القاص :رعد الرحبي
جبال شاهقة تتخللها أودية سحيقة، بدأت تظهر رويداً رويداً، جبال رمال تجاوزناها لصحراء منبسطة ورمال متحركة. على مدِّ النظر لانرى إلا سراباً لانهاية له. خيوط الشمس تحيل ذرات الرمل جمراً ملتهباً. بدون تلك المجنزرات المجنونة لايمكن لأحد عبورها. من يتوقف طويلاً في تلك الصحراء مصيره الهلاك والموت المؤكّد. مع تلك القساوة بدأت الأرتال تسير متحدية غضب الصحراء، وشمسها الحارقة ورمالها الملتهبة. مجنزرات لا تعبأ بقساوة الطبيعة ورمال الصحراء. داخل المركبة يشعر كلّ من فيها بالاختناق، كلّ شيء ملتهب لايستطيعوا التحمّل داخلها لوقت طويل.
كَثر التوقف والخروج من داخل فرن الشواء لأخذ جرعة من هواء، إنّه ساخن وذرات رماله ملتهبة، لكنّه أرحم قليلاً من داخل مركبة حارقة مجنونة. كانت استراحة قصيرة لاتعيد النشاط بل الكسل والخمول، مشينا قليلاً ثم توقفنا. ضجيج المجنزرات والآليات يخدشنّ الآذان، دخانها يُدمع العيون ويطبق الصدور ضاغطاً على قلوب مرهفة لم تعتد تلك المشّقة وذلك العناء المرّ.
تابعنا المسير ننتظر غروب الشمس بفارغ الصبر، وبعد عناء غربت شمس ذلك اليوم المتثاقل. توقفت الحركة تماماً دون ضجيج ودخان، حبّات الرمل كجمر انطفأ وزالت حرارته. نسمات عذبة بدأت تتغلغل في الأجساد تزيدها نشوة ونشاطاً، طالت مدة الاستراحة لاستعدادٍ لمسير طويل دون توقف. انتهت تلك المتعة عند دخولنا تلك الأقفاص محكمة الإغلاق. مشينا بعناء لكنّه أقلّ من ذلك اللهيب الجنوني الحارق من ظهيرة ذلك اليوم المشؤوم.
بدأ سواد الليل يزيحه لون رمادي إلى أن انفجرت الشمس ترسل خيوطاً ذهبيةً معلنةً بدءَ نهار جديد. بدا لنا جميلاً من خلال رؤية بساتين وأشجار باسقة وأرض كبساط مزركش أخضر. انتشرت الآليات بين الأشجار لساعات وتمّ استقرارنا في بادية لاتبعد كثيراً عن مناطق السكن. نصبنا خيماً، وحفرنا في الأرض حفراً للدبابات والآليات، وبُنيت غرفاً محصنة للضباط والقادة. قال خالد: لصديقه عامر أنت مدرّس تاريخ ياصديقي وكما تعلم أني مدرّس جغرافيا، نحن في دورا أوروبلوس “الصالحية” ونبعد عشرون كيلو متراً عن مملكة ماري “تل الحريري” تلك الحضارة التي قامت قبل الميلاد بثلاث آلاف سنة. فرصة لنا التعرف على حضارات سادت منذ آلاف السنين ثم تلاشت وبادت. قال عامر: هل تعلم ياصديقي أنّ أقدم كنيسة وأقدم رسم للسيّد المسيح أكتشفت في دورا أوروبلوس، وبنيت تلك الحضارة على جبل مرتفع يطلّ على نهر الفرات بإطلالة جمال نادرة الوجود. يتبادلان الحديث خالد وعامر في ليالي الربيع تحت ضوء القمر، ونسائم تهبّ ناعمة نقية في تلك الصحراء القاحلة، يتحدثون عن مشاهداتهم ومكتشفاتهم لـــكنّهم أيقنوا بقدومهم العبثيّ القاتل. بعد تلك المشقة والعناء، لم تتحرك جميع الآليات ماعدا سيارات الإطعام، وكادت موجات الغبار اليومية تعطّل الأسلحة والآليات. قال خالد: لصاحبه أفكر بأسئلة تؤرقني ولم أجد لها جواباً شافياً ياصديقي!. لا أعرف لماذا جئنا؟.. نحارب من؟.. وكيف نحارب؟.. لماذا تضيع أجمل سنين العمر دون جدوى، ونحن في قمة الفتوة والعطاء. نشعر كأننا في سجنٍ صحراوي، محاط بكثبان رمال تراكمت حول مجنزرات وآليات لم تعد صالحة للاستعمال، وأعشاب وشجيرات نمت في ظلّ الخيم وخزانات المياه. دامت تلك الأيام لزجة مثقلة بالهموم والمتاعب حتى أنهينا خدمة العلم، ورجعنا لمدينتنا بذاكرة مملوءة بذكريات شقاء… لكنها جميلة عذبة .