-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رواية «كوباني الفاجعة والربع» لجان دوست: صندوق أسرار




أحمد حجي / خاص سبا


يفتح جان دوست صندوق أسراره المزرد بصفيح الفقدان وأزرار معدنية على شكل نقوش من حزن في روايته «کوباني»، لينقلنا إلى عالمه الخاص، إلى فلسفته الذاتية في الكتابة، وحمله الذي يئن قلبه تحت وطأته بصمت، ليضعه على أوراق روايته.

يتلاعب بالوقت يوقفه تارة ويحرّكه في سكونه تارة أخرى، كما لو أنه ريح يحرّك غيوم شتاء ثقيلة. يمزج الواقع بالخيال حتى نكاد لا نميّز بينهما، يعرّفنا بالحبّ من فلسفته أو بالأحرى جوانب الحبّ الكثيرة. يمزج الحبّ بالحرب، والرقص بالموت وكأن في يده خلاط المشاعر!

ينقلنا للريف حتى نكاد نسمع من وقع كلماته لحن الريح الريفي، قوقأة الدجاجات وثغاء الخراف وأيضاً لغط الأطفال، يلبس عباءة الغربة من تطريز "حمزراڤ"، الذي نزح من شمال كوردستان بعد فشل الثورة الكوردية، ومحاولاته الكثيرة للعودة إلى أرضه الواقعة في ذكرياته.

يوقفنا جان مع "حمزراڤ" على السكّة الحديدية الفاصلة بين ذكريات أليمة وأيام رحلت وأخرى قادمة أكثر منها ألماً، يمتحن صبرنا به، ويضمد جرح الغربة بالحرية «موطنك هو حيث تعيش حرّاً»، ثم يدعوك للتساؤل "إن ضمدنا جراحنا الذاتية فكيف نزيل بصمة التاريخ ولقبه علينا ونقشر لعنته الأعظم (لقب المهاجر)؟ إن خلعنا هذا الجرح هل سيخلعه عنا من حولنا في بيئة قوامها العشيرة؟ ويجيبك بنفسه: "كلا".

مهما اغترب الإنسان يبقى متعلقاً بأرضه، يعاود خلق الحزن في النفس كلما لمحت الذكرى تشبيهاً، جان وحمزراڤ الشخصية في الرواية، وجهان لحزن ومأساة واحدة، فما أن يعود الاثنان إلى أرضهما التي يعرفانها حتى تكون الأرض قد نستهما، زهايمر يصيب الأوطان ما أن نرحل عنها.
يقف جان على أطلال مدينته التي غاب عنها سنوات طويلة، كأب واقف أمام مدخل غرفة العمليات منتظراً ابنه، خرجت الجثة وبقي الأطباء، ولا يزال الأب ينتظر خروج طبيب يخبره أن ابنه لم يمت بعد.
تستبد به رغبة عارمة في أن يطرق كل أبواب مدينته المنكوبة ثم يتساءل في نفسه هل بقيت أبواب ليطرقها؟ إذ يأخذنا بخطوات حذرة وعلى جناح زمن متوقف إلى باب مسجد جده وسط مدينة لم ينجُ الموتى في رقادهم الأبدي من الموت. هو يخشى في مشيته من الألغام وأنت تخشى عليه من أن يصيبه مكروه، فلا تُكمل الرواية، وتنسى أنه قد دونها سابقاً.
يطوف بنا في المسجد، ننظر معه إلى المحراب إلى الجدران المعلقة بآيات الله، نسمع معه عبر الميكروفون خطبة يوم الجمعة في المسجد وباللغة العربية فقط، وهمساً تكاد تسمعه بالكوردية تلك الخطبة ذاتها، ذات يوم جمعة عادي.

إن الشدّ والرصّ يؤديان للانفلات. في شخصية "الحاج مسلم" الخاشية من الله والمانعة لنفسها كل أنواع المتعة نجد أن لا أحد من أولاده اتبعه، لربما هو حرمان الحاج مسلم من اسم عشيرة في مجتمع عشائري دفعه للارتباط بالدين بعد أن خسر وطنه وربح صفة المهاجر، الأمر الذي لم يسلم حتى أولاده منه فاتبع كل شخص طريقه.

على أنغام موسيقى الياباني كيتارو نزور مع جان تنور أمه وسعير ناره، نقترب من ذكرياته هناك نتلمس طفولته، لحظة ولادته، أيام شبابه وأيضاً رحيله الأخير، يمزج حزنه بأنغام كيتارو، الموسيقى بكاء تلك الآلات على حاله هي دموعه التي ذرفتها تلك الآلات من خيوطها على ذكرياته.

بذكاء يحول جان وجهة روايته نحو البحر فتشعر بأمواجه تتلاطم ورياحه العاصفة بالسفن الحاملة لفلذات أكباد هاربة من حرب من حرية هائجة، تتمسك بشيء ما من حولك وكأنك في القارب "البلم" مع اللاجئين، وتحاول أن تنتصر على البحر وتنجو.

الجانب النفسي الذي يعطيه جان لكل شخصية من الشخصيات يجعلها حقيقية، يتصارعون فيما بينهم، يتصارعون مع أقدارهم، مع الحياة التي أوصلتهم إلى هذا الخندق، تدفع الشخصيات نفسها إليك لتحبها وتخاف عليها، يجعلنا متعلقين بالشخصيات ثم يعاقبك برسم مصائر سوداء لها، ويشفع له على ذلك هو أنه ينقل سواد المصائر من الواقع.

نتوقف ضيوفاً أمام باب بيته المصنوع من الحديد، نطرقه مثل مَن طرقه قبلنا من أطفال ومحتاجين وغجر ومتدينين وأيضاً الكثير من المهاجرين، يغير نظرتنا للحديد الجامد، والشرير، الحديد مسالم جداً، الحديد أمان وذكرى.

أحمد حجي

يسند جان ظهره على جدار بيته المهدوم، ويجول بنا في حارات لبنان ليكشف سياسة النظام السوري، الذي جرّ شباب الوطن نحو حرب مزعومة على عملاء إسرائيل، فشنوا حرباً على أهل لبنان المساكين.
يكشف سياستهم في قتلهم للكورد الخادمين في جيشه، النظام الذي خلق ألف عذر للقتل (حاول الهرب من الخدمة، ضغط الزناد بالغلط، مزح بالسلاح)، أكاذيب النظام كانت كثيرة ولكن الموت كان الصادق الوحيد.

يحلل دۆست الحالة النفسية للشخصية الداعشية وكيفية تشكل العقل الداعشي، الذي شارك المجتمع بنفسه في بنائه، ففي داخل كل إنسان ضعيف فكر داعشي صغير يساعده المجتمع على النمو، وما أن تخرج تلك الشخصية حتى تنحر نفسها أو كل من حولها إذا سنحت لها الفرصة.

لم أشعر أبداً بالوقت وأنا أقرأ الرواية، أغرتني بأسلوبها، بذكاء الكاتب الذي نقلني بين صفحاتها من مستوى إلى آخر، فتسرعت ملتقطاً أنفاسي لأعلم ما الذي سيحصل لاحقاً.


تعديل المشاركة Reactions:
رواية «كوباني الفاجعة والربع» لجان دوست: صندوق أسرار

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة