بقلم : سربند حبيب
الفنان التشكيلي والروائي المبدع ( أيمن ناصر ) يطرح روايته الثانية " روجين " شمس الحياة، بطبعته الخاصة في بلاد اللجوء بعد خضوعها لولادة قيصرية لقسوة الظروف والمعاناة
بلغة جميلة يسرد لنا الكاتب حياة رجل يعيش في صراع مع ذاته، رواية واقعية اجتماعية يعيش فيها بطل الرواية مع أشخاصها بواقعية ممزوجة بخياله المزركش بهالات رومانسية ، يبحث فيها بطل الرواية " متعب " عن سعادته المفقودة من خلال بحثه عن بطلٍ لمخطوط روايته المقررة كتابتها .
(جلست وراء مكتبتي أقلّب جمر الأفكار مزحوماً بأوراق مخطوط رواية بدأتها قبل عامين )
أبرز سمات الرواية هو ذاك الصراع النفسي الداخلي الذي يعيشه " متعب " في حرب سيكولوجي بين أناه السوسيولوجي الذي يكرهه بشدّة ويمقته وبين هواه الفطري الذي يعشقه سراً .
عنوان الرواية مستوحىً من اسم عشيقة البطل " روجين " تلك الفتاة التي عشقها قبل خمسةٍ وعشرين عاماً ، وهو الآن يبحث عنها في جيوب الذاكرة وبين السطور ، ويبقى السؤال محيّراً في ذهن القارئ هل روجين حقيقية أم هي من وحي خياله ؟.
(رحت أشعل نار ذاكرتي المتهالكة تحت أسوار هذا العذاب العذب ، مرّ عامان ومازلت أكتب ،وأنا أستعيد تلك اللحظات النائية من الإلهام قصة ماثلة في جيب ذاكرتي يمكن سكبها بيسر وسهولة )
بمقدمة جميلة ينبش الكاتب في ذاكرة البطل وينقب بأزميله عن ذاك الحب العذري الذي نما بين متعب وروجين تلك الفتاة الإيزيدية والمختلفة عنه دينياً
(حبّك جديد ولأني أحبك عاد الجنون يسكنني والفرح يشتعل في قارّات روحي وعيناك تخالس صمتي ، حين أحببتك خرجت كل الأديان من قلبي وبقي الله )
الرواية مؤلّفة من أربعة فصول غير مفصولة في مضمونها، فعندما تنتقل من فصلٍ لآخر لا تشعر أبداً بذاك الانتقال كأنك تقرأ فصلاً واحداً بالرغم من اختلاف الزمان والمكان، وتعدّد البيئات فالكاتب يترك للقارئ مساحات من التفكير ، فعندما تلامس عذوبة خيال البطل تعيش تفاصيلها وكأنها واقعية ولكن فجأة تصطدم بحلمِهِ
(في لحظة مليئة بالعذوبة استعدت صهوة روحي ، وبلهفة عاشق عدت إلى الماضي ليس هرباً من الحاضر بل لأجعل الحاضر أكثر وضوحاً )
يتحدّث الكاتب عن طقوس غريبة للديانة الإيزيدية ويدخل في تفاصيل تلك العقيدة من خلال تلك الحوارات التي تحدث بين متعب ووالد روجين .
( في عقيدتنا تنزل روح الزاني إلى خنزير ، والكاذب إلى جحش حمّال، والظالم إلى كلب دنيء ، هكذا مكتوب في كتابنا المقدّس . إياك أن تسبّ الشيطان أو تستعيذ منه أمام الغرباء أو أن تبصق على الأرض بحضور أناس لا تعرفهم جيداً ربما كان أحدهم يزيدياً.)
يوظّف الكاتب الشعر ويُغني الرواية باقتباسات بعض الشعراء بإتقان فعندما يتذكر البطل عشيقته " روجين " وهي تضع بعض من قُصاصات الشعر في جيبه منقولة من تلك الكتب التي أهداها إيّاها :
إنك من الزرنيخ ياسيدي !
أفتح فمي كل صباح وأبتلع جزءاً منك .
ولم تنتهِ...
قلت سيأتي يوماً أتوحّش فيه
وأفترسك ثم أستريح !
الرواية جريئة تتحرّر من جميع العقد والقيود الاجتماعية ،فالكاتب بجرأة قلمه يصور لنا مشاهدة رومانسية تحدث بين متعب وروجين في لقاء ناري بغياب العقل وبحضور الحب ( استيقظ شيطان الشهوة بداخلي ، خشيت أن أهِن في مقاومتها وأتورط . أمسكت يديها .قاومتها . هه ، لعلي كنت أقاوم نفسي الأمارة بالسوء أكثر مما كنت أقاومها " روجين ، إن مانقوم به حماقة . بل خطيئة ! " قالت : " ماأبشعك حين تفكر بعقلك . نعم خطيئة . خطيئة ورثناها عن أبينا آدم وأمنا حواء . أعرف أنها خطيئة خلقنا لارتكابها أصلاً. أين الخطأ في ذلك ؟!"
وكذلك مع " دينا" الموظفة في الجريدة تلك المرأة التي تبحث عن فحولة رجل بعد يأسها من زوجها العقيم، وتختار رئيس تحرير الجريدة بطل الرواية " متعب " المصلوب جسدياً والمرهف داخليا يكبل عقله قواميس النقد ، لا يقاوم بياض جسدها يحتار بين جمرة الخيانة ورماد الشهوة ولكن اهتياجها الآسر وشهوتها المتقدة تنشب معركة آدمية بينهما ذات لقاء.
( جسدها كان مدركاً لقوة اهتياجه أيضاً فانحنت فوقه على الأريكة شعر بدفء يدها المتسللة تحت جلابيته وسمع شهيقها حين لامست عريه: هاقد جاءت لحظات الجنون . فلأفعل ما أفعل دون إحساس بالإثم )
تطغى على الرواية الكثير من الحوارات الفكرية والأدبية وخاصة ذاك الحوار الذي يدور بين متعب وحاتم الرسام الآشوري الذي يلتقي به صدفة في الحافلة أثناء سفره إلى اللاذقية لحضور ملتقى المتوسط للرواية ، الشاب الذي قذفته الحرب من مدينته الموصل بعد موت جميع أفراد عائلته وعاش يتيماً في سوريا منذ طفولته.
(كما ترى أنا بساق معطوبة ، وعمر قارب الثامنة وعشرين أفنيت سنوات طويلة منه في التشرد والضياع على رصيف الغربة ، عملت في العتالة ومسح الأحذية والسمسرة وحارساً في متحف بغداد ،أقرض الشعر أحياناً بالألم ذاته الذي قرضتني به الحياة )
تكمن جمالية الرواية في البلاغة اللغوية، لغة الكاتب أشبه بالشعر فعندما يسرد أحداث الرواية تشعر وكأنك تقرأ كتاباً للشعر وخاصة حديث حاتم عندما يتحدث عن المدن وقساوتها .
(كثيرة هي المدن التي تهجر أبناؤها وراء الشمس بكل إبداعهم وتميزهم وهي على كل حال ضريبة العيش في مدن لايجد المرء فيها صدراً حنوناً أو ظلاً يلتجئ إليه من هاجرة الظلم والقهر . بعض المدن مقبرة عظيمة لا حصاد فيها الا الزبد وقبض الريح دائماً هناك ضريبة الحب المدن وغالباً ما تكون قاتلة )
قوة الرواية تكمن في عنصر المفاجأة فعندما تقرأ جميع الأحداث وتصل إلى النهاية تصطدم بقفلتها الفجائية فعندما لامس ناظم كتف متعب قائلاً :
دكتور الحافلة ستمشي
ألا ترني أني أتحدث مع روجين
روجين ؟! ... من روجين !... أين هي.. ؟؟ لا أرى أحداً ؟!
صعق متعب غير مصدق وقد تنبه لعدم وجودها .
هنا يترك الكاتب للقارئ مساحات من التفكير والتأمل ويسأله هل سيعود متعب إلى أناه السوسيولوجي أم يبقى مع هواه الفطري الذي لطالما بحث عنه ورغب في البقاء معه وخاصة عندما يلقي بهاتفه لأقرب حاوية ويقول : وداعاً صهوة عفن امتطيها نصف قرن ، وداعاً ذاكرة خوف وألم لازمتني طوال حياتي .
تنتهي الرواية بموت شخصية البطل المزيفة وتظهر شخصيته الحقيقية عندما يعبر ذاك الحد الفاصل بين سلامة العقل والجنون ويقول : هي لحظة واحدة من النور الحقيقي تؤمن بها وقد جاءت . شعور بديع أن تكون ملهماً أن تشعر بتحليق واعٍ يتجلى بعيداً عن الوظيفة . يا إلهي أشعر أني إنسان جديد بتاريخ جديد، وبذاكرة جديدة .
ويتجدد الأمل في نفس " متعب " ويتحدى القدر ويقول في نفسه : جميلٌ أن أفقد روجين ثانية . هذا يعني أن أعثر عليها من جديد. وأظنها تنتظرني في مكان ما .
تنويه : الفنان أيمن ناصر من مواليد الرقة عام 1958 عضو مؤسس لتجمع فناني الرقة، فنان ونحات، وهو متفرغ حالياً لتنشيط العمل الفني والأدبي في بلاد اللجوء، ويعمل رئيساً لملتقى الأدباء والكتاب السوريين في ولاية شانلي أورفا التركية. وقد صدر روايته الأولى " اللحاف " عن اتحاد الكتاب العرب عام 2008.