هناك روايات لا تقرأ
بصفحاتها، بل تعاش بمناخها، وكأنها مدن سرية من الورق والظل، ومنها رواية «أنثى السراب» للكاتب واسيني الأعرج، التي تفتح أبوابها على فضاء من الضباب والبوح
والفتنة؛ لتقود القارئ إلى قلب حكاية تنبض بالشهوة والذاكرة والخذلان، هي ليست
مجرد قصة حب بل متاهة تشبه سراباً كلما اقتربنا منه ازداد ابتعاداً، وكلما حاولنا
القبض عليه تبعثر كالماء في اليد.
«الحب لا يطرق الباب، بل يقتحمه، تاركاً وراءه جدراناً متصدعة لا يصلحها الزمن». (ميران أحمد من وحي القراءة).
في قلب النص يقف سينو
الكاتب الممزق بين الكلمات ورغباته، وبين ذاكرة تلاحقه كطيف لا يموت، وامرأة تحول
وجوده إلى جرح دائم، إلى جانبه ليلى عازفة الكمان، التي لا تدخل إلى الرواية
كشخصية عادية، بل ككائن أسطوري يجر وراءه موسيقى من لحم ودم، حضورها لا يفسر
بالكلمات بل يعاش كفتنة كل تفصيلة فيها من أصابعها على الأوتار إلى ارتعاشة شفتيها،
تتحول إلى لغة أخرى، لغة لا تترجم بل تستسلم لها.
العلاقة بينهما ليست
حباً يسير على الأرض بل برقاً يضيء ثم يترك خلفه حريقاً لا يطفأ هما عاشقان يعرفان
أن قدرهما محكوم بالفقد ومع ذلك يتقدمان نحوه كما لو كان الخلاص الوحيد الممكن.
في هذه الرواية الجسد
ليس ظلاً للحب، بل النص ذاته، القبلة ليست فعلاً عابراً، بل كتابة من نار على جسد
مرتجف، العناق ليس دفئاً عاطفياً، بل احتجاج ضد برودة العالم. كل مشهد بين ليلى
وسينو يثبت أن الجسد قادر على أن يقول ما تعجز اللغة عنه، هو دفتر سري تكتب عليه
رغبات الإنسان وندوب روحه، وهو الباب الوحيد الذي ينفتح حين تغلق جميع الأبواب
الأخرى.
«كل قبلة كانت طريقاً إلى ذاكرة جديدة وكل عناق كان نافذة تطل على سراب آخر». (ميران أحمد من وحي القراءة)
ومع ذلك فإن الكاتب لا
يقع في المباشرة، هو يلمح أكثر مما يصرح ويترك المسافة بين الحلم والواقع مشوشة،
وكأن الجسد نفسه يتحول إلى استعارة عن الحرية والفقد في آن.
زمن الرواية ليس خطاً
مستقيماً، هو أشبه بمرآة تتكسر وتعيد ترتيب نفسها في كل صفحة، الماضي يطل فجأة مثل
شبح، والحاضر يبدو مجرد ظل له، والسراب يتسلل بينهما ليجعل القارئ يتساءل هل ما
يحدث حقيقة أم وهم صنعته ذاكرة عاشق مأزوم. هذا التداخل الزمني يجعل الرواية تجربة
قراءة مقلقة، نحن لا نتتبع أحداثاً بقدر ما نغرق في مناخ لا نبحث عن بداية أو
نهاية، بل نسمح لأنفسنا بالتيه داخل ممرات الحكاية، حيث كل منعطف يكشف وجهاً جديداً
للمأساة.
القوة الكبرى في النص
تكمن في اللغة، فالكاتب يكتب كما لو أنه يرسم لوحات من ضوء وظل؛ الجمل طويلة
متدفقة، لكنها تحمل القارئ معها كما تحمل الريح ورقة في ممر ضيق، الصور البلاغية
تتكاثر، الجسد يتحول إلى قصيدة، النظرة إلى جرح، والموسيقى إلى جسر بين الحياة
والموت. كل صفحة تبدو مثل غرفة مظلمة أضيئت بشمعة وحيدة يكفي أن تقترب منها،
لتكتشف عالماً كاملاً يختبئ وراء الكلمات.
«العطر وحده ينجو من الموت يظل يطارد المكان حتى بعد رحيل الجسد». (ميران أحمد من وحي القراءة)
الموسيقى في هذه
الرواية ليست خلفية عابرة بل بنية داخلية تقود السرد، الكمان الذي تعزفه ليلى
يتكرر كرمز يربط بين النشوة والانكسار، بين لحظة الارتعاش ولحظة الموت، كل لحن هو
درج إلى الأعلى وكل درج ينتهي بهاوية. إنها موسيقى تصنع قدر الشخصيات وتفتح أمام
القارئ جسراً إلى عالم من الظلال والافتتان.
واسيني الأعرج ليس
غريباً عن كتابة الحب الممزوج بالفقد، فهو دائماً يعود إلى الذاكرة كمنجم لا ينضب
وإلى الجسد كمرآة للحرية، في «أنثى السراب» يتواصل هذا الهاجس حيث يتحول النص إلى
سيرة مموهة واعتراف يختبئ في ثنايا الرواية، يتنقل بين الخاص والعام بين البوح
والرمز
الحكاية لا تنتهي كما
نريد، بل كما يجب أن تنتهي الحكايات الكبيرة بالموت، لكن الموت هنا ليس إغلاقاً
للنص، هو فتح له على اتساع آخر، ليلى التي كانت منذ البداية سراباً يفتن ولا يمسك
تنسحب في النهاية تاركة سينو ومعه القارئ أمام فراغ أكبر من كل الامتلاءات السابقة.
في لحظة الوداع يتضح أن الحب لم يكن سوى تجربة عبور، ناراً مرت بالجسد والذاكرة
وأبقت رماداً لن يزول الموت ليس نهاية الحكاية بل الدليل الأخير على أنها كانت
حقيقية.
«أنثى السراب» نص يرفض
أن يكون قصة عادية، هو تجربة وجودية تضع القارئ أمام أسئلة لا إجابات لها، أين
ينتهي الحب؟ وأين يبدأ الوهم؟ هل الجسد خلاص أم لعنة؟ هل الذاكرة تحفظنا أم تدمرنا؟
إنها رواية لا تقرأ بحثاً عن حبكة بل تقرأ كما يصغى إلى موسيقى غامضة لا نفهمها
تماماً، لكننا نرتجف تحت وطأتها.
«في النهاية يبقى السراب سراباً يلمع في الطريق، نعرف أننا لن نبلغه، ومع ذلك نواصل السير نحوه، لأن جماله أكبر من قدرتنا على النسيان». (ميران أحمد من وحي القراءة).
بهذا المعنى لا تعود «أنثى
السراب» مجرد رواية، نص يجرب أن يضع القارئ في مواجهة أسئلته الخاصة، من يقرأها
سيجد نفسه متورطاً في لعبة مرايا يرى وجهه في سينو، ويسمع أنفاسه في ليلى، ويكتشف
أن السراب مهما كان بعيداً هو الحقيقة الوحيدة التي تستحق الركض خلفها.
.jpg)