-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

مُصادفاتُ ضائع "الحلقة الرابعة"


نزار حَجي مصطفى





... بقيتُ في دهشتي, أنتظرُه، لكنّه تأخّرَ كثيراً, فغلبَني النعاسُ نعاسٌ كافرٌ، وذهبتُ في نومٍ عميقٍ بعدَ أرقٍ شديد.

غرقَني النومُ في نعاسِه، فسبحتُ في أجواءٍ غريبةٍ، وكأنّني أدخلُ عالمَ الغرائبِ والعجائبِ، وأماكناً كلّما أقتربُ منها تبتعدُ مني، وبشراً لا يشبهون البشرَ، ولا أعلمُ إنْ كانوا من البشر – ليتني لم أستيقظْ منهبينَما كنتُ في جولتي الحلمية وبسعادةٍ غامرة, أحسستُ بشيءٍ ناعمٍ يحتكُّ بأسفل قدميّ, لا إرادياً فتحتُ عيني، لأستبدلَ عالميّ الخياليّ الرائعَ بوجه صديقي الراعي المُبتسم..

-         قلتَ ستنتظرُني!!
قالَها، وهو يذهبُ ليزيلَ الغطاءَ عن فراشه، وضحكة مُعبّرة عن تفاهة مُخالفتي عن وعدي تغمرُ وجهَه.

-         من الأشياء التي تثبتُ دعائمَ الرجولة الحقيقية لدى الرجل هو وفاءه لوعوده, به يكسبُ ثقةَ العامّة، ومنه يسلكُ طريقَ التواصلِ مع مُحيطه – الإنسانيّ والحيواني – بمكانة محترمة.
قالَ هذه الكلماتِ بشيءٍ من الجدّية، أحسسَني بخجلٍ لأوّل خطأ أرتكبُه مع مَن أتمَّ، وأتقنَ، وأبدع.. قراءةَ صفحات الحياة صفحةً صفحة.

-         لماذا لم تشربْ شايك يا صاحبي؟!
     قمْ إذنْ، لملمْ هذه الأشياءَ المُبعثرة، لنستعد إلى الرحلة التي لا يستطيعُ أيُّ امرئ الاستغناء عنها، لتحملنا إلى صباحنا الجميل المُمتلئ بالمجهول..
قمتُ من مكاني، والتقطتُ كلَّ الأشياء، وحملتها إلى زاويةٍ في الغرفة، وعدتُ أساعدُه بترتيب الفراش.

-         أعرفُ جيّداً أنّه يراودُك الكثيرَ من الأسئلة التي يحكمُها الفضول, لكن دعْني أقولُ لك شيئاً:
"حافظْ على شيئين في كيانك, أوّلُهما العقلُ الذي سيولّدُ الثاني وهو الصبرُ, فإنْ حافظتَ على توازن عقلك، وقوّة صبرك ملكتَ الحياةَ من كلّ أبوابها ونوافذها".
يقولُ هذه الكلمات، وأنا ساكنٌ صامتٌ، وواقفٌ كعصاةٍ صلبةٍ، لا أتحرّكُ أبداً، وأتحدّقُ به بدهشةٍ, وأمسكُ بينَ أصابعي طرف الفراش.

رآني في تصفّني – التصفّنُ الكورديُّ – فحرّكَ الفراشَ، ليوقظَني من التصفّن!
-         ياوو.. نزار أين صرتَ في شرودك؟
-         أعتذرُ منك.
لقد أخذني الخيالُ إلى ما يسكرُ العقلَ، والفكر.
أجبته، وعدْتُ أُسرعُ لترتيب الفراش. تمدّدَ كلٌّ منّا في طرف, حيث أسرعتُ إلى الاستلقاء، والبدء بالنوم, بينَما هو استلقى على طرفه الأيمن، مُسنداً رأسه بذراعه الأيمن مرّة والأيسر مرّةً أخرى، ثابتاً مِرْفقه على المِخدة التي ستحملُ رأسَه إلى ذاك الصباح كما أدّعى.

-         قمْ، لا تتظاهرْ بالنوم, فهنالك الكثيرُ سنتكلمُ به في هذه السهرة.
ابتسمتُ، وقمتُ من استلقائي، رغم استبداد النعاس.

-         أيُّها العم:
ما تعرضتُ له من تعب اليوم, لا يكفيه نومُ ليالٍ متواصلة, أنتَ رغمَ كبر سنّك تبدو نشيطاً!
قلتُ له هذا، لأبرّرَ قليلاً عن النوم والتعب الشديد اللذين أعاني منهما.

-         يا صديقي الشاب:
قد نسيتَ شيئاً مهمّاً عن أصلنا, نحن الأكرادُ نعرَفُ بأبناء الجبال السوداء, وما يُعرَفُ عن أبناء الجبال قوّتهم، وجَسَارتهم على تحمّل الصعوبات والمحن، لأنّ حياتهم لا تفارقُ الصعوباتِ والمحن.
يقولُ بوجعٍ، وفي كلّ جسده حماسةٌ، وإثارةٌ غريبتين, قامَ واقفاً إلى العلاقة التي كانتْ تعلو رأسه، وبدأَ يفتّشُ عن شيءٍ في مَلابسه, لم أكنْ أعرفُ مُبتغاه!! لكنّي سمعتُ صوتاً يصدرُ من احتكاك يده بكيس, وإذْ به يخرجُ كيساً أبيضاً قديماً صغيراً فيه – كما ظهرَ لي – قليلٌ من التبغ تبغ "قاجاغ" اللذيذ المُتعة بالنسبة له.

عادَ جالساً، يأخذُ لُحافَه بينَ أحضانه، ويمسكُ الكيسَ بينَ أصابعِه، وفي أصابعه الأخرى يلفُّ سيجارته التي قد يخفّفُ شيئاً من مَتاعب هذه التلال, أتمَّ اللفَّ، وقرّبَها من شفتيه، يقطعُ أطرافها، ويبلّلُها، ليلتصقَ ببعضها البعض.

عشقتُ هذه السيجارةَ! لكن الخوفُ كانَ أقوى من رغبتي, بعدَ أنْ انتهى من لفّها، رمى الكيسَ إلى جانبي قائلاً بابتسامةٍ رائعة:
-         لُفْ لنفسك واحدةً يا صديقي، فأنا لم أجدْ ما يخفّفُ عني منذ عشرين سنّةٍ سوى هذه السيدة التي تحرقُ نفسَها بعيدان التبغ لتسعدَني في سماوات هذه الأرض الفارغة.
قالَها بشيءٍ من الروعة!

-         شكراً أيُّها العم...
أنا لم أجدْ حتى بقايا سيجارة بينَ أصابعي منذ الولادة.
أجبته، رغمَ رغبتي الشديدة عليها، وعلى الخوض في ثناياها، وثنايا دخانها.

-         إذن فأنت لم تعشْ بعد يا صديقي، وكلُّ ما مرَّ معك هي من فكاهات الحياة.
عادَ إلى ما كان عليه، وكأنّه يعدُّ من جديد للحديث, رمى اللحافَ على رجليه.

-         أنا اسمي عبد الفقير الكورديّ، لكنّهم – كوردياً – يلقبونني بـ: «عَڤـدو»، وهذا ما يعرفني.

غمرَتني راحةٌ بعدَ ضيقٍ مَكبوت, بينَما زارَ وجهَه ضحكةٌ هادئةٌ من فمٍ تجمّلَ بترهّلات الحياة، لأنّه عرفَ أنّه بدأَ يجيبُ عن الأسئلة التي كانت لا تفارقُني، وتلاحقُني بينَ الحوار والآخر، وبينَ كلّ نظرةٍ وأخرى...


يُتبع..
تعديل المشاركة Reactions:
مُصادفاتُ ضائع "الحلقة الرابعة"

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة