نزار حَجي مصطفى
... دخلْنا إلى الغرفة، غرفة خالية تماماً من الأثاث، لا شيءَ سوى
سِجّادةٍ مُمدّةٍ في وسطها، ووِسَادة في وسط السِّجّادة، وبجانبها كانتْ مائدةُ طعامٍ
مُغطّاةٍ بغِطاءٍ أبيضٍ شفّاف.
لقد اندهشتُ كثيراً!!
فالغرفةُ كانتْ مُرتّبةً رغمَ قلّة أثاثها، عَلاقةُ ثيابٍ خشبيةٍ
عليها مسامير صَدِئة، وجرنُ ماءٍ كبيرٍ موضوعٍ في الزاوية المُواجهة للباب، وعلاماتٌ
ظاهرةٌ تدلُّ على أنّ شخصاً آخراً يشاركُ هذا الراعي سكناه.
لاحظَ اندهاشي، لكنّه ظلّ صامتاً، رمى ما بيده في الزاوية، وخلعَ عباءته، وخرجَ بعدَما دعاني إلى الجلوس.
جلستُ أتأمّلُ الغرفةَ، وسطحَها المُسند على أعوادٍ خشبيةٍ قديمة.
بعدَ برهةٍ عادَ، وفي يده إبريقُ ماءٍ، وهو يستشهدُ، ويردّدُ أدْعيةً وآياتٍ قرآنية، وضعَ الإبريقَ خلفَ الباب، والتقطَ عباءته من جديد، ومدّدَها على الأرض ليصلّي عليها، بينَما كنت أراقبُه يصلّي، ويهزُّ رأسَه صعوداً ونزولاً:
"السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، السلامُ عليكم ورحمةُ
اللهِ وبركاتُه".
قلّبَ طرفَ عباءته، مُنهياً الصلاة.
-
تقبّل الله.
قلتُها، والخوفُ يراودُني!!
الليلُ قد خيّمَ علينا بظلامه الكاحِلِ، والعتمةُ تمنعُنا من رؤية أيّ شيءٍ، فأزالَ الغِطاء من على المائدة، ودعاني إلى الأكل. الخجلُ كانَ مُسيطراً عليه، فقد كانَ طعامُه وجبةَ شخصٍ واحدٍ.
كانَ يبطئُ في الأكل رغمَ جوعِه الشديد، ويردّدُ دائماً جملته التي كرّرَها لي لأكثر من مئة مرّة: "إنّها ستكفيننا"، وقد كنّا نُكثرُ من الخبز في كلّ لقمةٍ، ونعتمدُ عليه لكثرته.
كثيراً ما أردتُ أنْ أسألَ عن سرٍّ وراءَ تجهيزِ الأكل، لكنْ دائماً
كانَ هناك ما يمنعُني.
انتهينا من الأكل، ولم يكلّمْني حرفاً، حتى أنّه عندَما كانَ يضطرُ للكلام فقد كانَ يكتفي بإشاراتٍ وعلاماتٍ مُعيّنةٍ, كنتُ في كلّ لقمةٍ، أنظرُ إليه بخجلٍ لم أكنْ أعرفُ سببَه، قد يكونُ لتواضعه، أو لتوافق بينَ جوعي الشديد، وقلّة الطعام.
لمْلمَ الطعامَ، ووضعَه في إحدى زوايا الغرفة.
في هذه الغرفة لكلّ شيءٍ زاوية، إلى أنْ رأيتُ في أحد الزوايا فراشَه المُغطّى بلحَافٍ عفِنٍ من صنعه.
تمدّدتُ في المكان الذي كنت فيه جالساً، فالتعبُ قد أنهكَني، والنومُ كادَ أنْ يغلبَني، لكنّني قاومتُه في
تحدّ، فقد بقيتُ صاحياً رغمَ النعاس الشديد.
بينَما هو أتمَّ الشاي، وبدا وكأنّه استعدَّ ليكلّمَني إلى حيث لا
نهاية.
في الحقيقة لم أكنْ أعرفُ ما الذي جعلَني مُتحمّساً على التعرّف على الأكراد
من خلال هذا الراعي البسيط.
سألتُ نفسي في حيرةٍ، وتعجُّب:
-
ترى ماذا بإمكان هذا الراعي أنْ يقدّمَ لي من معلومات عنهم؟!
-
تفضّلْ هذا الكأسَ من الشاي.
قالَها، وهو يضعُ الكأسَ أمامي بابتسامةٍ لم أراها حقيقةً بل تخميناً.
نهضتُ بعجلةٍ ممّا كنتُ عليه، وقلتُ بخجلٍ شديد.
-
سلمتْ يداك أيُّها العم.
-
ها قد أطعمتُك، والآن نشربُ الشاي، حانَ أنْ نتكلّمَ لأملئ أسماعَك من
قصصي.
ردّدَ هذه الكلماتِ على مَسامعي بحماسٍ غريبٍ، وقد استغربتُ منه هذا
الحماس.
تابع كلامه، وقد أبَانَ لي بأنّ ليلتي ستكونُ مُشوّقة.
-
كنتَ مصرّاً أنْ تسمعَ مني عن الأكراد، وكنتُ دائماً أتهرّبُ منك.
يقولُ، بينَما كنتُ مُنصِتاً بصمتٍ غريب، كما لو أنّني أشاهدُ فِلماً
من الأفلام الهنديةِ المُثيرة، نظراتي كانتْ تحدّقُ مُتنقّلةً بينَ شفتيه وعينيه،
وبعضاً من حركاته التي تضارعُ حركاتِ العجزة، في كلّ جملةٍ أومئ له برأسي تعبيراً
عن سماعي لكلّ ما يقولُه.
ابتسمتُ قليلاً طالباً المتابعة، وقد كانَ جالساً مُمدّداً رجله
الأعرج إلى أمامي، وهو ساندٌ بمرفقه الأيسر على مِخدّةٍ صغيرةٍ ناعمة.
قالَ بابتسامةٍ طويلة:
-
سألتَ كثيراً، ولم تسألْ عن ما يعرفُني!!
امتلأَ وجهي دهشةً لم أعشْها قطْ في حياتي! بدأتُ أحاورُ نفسي جُملاً
بديهيةً مُتنقّلاً بنظري يميناً وشمالاً، صعوداً ونزولاً.
-
يا إلهي!! يا إلهي!!
-
ما هذا الذي لم أسألْه؟
-
وماذا يقصدُ بكلامه "ما يعرفني".
رآني أعاركُ نفسي وعقلي، فزادَ ابتسامتَه إلى ضحكة طويلة مسموعة،
وقامَ مُتجهاً إلى الباب، وما زالتْ الضحكةُ تملأُ وجهَه، فتحَ البابَ وخرجَ، لم
أدرِ إلى أين ذهب! بينَما كنت في قمّة اندهاشي، ومُردّداً جهراً ما كنتُ أردّدُه
في نفسي، ولم أستطعْ أنْ أعرفَ ماذا يقصدُ بقوله: "ما يعرفُني...".
يُتبع..