الحالة، لا يعيش في مواجهة الزمن، بل في مفاوضة دائمة معه: كيف أسمح للزمن أن يجري، وأنا ما زلت واقفاً عند بوّابة حدث واحد؟

 

«أكتب كي أتنفّس، وحين أفرغ ما في داخلي أجدني أعود، وأسكنه بوعي آخر».

– هل العودة إلى الماضي عبر الكتابة نوع من التحرّر من الذاكرة، أم تكريس للعيش داخلها؟

كنت أظنّ أن الماضي يمضي، وأن الزمن كفيل بدفنه في أعماق الذاكرة. لكنني حين أمسكت بالقلم، أدركت أن العودة إليه ليست نسياناً ولا تجاوزاً، بل مواجهة جديدة. هل أكتب لأتحرّر من صور تطاردني منذ سنين، أم لأكرّس العيش داخلها من جديد؟ لا أعرف. كلّ جملة أضعها على الورق أشعر أنها تُبعد عن صدري ثِقلاً، لكنها في الوقت ذاته تُنعش الجرح وتعيده إلى الحياة. أتذكّر هنا ما قاله أحمد مطر في قصيدته «دمعة على جثمان الحرّية»:

«أنا لا أكتب الأشعار فالأشعار تكتبني،

أريد الصمت كي أحيا، ولكن الذي ألقاه ينطقني».

كأن الكتابة قدر لا خيار فيه؛ نحاول الصمت فنُرغم على الكلام، نبحث عن التحرّر فنجد أنفسنا نعيد صياغة القيود في لغة. الكتابة، إذن، ليست خلاصاً ولا استسلاماً؛ إنها مساحة وسطى. أكتب كي أتنفّس، لكنني حين أفرغ ما في داخلي أجدني أعود وأسكنه بوعي آخر. وكأنني أقول لذاكرتي: لن أهرب منكِ، بل سأجلس أمامك وأحوّلكِ إلى لغة. فهل اللغة هي حرّيتي، أم سجني الأجمل؟

 

«الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد».

– أيمكن أن يتحوّل الهروب نحو القمّة إلى «صعود داخلي» نحو الذات، أكثر منه رحلة مكانية نحو النجاة؟

إن الجواب على هذا السؤال يفتح باباً على القراءة الرمزية لرواية «هروب نحو القمّة».

الهروب كجغرافيا الخلاص:

الرواية، في ظاهرها، هي سيرة رحلة نحو النجاة من الموت، هروب جماعي عبر الجبال طلباً للأمان. هنا القمّة مقصد مكاني، خطّ نهاية مؤقّت يضمن استمرار البقاء.

الهروب كصعود داخلي:

لكن النصّ، إذا قُرِأ بعمق، يكشف أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد. كلّ مواجهة مع الموت تُعيد تعريف معنى الحياة، وكلّ ذكرى من السقوط أو الفقدان تُصبح لحظة استبطان، كأن الطريق إلى القمّة هو في جوهره طريق إلى الداخل. القمّة إذن ليست فقط ارتفاعاً جغرافياً، بل قمّة داخلية، لحظة اكتشاف الإنسان لذاته حين يُعرّيها الخوف والجوع والبرد، وحين يُدرك أنه يستطيع أن ينجو لا بالهروب فقط، بل بتحويل المأساة إلى وعي.

المعنى الرمزي:

في هذا الأفق، يتحوّل «هروب نحو القمّة» إلى استعارة مزدوجة:

من الخارج: رحلة للنجاة من الرصاص.

ومن الداخل: صعود بطيء نحو الذات، نحو إدراك أن الإنسان لا يكتشف معنى وجوده إلا حين يوضع على حافة العدم.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الرواية تحمل قراءة مزدوجة: قمة الجبل و قمة الذات، الأولى ملجأ من موت مباشر، والثانية ملجأ من موت أعمق: موت المعنى.

 


«تُقدّم روايتي «هروب نحو القمّة» مشهداً مأسوياً للهروب الجماعي عبر الجبال، لكنها في العمق تفتح باباً أوسع على مأزق الهوية الكوردية المعاصرة. فالأحداث لا تنقل فقط معاناة الجسد تحت الرصاص والمطر والبرد، بل تكشف أيضاً عن معاناة الروح في غياب الدولة والرموز الوطنية، التي تمنح للوجود الجمعي معناه السياسي».

تفتح الرواية أفقاً نقدياً يتجاوز الحكاية المباشرة، لتطرح أسئلة جوهرية حول ماهية الانتماء القومي، وحدود الهُوية الكوردية، وعلاقة الإنسان الكوردي بأرضه وبتاريخه. كما تُبرز التراجيديا المتكرّرة في المسار الكوردي، بوصفها بنية وجودية، وليست مجرّد وقائع سياسية متعاقبة. ومن هنا تنبثق الأسئلة الفلسفية الآتية التي تسعى إلى مقاربة الواقع الكوردي في الرواية من زاوية نقدية وجودية.

– إلى أيّ مدى يعكس الحرمان من الدولة والرموز الوطنية في الرواية مأزق الهُوية الكوردية المعاصرة؟ وهل يمكن اعتبار غياب «الرسمية» عاملاً بنيوياً في تكوين الحسّ القومي؟

غياب الدولة كحضور هوياتي: قراءة في مأزق الهوية الكوردية من خلال «هروب نحو القمة.

تُقدّم روايتي «هروب نحو القمّة» مشهداً مأسوياً للهروب الجماعي عبر الجبال، لكنها في العمق تفتح باباً أوسع على مأزق الهوية الكوردية المعاصرة. فالأحداث لا تنقل فقط معاناة الجسد تحت الرصاص والمطر والبرد، بل تكشف أيضاً عن معاناة الروح في غياب الدولة والرموز الوطنية، التي تمنح للوجود الجمعي معناه السياسي.

غياب الرموز الرسمية في النصّ:

في مسار الرواية، يغيب العَلم، يغيب النشيد، تغيب المؤسّسات، ويبقى الأبطال بلا مظلّة رسمية تحميهم أو تُعطي لرحلتهم معنى وطنياً جامعاً. هذا الغياب ليس تفصيلاً عابراً، بل هو جزء من البنية السردية: الشخصيات تتحرّك في فضاء فارغ من الرموز، لتجد نفسها مضطرّة إلى استدعاء بدائل غير رسمية للهوية.

مأزق الهوية الكوردية المعاصرة:

هذا الغياب الروائي يعكس واقعاً سياسياً وثقافياً أوسع. فالكورد يمتلكون:

لغة حيّة ومتعدّدة اللهجات.

تاريخاً ممتدّاً وذاكرة جمعية مثقلة بالمآسي.

رموزاً ثقافية راسخة: الجبال، الأزياء، الأغاني، وحتى الشهداء...

لكنهم يفتقرون إلى الدولة كرمز مؤسِّس، وإلى «الرسمية» التي تمنح الاعتراف والشرعية للانتماء. وهكذا، تعيش الهوية الكوردية باستمرار في حالة اللا اكتمال. قوّة وجدانية وثقافية من جهة، وهشاشة سياسية من جهة أخرى.

غياب «الرسمية» كعامل بنيوي:

المفارقة أن غياب الرسمية، بدل أن يُضعف الهوية، صار عاملاً بنيوياً في تكوين الحسّ القومي الكوردي، فالحرمان من الدولة جعل الانتماء أكثر التصاقاً بالرموز البديلة. ومع كلّ مأساة، من «الأنفال» إلى «حلبجة»، تحوّل الألم إلى طقس قومي يعزّز الشعور بالمصير المشترك. وبغياب المؤسّسات الرسمية، احتلّتِ الجبال والأغاني والمقابر الجماعية مكان الدولة، لتصبح شواهد قومية بامتياز. بهذا المعنى، أصبح الحرمان نفسه حافزاً لصياغة وعي قومي أقوى، كأن الهوية الكوردية تُعيد تشكيل نفسها كلّ مرّة، انطلاقاً من نقصها لا من اكتمالها.

«هروب نحو القمّة» ليست إذن مجرّد شهادة على مأساة الهروب، بل مرآة لمأزق الهُوية الكوردية في الحاضر: أمّة مكتملة في وجدانها، ناقصة في رمزيتها الرسمية. هذا النقص لم يُلغِ الهوية، بل جعلهــا أكثر حضوراً وإصراراً، وأكسبها قوّة من نوع خاصّ، قوّة تُصاغ من الفراغ، وتبني شرعيتها من مواجهة الغياب ذاته.

 


– كيف توظّف الرواية الحالة الجغرافية (الجبال والحدود) كرمز فلسفي للوجود الكوردي؟ وهل يمكن قراءة هذا التوظيف بوصفه إسقاطاً على علاقة الإنسان الكوردي بالقدر والتاريخ؟

الجغرافيا كقدر: الجبال والحدود في هروب نحو القمّة:

ليستِ الجغرافيا في رواية «هروب نحو القمّة» مجرّد خلفية للأحداث، بل تتحوّل إلى بطل خفيّ يحمل معنى فلسفياً عميقاً. فالجبال والحدود، وهما العنصران الأكثر حضوراً في النصّ، يُستثمران رمزاً لوجود الكورد ومعاناتهم، بحيث يصبح المكان استعارة للقدر والتاريخ معاً.

الجبال: الصديق الذي يَحمي ويُعاقب:

الجبال في الرواية هي الملاذ الأخير للهاربين، تفتح ذراعيها لحمايتهم من بطش السلطة والرصاص. إنها الملجأ الطبيعي الذي يعكس المقولة الشهيرة «ليس للكوردي من صديق سوى الجبال»، من جهة، تبدو الجبال وفية؛ فهي الحصن الوحيد الذي لا يخون، ومن جهة أخرى، هي حصار قاسٍ؛ برد قاتل، طرق وعرة، عزلة تشبه المنفى. بهذا المعنى، الجبال تجسّد مفارقة الوجود الكوردي: ملاذ للنجاة وسجن للحرّية، صديق مخلص، لكنه يذكّر دائماً بأن الكورد بلا وطن معترف به.

الحدود: خطوط تتحوّل إلى جروح:

أما الحدود، فهي ليست خطوطاً على الخريطة، بل جروح عميقة على جسد الأمة. كلّ محاولة لعبورها هي مواجهة مع الموت، كأن الخرائط تحوّلت إلى أدوات قمع بحدّ ذاتها. الحدود تقطع القرى والأهل والذاكرة، وتجعل التمزّق هوية يومية، وكأن الانقسام قدر لا مفرّ منه. في هذا التوظيف، تتحوّل الحدود إلى استعارة عن التاريخ الذي صاغته معاهدات واتفاقيات أجنبية، فرضت على الكورد أن يعيشوا مقسّمين بين أربع دول.

الإسقاط الفلسفي: بين القدر والتاريخ:

من خلال الجبال والحدود، تطرح الرواية رؤية فلسفية لوجود الكورد، فالقدر يتمثّل في الطبيعة: الجبل كحتميّة لا مهرب منها، صديق/سجن في آن.

التاريخ يتمثّل في الحدود كصناعة بشرية تحوّلت إلى قوّة قاهرة لا تقلّ صرامة عن القدر. هكذا ينعكس المأزق الكوردي في صورة مزدوجة، محكومون بجغرافيا قاسية لا يملكونها، وتاريخ جائر صاغه الآخرون لهم.

«هروب نحو القمّة» لا تسرد مأساة الهروب الجماعي فحسب، بل تُعيد تعريف الجغرافيا كقدر وجودي. الجبال والحدود ليست تضاريس أو خرائط، بل رموز فلسفية تلخّص مأزق الهوية الكوردية: العيش بين صداقة قاسية مع الطبيعة وخيانة متكرّرة من التاريخ. وكأن الرواية تسأل القارئ: هل مصير الكورد قدرٌ لا يُقاوم أم تاريخ يمكن إعادة كتابته؟

 


– هل التراجيديا المتكرّرة في التاريخ الكوردي، كما تعكسها الرواية، تعبير عن فشل ذاتي (انقسام داخلي)، أم نتيجة حتمية لبنية النظام الإقليمي والدولي المعادي لقيام دولة كوردية؟

هل مأساة هذا الشعب وليدة الذات أم الآخر؟ وهل التراجيديا التي تتكرّر في مسارهم تعكس عجزاً داخلياً أم إقصاء خارجياً؟

الانقسام الداخلي: الفشل الذاتي:

من منظور أول، يمكن قراءة التراجيديا الكوردية كتعبير عن انقسام داخلي حال دون بلورة مشروع قومي موحّد. تعدّد الأحزاب والولاءات العشائرية والإيديولوجية جعل الصوت الكوردي يتوزّع بدل أن يتجمّع. فكثيراً ما تحوّلتِ الخلافات الداخلية إلى أدوات استغلال من قِبل القوى الإقليمية. ففي الرواية، يتسرّب هذا البُعد عبر صور الشكّ بين الأفراد، وغياب القيادة الجامعة التي تقود نحو «القمّة» بمعناها المزدوج.

إذن، الفشل الذاتي ليس اختراعاً من الخارج فقط، بل عامل أصيل يعيد إنتاج الهشاشة في كلّ تجربة.

النظام الإقليمي والدولي: الحتمية المفروضة:

لكن من منظور ثانٍ، يصعب فصل المأساة الكوردية عن البنية الإقليمية والدولية المعادية.

معاهدة «سايكس بيكو» قسّمت الجغرافيا الكوردية بين أربع دول، لتصبح كلّ محاولة للتمرّد مشروعاً «مجزوءاً» ومعزولاً.

الأنظمة الإقليمية (تركيا، إيران، العراق، سوريا) اتفقت رغم خلافاتها على رفض قيام دولة كوردية، معتبرة ذلك تهديداً لبنيتها.

القوى الكبرى استثمرت القضية الكوردية كورقة ضغط، لكنها نادراً ما تبنّت مشروع الدولة بجدّية.

في الرواية، الحدود ليست جغرافيا طبيعية فقط، بل تمثيل لهذه البنية الدولية التي منعتِ الكورد من استكمال حلمهم.

التراجيديا بين الذاتي والموضوعي:

الحقيقة أن التراجيديا الكوردية تتشكّل من تفاعل البعدين معاً، لو لم يكن هناك انقسام داخلي، لكان الموقف الإقليمي أقلّ فاعلية، ولو لم تكن هناك بنية إقليمية ودولية رافضة، لكان الانقسام الداخلي أيسر تجاوزاً.

الرواية تُلمّح إلى هذا التداخل: الشخصيات تعيش مأساة مفروضة من الخارج، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن خلق إجماع داخلي يواجهها.

التراجيديا الكوردية ليست فشلاً ذاتياً خالصاً، ولا قدراً خارجياً مطلقاً، بل هي مأساة مشتركة: انقسام داخلي يضاعفه نظام إقليمي ودولي معادٍ، فينتج تاريخاً مثقلاً بالتكرار. ولعلّ ما تقترحه الرواية ضمنياً أن الطريق إلى «القمّة» لا يمرّ عبر الهروب وحده، بل عبر مصالحة بين الذات الكوردية وتوحيدها، كي تواجه قدرها التاريخي بعين أخرى.

 

– إلى أيّ حدّ يمكن فهم الهروب الجماعي والذاكرة الجمعية للألم، باعتبارهما بديلاً عن «الهوية السياسية»، أيّ هل يصبح الألم المشترك هو الوطن الوحيد الممكن للكورد؟

الألم كوطن: الذاكرة الجمعية والبديل عن الدولة في الهوية الكوردية:

في غياب الدولة الكوردية، وما تمثّله من رموز سيادية ووطنية، تتجه الرواية الكوردية الحديثة إلى البحث عن بدائل تمنح معنى للانتماء. روايتي «هروب نحو القمّة» مثال بارز على هذا المسعى، إذ تكشف كيف يتحوّل الهروب الجماعي والذاكرة الجمعية للألم إلى ما يشبه «هوية بديلة»، حيث يصبح الألم المشترك هو الوطن الوحيد الممكن للكورد.

الذاكرة الجمعية كدولة رمزية:

الأحداث المأساوية الكبرى – من الأنفال إلى حلبجة، ومن الهجرة المليونية إلى المقابر الجماعية – لم تُسجَّل في الوعي الكوردي كحوادث منفصلة، بل كنسيج واحد من المعاناة. كلّ عائلة تحمل في ذاكرتها شهيداً أو مفقوداً أو لاجئاً. كلّ قرية تملك حكايتها الخاصّة، لكنها متّصلة بالحكايات الأخرى في ما يشبه «النصّ الجماعي للألم».

بهذا الشكل، تحوّلتِ الذاكرة الجمعية إلى بديل عن الدولة الغائبة، دولة رمزية قائمة على الحزن المشترك، أكثر رسوخاً من أيّ كيان سياسي عابر.

الألم كوطن مشترك:

في «هروب نحو القمّة»، لا يظهر الوطن كخريطة أو عَلم أو مؤسّسة، بل كألم يجمع الجميع. الهروب الجماعي لم يكن انتقالاً جغرافياً فحسب، بل فعلاً جامعاً صاغ هوية قائمة على الاشتراك في المعاناة، والحدود السياسية الفاصلة بين أجزاء كوردستان لم تنجح في تقسيم هذه الهوية، لأن ما يوحّدها أقوى: تجربة القهر والنجاة. بهذا المعنى، صار الألم وطناً رمزياً، يجمع الأفراد رغم التشتّت، ويؤكّد لهم أنهم ينتمون إلى مصير واحد، حتى وإن تفرّقت دولهم وأعلامهم.

بين الهوية والأسر:

لكن هذه الهوية المؤسّسة على الألم تحمل مفارقة مزدوجة: فمن جهة، هي قوّة تماسك تمنع الاندثار وتُبقي الكورد حاضرين في التاريخ رغم غياب الدولة، ومن جهة أخرى، هي أسرٌ في الماضي، لأن الهوية تبقى رهينة الذاكرة ولا تتحوّل إلى مشروع سياسي منظّم. فالألم وحده لا يصنع دولة، بل قد يُبقي الأمّة معلّقة في سردية الضحية، بلا أدوات لتجاوزها نحو بناء مؤسّسات وسيادة.

تكشف الرواية أن الألم المشترك هو، حتى الآن، الوطن الوحيد الممكن للكورد، وطن بلا خرائط رسمية، لكنه مطبوع في الذاكرة الجمعية لكلّ فرد. ومع ذلك، يظلّ السؤال معلّقاً: هل يكفي الألم لتأسيس وطن، أم أن التحدّي الأكبر هو تحويل الذاكرة من طاقة للتماسك إلى قوّة سياسية خلاقة تكتب فصلاً جديداً من التاريخ؟

 


– أتنجح الرواية في تجاوز السرد التوثيقي نحو طرح سؤال فلسفي وجودي: هل تُبنى هوية الشعوب بما تمتلكه من مقوّمات الدولة، أم بما تفتقده وتسعى نحوه بلا نهاية؟

من التوثيق إلى الفلسفة:

الرواية تنطلق من سردية الهروب، بما فيه من تفاصيل دقيقة عن المطر، الرصاص، الجوع، والحدود، وهي عناصر توثيقية بامتياز. لكن النصّ لا يتوقّف عند هذا الحدّ، بل يدفع القارئ نحو سؤال أبعد: هل المأساة الكوردية مجرّد حدث يمكن أرشفته، أم أنها مرآة فلسفية لوجود أمّة بأكملها معلّقة بين الحلم والحرمان؟

هذا الانتقال من الواقعة إلى التساؤل هو ما يجعل الرواية نصّاً يتجاوز حدود التوثيق، ليطرح سؤال الهوية والمعنى.

الهوية بين الامتلاك والافتقاد:

الرواية تُلمّح إلى أن هوية الشعوب قد تُبنى على ما تملكه من مؤسّسات ورموز وسيادة، لكن تجربة الكورد تكشف وجهاً آخر: فهم لا يملكون دولة معترفة بها، لكنهم يملكون ذاكرة جمعية من الألم والهروب. لا يملكون عَلماً واحداً يرفرف في كلّ مكان، لكنهم يملكون أغنية مشتركة وجرحاً واحداً يوحّدهم. بهذا المعنى، يصبح الافتقاد نفسه عنصراً بنيوياً للهوية، وكأن غياب الدولة تحوّل إلى ما يحدّد الكينونة الكوردية أكثر مما يحدّدها وجودها المادي.

سؤال وجودي مفتوح، ومن هنا تنجح الرواية في طرح سؤال فلسفي عميق:

هل تُبنى الهوية بما نملكه من رموز ومؤسسات وسيادة، أم بما نفتقده ونظلّ نطارده بلا نهاية، كأننا محكومون بالعيش في ظلّ حلم مؤجَّل؟

هذا السؤال لا يخصّ الكورد وحدهم، بل يلامس كلّ شعب عاش في المنفى أو في حالة حرمان سياسي. إنه سؤال عن معنى الوجود الجمعي: هل الأمّة هي ما هي عليه الآن، أم ما تطمح إليه في الغد؟

«هروب نحو القمّة» تنجح في تجاوز السرد التوثيقي لتفتح أفقاً وجودياً: هوية الشعوب ليست فقط ما تمتلكه من مقوّمات الدولة، بل أيضاً – وربما أساساً – ما تفتقده وتظلّ تسعى وراءه. في هذه الفجوة بين الحاضر الناقص والمستقبل المأمول، يتجسّد المأزق الكوردي كفلسفة وجودية لا كحكاية محلّية.

 


أحمد الزاويتي (1966م) – إعلامي وكاتب كوردي من مدينة دهوك، حاصل على ماجستير في الإعلام من هولندا. عمل مراسلاً لقناة الجزيرة منذ 2003م وغطّى أحداثاً كبرى كاستفتاء جنوب السودان والثورة السورية والانتخابات البرلمانية التركية. يكتب الرواية والمسرح بالعربية والكوردية، وتحوّلت بعض أعماله إلى أفلام ومسرحيات. يشغل حالياً منصب المدير العام لمؤسسة كوردستان 24 الإعلامية.

 

النتاج الروائي:

• “لوحات من معرض (طريق جلى) الجزء الأول” (رواية باللغة الكردية)، 1999م.

• “لواحات من معرض (طريق جلى) الجزء الثاني” (رواية باللغة الكردية)، 2000م.

• “الهروب إلى الحياة”، 2003م.

 

النتاجات الأخرى:

• “التعزية الصامتة” (مسرحية)، 1992م.

• “الكرسي ولعبة الموت” (مسرحية إذاعية عرضت في إذاعة الاتحاد الإسلامي في دهوك)، 1994م.

• “الجوع والكلمة” (مسرحية)، 1995م.

• “من وحي الاشتياق” (كتاب باللغة الكوردية)، 2000م.

• “طفل ينهض أمة” (مسرحية منشورة إلكترونية)، 2002م.

• “قاطع وذلك اضعف الإيمان” (مسرحية كتبت ضمن حملة المقاطعة)، 2002م.

• “مؤمن آل فرعون” (مسرحية )، 2005م.

• “الدولة بين كردستان وجنوب السودان”، 2012م.

• “ملا مصطفى البارزاني قصة ثورة وعلاقة”، 2010م.

• “التقرير الخبري التلفزيوني”، 2016م.

 

إدريس سالم (1986م) – شاعر وكاتب كورديّ سوريّ، مقيم في تركيا. وُلد بقرية «بُورَاز»، التابعة لمدينة «كوباني» الكورديّة السوريّة.

عمل مدرّساً للغة العربيّة، إلى جانب هوايته كمحرّر لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة.

محرّر وعضو في موقع وجريدة «سبا» الثقافيّة.

مدير «مكتبة فيرمين للكتاب» في تركيا.

 

من مؤلّفاته:

1 – «جحيمٌ حيٌّ»:

أول عمل أدبيّ له في الشعر، صدر طبعته الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع (تمّوز 2020م)، والطبعة الثانية عن دار الدراويش للنشر والترجمة (أيلول 2022م)، والطبعة الثالثة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (كانون الثاني 2025م).

 

2 – «مراصدُ الروحِ»:

ثاني عمل أدبيّ له في الشعر، صدر بطبعته الأولى، عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب (أيّار 2025م).

google-playkhamsatmostaqltradent