-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

*رصاص القلم *: للأديب العراقي عبد الله الميالي

                                                   د : خالد بوزيان موساوي ....  مغرب
                                                                           

نتساءل حاليا أكثر من أي وقت مضى: أي اسم أو صفة أو نعت يمكن للفنان المبدع ريشة و قلما و عرضا أن يطلقه على ما يعيشه هنا/ الآن من ردود أفعال إنفعالية تجاه معيشه ، من خلال ما يبدعه. قلبا و قالبا.؟
هو سؤال الهيولى كما جاء في عنوان هذه القراءة:
 " لما يسبح النص القصصي في هيولى قضايا مرتبكة بجمالية تصوير الكتابة الحداثية".
الهبيولى اصطلاحا عند القدماء، مادة ليس لها شكل و لا صورة معينة، قابلة للتشكيل و التصوير في شتى الصور (1) ... ففي فلسفة أرسطو، إن الشيء، بما له من هيولى و صورة..
و نتساءل: هل القصة القصيرة جدا ـ باعتبارها جنسا أدبيا (؟) يعايش العولمة، و عصر السرعة، و الظرفية التاريخية الانسانية الحرجة و المرتبكة ـ قادر على إعطاء صورة واضحة لهيولى الإنسان العربي المعاصر الذي أصبح وجودا و ماهية حبيس متاهات يعبر عنها فنيا و أدبيا بشكل أكثر تجريدا و تعقيدا و انفلاتا، لتجعله يوصف و يظهر و تتجدد معالمه؟
هذا هو السؤال الاشكالي الذي سنحاول الاجابة عنه من خلال مقاربتنا للمجموعة القصصية جدا
 "رصاص قلم" للأديب العراقي عبد الله الميالي.
و بما أن الهيولى، تقنيا، تخطيط مبدئي للصورة، سنحاول في تضاعيف هذه الفراءة / المقال وضع الأصبع على التصميم العمراني للقصة القصيرة جدا في مجموعة "رصاص القلم"، و من خلاله تمظهرات الإنسان العراقي و العربي داخل الحدث، و خارجه، كينونة، و تأثيرا، و تأثرا، و مشاعرا...



1 ـ الهيولى كتخطيط مبدئي للصورة: البناء المعماري للقصة القصيرة جدا في مجموعة "رصاص القلم" نموذجا.
من أبجذيات تعريف القصة القصيرة جدا كجنس أدبي حديث ما كتبه أحمد جاسم الحسين، فإننا نجده يُعرِّف القصة القصيرة جدًّا بالتركيز على خاصِّيتين بارزتين؛ وهما:
خاصية الانتماء الجنسي المتجلية في لفظة (قصة)،
وخاصية الكمية المتمظهرة في عبارة "قصيرة جدًّا"؛

ولذلك فالقوقجة، حسب الناقد "تنتمي للقصِّ حدثًا وحكايةً وتشويقًا ونموًّا ورُوحًا، وتنتمي للتَّكثيف فِكْرًا واقتصادًا ولُغةً وتقنيات وخصائص"...؛ ولذلك فهو يعتبر القصة القصيرة جدًّا جنسًا أدبيًّا حديثًا على الرغم من كونه مولودًا بِكْرًا؛ نظرًا لقلَّة الدراسات التي اعتنت به
نقرأ بداية من باب الاستطلاع هذه النماذج من "رصاص القلم":
ـ قصة "قلم":
" كتب مقالا عن حرية التعبير، داهمه جند الحاكم، اعتقلوا خلاياه التي حرضت على الشغب، أطلقوا صراحه، صار يطوف الشوارع يحرض الناس على الصمت !.". (ص. 13 ).
ـ قصة "ثورة":
" أصدرت الأنواء الجوية بيانا رقم واحد، امتشق البرق سيفه معلنا ساعة الصفر، سقطت دماء السماء، لاذ القمر بالفرار.". (ص. 16 ).
ـ قصة "شهيد":
" وقف يحمل سارية الوطن، إجتاحته عاصفة المعركة، أشفق عليه العلم، ضمه إليه و ظلّ مرفرفا." (ص. 37 ).
ـ قصة "صياد":
" نصب شراكه على طريق المتسوّلة، تعثرت بأول غمزة، رمى بعض نقوده، استجارت بجلبابه، أسرع بالمغادرة، نسي ارتداء لحيته." (ص. 32 ).
ـ قصة "قلم رصاص":
" الكلمات التي أطلقها، أصابت رأس الحاكم بالصداع، صادر جميع الأقلام، عوضها بريش النعام." (ص. 47 ).
أولى الملا-حظات التي قد ينتبه إليها دارس علم السرديات الحديث، كون هذه القصص القصيرة جدا (كما النماذج أعلاه) لا توظف في شكلها الظاهر (أي في هيكلها الخارجي) العناصر السردية التقليدية كما عهدناها في أجناس أدبية أخرى كالحكاية و القصة و المقامة و النادرة ... و التي اختزلها البنيويون و الشكلانيون في "الخطاطة السردية الكلاسيكية" (Scéma narratif classique ) التي تضم خمسة عناصر: "وضعية الانطلاق" أو "البداية" (Situation initiale)، و "العنصر المحفز" أو "الدافع" (Élément déclencheur)، و "العقدة" (Le noeud) بعناصرها "المزعجة" (Eléments perturbateurs)، و "الحل" / "النتيجة" (Dénouement)، و "وضعية النهاية" (Situation finale).
لما نقرأ هذه المقاطع التي تشكل مطلع كل قصة من القصص (أعلاه):
"كتب مقالا عن حرية التعبير"، و "أصدرت الأنواء الجوية بيانا رقم واحد"، و "وقف يحمل سارية الوطن"، و "نصب شراكه على طريق المتسوّلة"، و " الكلمات التي أطلقها"...
نكتشف أنها لا تشبه ما نسميه عادة "وضعية الانطلاق" أو "البداية" (Situation initiale).. هي جمل فعلية خبرية في مجملها، تضم حدثا، تبرزه، و تسلط الضوء عليه، مع غياب تام للوصف لضرورة احترام عنصر "التكثيف"... نجد أنفسنا كقراء منذ المطلع في قلب الحدث و بدون مقدمات، أي مع "العنصر المحفز" أو "الدافع" (Élément déclencheur) كما هو في "الخطاطة السردية الكلاسيكية".. و كل ما يليه، ردة فعل، أو تفاعل، أو إنفعال ("داهمه جند الحاكم"، و "امتشق البرق سيفه معلنا ساعة الصفر"، و " إجتاحته عاصفة المعركة"، و "تعثرت بأول غمزة"، و "، أصابت رأس الحاكم بالصداع"..)..
لذا اقترح بعض النقاد و الدارسين المهتمين بالقصة القصيرة جدا، تجاوز الخطاطة/ الجذاذة السردية الكلاسيكية، و استلهام العناصر المكونة للبناء المعماري للقصة القصيرة جدا، من النصوص القصصية ذاتها. اختزلها بعضهم في ثلاثة عناصر، هي:

أ ـ العنصر الأول: الحالة:
"المقصود بالحالة هي مواضيع وأحداث القصة، وما تشتمله من حالات خاصة أو عموميّة، بحيث يلجأ الكاتب إليها لإخماد الأحداث السائدة في القصة من أجل التمهيد للمفاجئة من خلال الخاتمة"... و الحالات في مجموعة "رصاص القلم" لعبد الله الميالي، اختصرها و بفنية عالية الأستاذ الكاتب و الباحث حميد الحريزي في تقديمه للمجموعة، حيث كتب:
"إن (رصاص القلم) هو رصاص من غضب يستهدف قلب القبح، و القهر، و الفساد، و النفاق، و مصابيح من أمل تنير طريق المحبة و التضحية و الإيثار و الحب من أجل عالم أفضل و أجمل...". (ص. 10 ).

ب ـ العنصر الثاني: المفارقة:

قد يتضح معناها قبل تعريفها من هذه القصة، نقرأ:
ـ " عطف !
افترشت باب المسجد، تستجدي لأطفالها، رق لحالها إمام الجماعة، مدّ يده إلى جيبه، أخرج حديثا عن فضل الصّوم." (ص. 13 ).
المفارقة الدرامية من خلال هذه القصة، و كما عرفها الناقد كلينت روكس، قوة فنية لها صورتان، أي تحمل في أحشائها نقيضها.. و هو نقيض غير منطقي، أو منطق غير متوقع لذا يسمى مفارقة: لما وضع إمام الجماعة يده في جيبه في القصة، و قد رق قلبه للمتسولة، المفترض كان أن يخرج مالا صدقة، لكن أفق إنتظار خاب، لما بدل ذلك أخرج "حديثا عن فضل الصوم"... و هو تصور يتوافق و تعريف الفيلسوف الأنجليزي مارك سينسبري، المفارقة بالنسبة إليه تعني: "خاتمة قد تبدو غير مقبولة، مستمدة من فرضيات قد تبدو مقبولة من خلال منطق قد يبدو مقبولاً. يمكن أن تعبر المفارقة عن تناقض خارجي عندما تناقض معرفة أو فرضية سابقة، أو تناقض داخلي عندما تحتوي نفسها على شيء وعكسه."..

ج ـ العنصر الثالث: الخاتمة/ النتيجة:

نقرأ لأجل فهم السياق نموذجين قصصين من المجموعة:
ـ النموذج 1 : قصة "هواجس" (ص. 19 ):
" لاحقته رصاصة هاربة تبحث عن ملاذ آمن، امتطى صهوة حلم لكي ينجو منها، اخترقت جمجمة الحصان، سقط عن سريره."
ـ النموذج 2 : قصة " ميلاد" (ص. 23 ):
" قرأ في صفحة المفقودين: (مواصفاته: نحيل كهلال، أصفر كحبة قمح، أشعث الشعر، رثّ الملابس، يجوب الشوارع)، فرح كثيرا عندما وجد نفسه."..
نستنتج من هذين النموذجين، على سبيل المثال لا الحصر، ما يشبه "القاعدة" في جنس القصة القصيرة جدا: عنصر "المفاجأة" في "نهايتها":
ـ في نهاية قصة " هواجس" نتفاجأ بأن البطل كان يحلم، و أنه اكتشف ذلك لما سقط من سريره..
ـ و نهاية قصة " ميلاد" يفاجئنا البطل أنه كان تائها عن نفسه، و تعرف على أوصافه من خلال " صفحة المفقودين"...
هكذا تصبح خاتمة القصة القصيرة جداً "وليدة فكرة / رسالة" قبلية عند القاص الحامل لهموم قضايا، و ليست تحصيل أحداث، يصوغها بفنية عالية معتمدا عن صور بلاغية فائقة الدقة، و جد مشفرة... تعتبر "خاتمة" القصة القصيرة جدا عند أغلب النقاد إن لم نقل كلهم، العنصر الأقوى والأهم، فهي تعدّ نقلة سريعة من داخل النص المحفز إلى خارجه المدهش والمستفز.

قمة الابداع هذه التي " توظف بشكل موجز ومكثف بالإيحاء والانزياح والخرق والترميز والتلميح المقصدي المطمعم بالأسلبة والتهجين والسخرية وتنويع الأشكال السردية تجنيسا وتجريبا وتأصيلا." (كما عبرعن ذلك الباحث الأكاديمي الدكتور جميل حمداوي في غير هذا المقام)..
و كما أن للقصة القصيرة جدا بعد جمالي فني، بحكمه قبل كل شيء جنسا أدبيا، فهي بأحداثها، و مواضيعها، و نوعية أبطالها، و ظرفيتها الزمكانية (تاريخا و جغرافية)، و بمواقف كاتبها، تصوغ صورا و مواقف، عبر انزياحات المعجم و البلاغة، للمعيش المرتبك و الحرج.

2 ـ الهيولى كتخطيط مبدئي لموقف تجاه واقع:

كتب القاص المبدع عبد الله الميالي في "تصديره" لمجموعته هذه " رصاص القلم" (ص. 11 ):
" الكلمة الهادفة التي يسطرها قلم...
كالطلقة حين تصيب هدفها...
كلتاهما تترك أثرا..."
و كأن القاص عبد الله الميالي، و هو الكاتب، و الباحث، و الدارس و الناقد، يوفر علينا مجهود مقاربة عنوان المجموعة كعتبة للنص و مفتاحا له.. "الرصاص" بكل معانيه "سلاح"، سواء كان مادة داخل قلم للكتابة، أو بداخل سلاح ناري.. فهو "الكلمة" التي تشبه "الطلقة"، و الهدف سيان: أن "تترك أثرا"...
في السياق نفسه كتب الأستاذ الكاتب و الباحث حميد الحريزي في تقديمه للمجموعة:
" تميزت المجموعة في أغلب قصصها بوفائها لعنوانها (رصاص القلم)؛ لكونها وجهت نيران النقد الحامية للسلطات الظالمة و الفاسدة و إلى ممارساتها القمعية، و بذخها غير المشروع على حساب جوع و قهر الأغلبية من الجماهير التي تعاني من الفاقة، و انعدام الحرية..." (ص. 8 و 9 ).
و ممارسة الكتابة القصصية عند المبدع عبد الله الميالي هي فعل سخرية من الكتابة ذاتها، لما تغيّب الكتابة الابداعية الأدبية واقعها، لا تتفاعل معه و لا تفعل فيه، فتكتفي الكتب بالاصطفاف في الرفوف.. و لعلّ من أجمل القصص التي تناولت هذا الموضوع بجمالية و سخرية أكثر سوادا، قصة "أخلاق"، نقرأ:
" ملّت حديثه عن الأخلاق و الفضائل، أغضبها، صفعته، سامحها، أفلت منها، و قف مع زملائه في رفّ المكتبة." (ص. 15 ).

و في هذا المضمار، و نحن نقرأ أفقيا و عموديا هذه المجموعة الجميلة و الهادفة "رصاص قلم" للمبدع العراقي عبد الله الميالي، نستحضر ما كتبه الدكتور جميل حمداوي في سياق شبيه:
" تهدف القصة القصيرة جدا إلى إيصال رسائل مشفرة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية المتأزمة إلى الإنسان العربي ومجتمعه الذي يعج بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي، والذي يعاني أيضا من ويلات الحروب الدونكيشوتية والانقسامات الطائفية والنكبات المتوالية والنكسات المتكررة بنفس مآسيها ونتائجها الخطيرة والوخيمة التي تترك آثارها السلبية على الإنسان العربي ، فتجعله يتلذذ بالفشل والخيبة والهزيمة والفقر وتآكل الذات... كما ينتقد هذا الفن القصصي الجديد النظام العالمي الجديد وظاهرة العولمة التي جعلت الإنسان معطى بدون روح، وحولته إلى رقم من الأرقام، وبضاعة مادية لاقيمة لها، وسلعة كاسدة لاأهمية لها . وأصبح الإنسان- نتاج النظام الرأسمالي "المعولم " - ضائعا حائرا بدون فعل ولا كرامة، وبدون مروءة ولا أخلاق، وبدون عز ولا أنفة، معلبا في أفضية رقمية مقننة بالإنتاجية السريعة والاستهلاك المادي الفظيع ، كما صار مستلبا بالآلية الغربية الطاغية على كل مجتمعات العالم "المعولمة" اغترابا وانكسارا."..

تعديل المشاركة Reactions:
*رصاص القلم *: للأديب العراقي عبد الله الميالي

canyar

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة