«الجديد في رواية مازن عرفة، أنها تفتح باباً لم يُفتح في الرواية العربية، وهو باب التفكير في الإنسان كاحتمال، وفي الواقع كظلّ».
حين نتناول رواية، مازن عرفة الجديدة، «نزوة الاحتمالات والظلال»، الصادرة عن «دار الخياط»، قد نظن في
البداية أننا أمام عمل آخر عن الطغيان، على غرار ما اعتادتِ الرواية العربية أن
تنتجه، منذ منتصف القرن العشرين. غير أن القراءة المتأنّية تكشف، أن الرواية لا
تكرر نفسها، بل تنفتح على أفق آخر، هو أفق الاحتمال والظل، أفق الإنسان حين يتحول
إلى كائن مُبرمج في لعبة أكبر منه، وأفق العالم حين يغدو مجرد انعكاسات وصور بلا
أصل. هنا تكمن فرادة الرواية وجِدّتها.
«الرواية تتحول إلى مختبر فلسفي، قبل أن تكون نقداً سياسياً».
السارد يبدأ اعترافه
بجملة تقلب الموازين: «انبثقتُ إلى الحياة في حكاية جديدة… مبرمجاً ببرنامج
محاكاة». هذه العبارة لا تصف ولادة طاغية تقليدي، بل تؤسس لولادة افتراضية، كائن
يظهر فجأة كما يظهر ملفّ في شاشة الكمبيوتر. ليس له ماضٍ، ولا طفولة، ولا نسب.
وجوده مشروط بسطر كود، بخوارزمية كبرى، كأن الواقع نفسه لم يعد أكثر من برنامج
يعيد إنتاج البشر وأقدارهم وفق ما يشاء. هنا يكمن الجديد؛ فالطغيان ليس شخصاً، بل
احتمالًا يتكرر كلما توفرتِ الظروف. وهكذا الرواية تتحول إلى مختبر فلسفي، قبل أن
تكون نقداً سياسياً.
لكن الاحتمال وحده لا
يكفي لتفسير هذا العالم. عرفة يضع أمامنا الوجه الآخر، أي الظلال. نحن لا نعيش
الواقع مباشرة، بل نعيش وسط الصور والرموز والتماثيل، التي تتكاثر إلى درجة تفوق
البشر. يقول السارد: «آلهة لليوم الواحد… للفعل الواحد… للصمت، والصدى، والظلال،
والألوان… حتى كاد يغلب عددها البشر». هذه الجملة، التي قد تبدو ساخرة للوهلة
الأولى، تفضح جوهر عصرنا، ففي كل يوم ننتج آلهة جديدة، لا بالضرورة طغاة سياسيين،
بل آلهة الاستهلاك، آلهة الشهرة، آلهة المنصات الافتراضية. إننا نعيش في عالم من
الظلال، حيث الأصل غائب والانعكاسات وحدها حاضرة. الرواية بهذا المعنى ليست عن
الحاكم وحده، بل عن حياتنا المعاصرة، حين تتحول إلى سلسلة من الرموز الفارغة.
في لحظة مفصلية من
الرواية، يصرخ السارد: «ما هذا الإله الفارغ، إلا من الخواء؟ كأنني تحولتُ إلى أحد
تماثيلي المنتصبة في الساحات». هذه العبارة تختصر مغزى الرواية كلها. فالإله
الفارغ ليس صورة الحاكم فقط، بل صورة الإنسان المعاصر، الذي يغرق في رموز بلا
جوهر. نحن أيضاً نصنع لأنفسنا تماثيل يومية، على الشاشات، في الإعلام، في صورنا
المصقولة، التي نعرضها للآخرين. نعيش بين التمجيد والفراغ، بين الانتفاخ الرمزي
والعدم الداخلي. إن عرفة يمدّ سؤال الطغيان ليشمل وجودنا الشخصي بمعنى، هل نحن
أيضاً طغاة صغار على أنفسنا، نصنع أصناماً نعبدها، ثم نكتشف خواءها؟
«الخبز هو ملك لشرفاء الوطن فقط…». مازن عرفة
لغة الرواية تكشف عن
هذا التوتر بين الامتلاء والفراغ. الجمل تأتي متخمة بالصور الحسية عبر القصور
المذهبة، الأريكة – العرش، المغاطس الممتلئة بالشراب المميز، لكن كل هذا البذخ
ينتهي إلى العدم، ضجر، ملل، إحساس خانق بالفراغ. المفارقة أن النص الروائي يوظف
التضخم اللغوي؛ ليكشف خواء المعنى، كأن البلاغة نفسها تتحول إلى تمثال أجوف. إنها
لعبة ذكية، فالنص الروائي يتورط في إنتاج الظلال ليكشف عبثها في النهاية.
الرواية أيضاً تقدّم
جديداً على مستوى الحواس. فالقمع لا يمارس عبر السجون والرصاص فقط، بل عبر الشمّ
والجوع. مشهد النساء اللواتي يقفن أمام الأفران بانتظار الخبز قبل أن يقتلهن
القنّاصون يلخّص هذا البعد: «الخبز هو ملك لشرفاء الوطن فقط…». هنا يتحول الخبز من
حاجة بيولوجية إلى أداة سياسية، ويتحول الشمّ إلى سياسة سيطرة. الشعب يشمّ الخبز
لكنه لا يناله. الرائحة تصبح وعداً مؤجلاً، أداة إذلال أشد قسوة من الرصاص. بهذا،
تكشف الرواية بعداً جديداً قلّما تناولته الكتابة العربية، سياسة الحواس، حيث
تتحول الرائحة والذوق إلى أدوات حكم.
«الطغيان نزوة احتمالات وظلال، تتكرر في كل عصر. الطغيان في جوهره نزوة عابرة».
لكن ربما أخطر ما
تكشفه الرواية، هو أن الطغيان ليس حادثة تاريخية نادرة، بل نزوة احتمالات وظلال،
تتكرر في كل عصر. الطاغية يسقط في النهاية، لكنه يسقط ليترك وراءه فراغاً يُملأ
بآخر. يقول السارد في لحظة مواجهة مع ذاته: «أنا... العظيم... لكنني مع كل هذه
العظمة أشعر بالضجر والسأم والملل». هذا الاعتراف ليس سقوطاً سياسياً فقط، بل سقوط
وجودي. الطغيان في جوهره نزوة عابرة، ظلّ يمرّ، لكن الكارثة أن الناس أنفسهم
يعيدون إنتاجه؛ لأنهم يجدون في الأصنام عزاءً وفي الأوهام ملاذاً.
وهنا يتجلى الاكتشاف الكبير
الذي تقدمه الرواية. إذ ليستِ المشكلة في الحاكم وحده، بل في القابلية الجماعية
لصناعة الأصنام. من اللات والعزى إلى التماثيل البرونزية الحديثة بمعنى التقديس،
من الزعيم القائد إلى نجم الشاشة، تظل الآلية واحدة وهي أن البشر يحتاجون إلى إله
يصنعونه، حتى وإن كان فارغاً، ليملأوا خواءهم الداخلي.
«الجديد في رواية مازن عرفة، أنها تفتح باباً لم يُفتح في الرواية العربية، وهو باب التفكير في الإنسان كاحتمال، وفي الواقع كظلّ».
بهذا المعنى، «نزوة
الاحتمالات والظلال» لا تضيف رواية جديدة عن الجنرالات، بل تكتب بياناً أدبياً عن
الإنسان في زمن الظلال. إنها تضع القارئ أمام نفسه، وتطرح العديد من التساؤلات، هل
نعيش حيواتنا حقاً، أم نعيش احتمالات يكتبها برنامج خفي؟ هل نمتلك جوهراً صلباً،
أم نحن مجرد تماثيل في ساحات واسعة؟ هل نعيش الضوء، أم نكتفي بالظلال؟
الجديد في رواية مازن
عرفة، أنها تفتح باباً لم يُفتح في الرواية العربية، وهو باب التفكير في الإنسان
كاحتمال، وفي الواقع كظلّ. لم تعدِ الرواية مجرد نقد سياسي، بل تحولت إلى مختبر
فلسفي وجمالي، يعيد طرح السؤال القديم بعبارة جديدة: مَن نحن؟ بشر أحرار، أم
كائنات افتراضية عالقة بين نزوة وظل؟
رواية مازن عرفة هذه
تليق بمرحلة ما بعد الإيديولوجيات، حيث لم يعد يكفي أن نقول إن الحاكم مستبد.
الجديد هو أن نكتشف أن الاستبداد يسكن داخلنا أيضاً، وأننا نصنع ظلالنا بأيدينا ثم
نُفتَن بها. ولهذا بالذات تستحق «نزوة الاحتمالات والظلال» أن تُقرأ لا كرواية
سياسية فحسب، بل كنص وجودي يضع الرواية العربية أمام تحدٍّ غير مسبوق، أن تكتب عن
الإنسان في زمن الاحتمالات والظلال، فهل يكتب مازن عرفة الطغيان كـ «كود احتمالي»،
لا كظاهرة سياسية فقط؟ وهل سنشهد ظلال كتابة المانغا عربية؟