هناك كتب تُفتح بحذر ورهبة، كما النوافذ في بيت قديم، يغمرها الغبار؛ تُفتح بإحساس، أن ما ستكشفه خلف الزجاج لن يكون مألوفاً. هكذا ديوان «مراصد الروح» للشاعر الكوردي إدريس سالم، فهو ليس كتاب شعر بالمعنى التقليدي، بل متاهة ملغّزة من ظلال الأرواح المتجوّلة في الحنين. متاهة تُدخلك إلى عالم تتقاطع فيه الأصوات؛ الأمّ، وهي تخبّئ خوفها في المطبخ، الأب، وهو يواجه التاريخ في صمته، المدن الممزّقة، تمشي على عكازات من دم وذاكرة.
منذ الصفحة الأولى،
يُلقي بنا الشاعر في مواجهة تساؤل وجودي «أأنا إنسان؟!». لا ينطلق من فراغ، بل من
ذاكرة معجونة بالمنفى وآلامه، بالتاريخ المتجذّر في الأرواح. القصائد ليست نصوصاً
مكتوبة بالحبر، هي قصائد محفورة على جدار عتيق، تتهشّم فيه الألوان دماً أعمى، وصرخات
لا تذوب أصداؤها.
الأم نافذة الوطن
المضيئة:
الأمّ في «مراصد
الروح» ليست شخصية عابرة، الأم مركز الجاذبية الروحية، حيث يكتب سالم:
«تمشي أمّي ومنفضتُها
وبها مئاتٌ من
الأحلامِ المطرّزةِ
من حزنِ سُنبلةٍ
ماتَتْ على ظمأ
يتقطّرُ منها الخوفُ
بكلِّ أشكالِه
القلقُ بكلِّ أعراضِه
الحيرةُ الرطبةُ
ودهشتُها
الغريبةُ من أنها تمشي...».
هذه ليست صورة لامرأة
عادية، بل لبلاد تنهض كلّ صباح، تهجس بالخوف والقلق، لكنها تواصل السير. الأمّ هي
رمز للحياة الهشّة التي تستمرّ، على الرغم من الخراب الذي يحاصر الحياة. هي الصمت
الحارس، الذي يحمي البيت من الانهيار، الجدار الأخير، الذي يتم الاستناد إليه حذر
السقوط.
لعل أجمل ما في حضور الأمّ أنها ليست صاخبة، هي إنسانة تحرس بصمتها أسفار الأحلام، بسفرها الخاص. حضورها يُذكّر بأن البلاد تبدأ دائماً من بيت صغير، يحمي الذكريات ويُشعل الحنين، من مطبخ مليء برائحة الخبز، والقلق من غد دونه.
الأب شاهد التاريخ
المنكسر:
الأب هو الأقرب إلى
تمثال متآكل بفعل الزمن، لكنه ما يزال يقف صامداً. فيكتب الشاعر هنا:
«كانَت
تجاعيدُه تمشي على وجهي…».
هنا نقرأ جملة قصيرة،
لكنها تكفي لتحويل الأب إلى مرآة جيل كامل، انحفرتِ التجاعيد فيه، فلم تعد تخصّه
وحده، بل صارت تفاصيل من ملامح الأبناء، من تلافيف ذاكرتهم، تنتقل كالندبة عبر
الأجيال.
الأب ليس بطلاً
أسطورياً، بل إنساناً عادياً، يحتمل عذابات التاريخ، فيرتسم جسده خريطة هزائم. على
الرغم من ذلك، يقف شامخاً في صمته، كأنه يحرس شيئاً أكبر من نفسه، يحرس الحلم
المؤجّل، لكنه القادم ذات زمن.
المدن جثث تمشي في
الذاكرة:
لا يكتب إدريس سالم عن
المدن كخرائط، بل كأجساد حيّة؛ فكوباني، عفرين، دمشق، وبيروت… جميعها تحضر في
النصوص أشباحاً مثقلة بالدم.
«أنا وحيد…
في عفرين، في كركوك، في بيروت، في دمشق…».
لا تعني الوحدة غياب البشر، بل افتقاد الوطن؛ تتحوّل المدن إلى زنزانات واسعة، كلّ شارع فيها جدار، كلّ بيت مقبرة. لا تعيش هذه المدن الحياة، إنما تنزف الآلام. تشبه كلّ واحدة منها طفلاً، تُرك وحيداً في العاصفة، يحاول أن يتذكّر اسمه، بينما الريح تقتلع الأبواب.
الدم ذاكرة عمياء:
من بين كلّ الصور التي
تتكرّر في «مراصد الروح»، الصادرة عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب يظلّ
الدم الأكثر حضوراً.
«الدمُ أعمى»، يقول
الشاعر، لكن تبدو العبارة بسيطة، لكنها تخفي طبقات من المعاني؛ الدم الذي يسيل، دون
رؤية أين يمضي. هو التاريخ الذي لا يرى الضحايا، فيما تغرق الذاكرة نفسها في
العماء، كي تتلمّس وهم النجاة. الدم ليس نهاية، بل بداية كلّ سفر في القصيدة، هو
الحبر الذي خُطت به الكلمات، ورائحة الذاكرة التي لا تغادر الصفحات.
الموت الذي لا ينتهي:
من أكثر المقاطع قوّة
في الديوان تلك الجملة التي تتكرّر كجرس في معبد:
«نموتُ كلّ يومٍ، ولا نموت…». إنها وصف دقيق لحياة معلّقة بين الموت في المكان والذاكرة التي تتخطّاه يموت الناس في السجون، في الشوارع، في المنافي، لكن الذاكرة لا تموت. تتحدّى الموت، فتتوالد من جديد، تغدو كلّ ذاكرة قصيدة تتحدّى الفناء والعدم. الموت ليس غياباً، بل حضور مهدّد، يريد اقتلاع الحياة نفسها من الجذور.
الشعر كتنفّس أخير:
في نهاية هذه القراءة
الانطباعية، يتساءل الشاعر الكوردي السوري إدريس سالم:
«لِم الكتابةُ تُريّحُ الأرواحَ المُتعبةَ؟
لِم الكتابةُ تُخرِجُ الأرواحَ من قوقعاتِها؟
لِم الكتابةُ تُشعرُني
بأنني إنسانٌ؟».
تبدو الكتابة هنا ليست
ترفاً، ولا هواية، هي الأداة ـ الذاكرة في وجه الفناء، النافذة التي تسمح للروح
بالتنفّس. كلّ قصيدة هي محاولة لإنقاذ الذات من الغرق، كلّ كلمة صرخة ضد النسيان.
مراصد للروح والذاكرة:
«مراصد الروح» ليس
ديواناً يُقرأ مرّة، وُينسى، إنه سفر في الذاكرة، في الحنين، عبر الكلمات. يرافق
الإنسان جرحاً في راحة اليد، كلّما حاول الإمساك بشي، تستيقظ الأوجاع من جديد. إنه
أشبه بمتاهة سرّية للأرواح الضائعة، كي تجد درب الخلاص؛ كلّ قصيدة فيها سفر، وكلّ
سفر يذكّرنا بقبر، لكنه يعيش فيه حكاية، تستذكر الحياة.
إدريس سالم لا يكتب
الشعر ليزيّن اللغة، بل لينقذ الأرواح من النسيان، من الصمت، من موت دون شاهد، دون
حكاية.
عندما تطوى الصفحة
الأخيرة من السفر، ندرك أن «مراصد الروح» ليس مجرّد كلمات عابرة، إنه مرصد داخلنا،
يبقى يذكّرنا، إذا ما حاولنا النسيان.