هذا الكتاب هو محاولة لاثبات ان فلسفة «عمانوئيل كانط 1724 ـ 1804» ميتافيزيقية اصيلة تبحث في المباحث الميتافيزيقية التقليدية، انطلاقاً من فهم كانط للميتافيزيقية بأنها علم «الذي يتجاوز كل موضوعات التجربة الممكنة ليعرف ما لا يمكن ان يعرفه من خلال الموضوع، وذلك العلم الذي يؤسس المعارف العقلية الأولية الخالصة. واذا كانت فلسفة هذا الفيلسوف قد خضعت لتأويلات عدة فاعتبرت في المانيا نظرية في المعرفة، وأولتها مدرسة ماربورغ على أنها مثالية خالصة واعتبرتها الوضعية المنطقية «فلسفة تحليلية»، هذا الكتاب يحاول قراءة فلسفة كانط على انها معنية بالبحث في الوجود بما هو موجود، والبحث في المبادئ والعلل الأولى، وتأتي هذه المحاولة استكمالاً لقراءة هيدغر فلسفة كانط على أنها فلسفة معنية بالبحث في الموجود والوجود.
نظرية المعرفة عند كانط :
يقول كانط، في ما يبدو أنه تأثر واضح بالاتجاه التجريبي، «ليس ثمة شك ابداً في ان كل معرفتنا تبدأ مع التجربة، لأن قدرة المعرفة لن تقوم بواجبها ما لم يحدث ذلك من خلال الموضوعات التي تلمس حواسنا فتحدث التصورات من جهة، ومن جهة تدفع عمل الفهم الى مقارنة هذه التصورات وربطها وفصلها». وبذلك تتحول المادة الخام للانطباعات الى معرفة للموضوعات تسمى التجربة.
وحسب اعتقاد المؤلف الدكتور جمال محمد احمد سليمان فعلينا ابتداء ان نعترف بأن نظرية المعرفة عند كانط على درجة عالية من من التعقيد. وتتمثل الاشكالية الأساسية في فهم نظريته المعرفية في أمرين: الأول، ان كانط بوصفه باحثاً عن الحقيقة وليس مالكاً لها لم تأت معالجته للنظرية دفعة واحدة، بل تشكلت عبر تطوره الفكري. والأمر الثاني: اكثر كانط من المصطلحات التي يستخدمها ليعبر بها عن رؤيته بشكل عام. وعلى اية حال فاننا نلاحظ ان كانط يعلن ان المعرفة «تبدأ مع التجربة». ومن ثم يؤكد المؤلف ان كانط لا يعتبر التجربة مصدر المعرفة، بل ان المعرفة تبدأ مع التجربة فحسب.. فيقول: «على الرغم من ان كل معرفتنا تبدأ مع التجربة، فانها لا تصدر كلها عن التجربة». اذ ان هناك معارف لا بد ان تسبق التجربة بالضرورة. فالمعرفة التجريبية هي اي معرفة تحدد موضوعاً من خلال الادراك، انها اذاً تأليف للادراك، اي ان النوع الأول من المعرفة يتطلب بالضرورة وجود الموضوع لتنشأ المعرفة.
ولكن حسب رأي المؤلف هذا لا يعني ان الادراك الحسي وحده يمكن ان يشكل معرفة عند كانط بحيث انه في الأساس يوجد الحدس الذي اكون داعياً به، اي الادراك، والذي ينمي فقط الى الحواس. ولكن من ناحية اخرى ينتمي الى التجربة ايضا الحكم الذي يأتي من الفهم، وهذا الحكم يمكن ان يكون على نوعين: اولاً مقارنة الادراكات ووعي حالتنا فقط:، ثانيا: ربط الادراكات بشكل عام في الوعي. وكما يقول كانط «ان كل حدس ليس سوى تصور للظاهرة، وأن الأشياء التي نحدسها ليست في ذاتها على نحو مانحدسها وعلاقتها توجد في ذاتها على نحو ما تظهر لنا».
ومن هذا المنطلق يتضح لنا ان المعرفة عند كانط تصدر عن العقل أو الطبع الانساني، لا عن الانطباعات الحسية التي لا تعدو كونها مهماً، يحرك قدرة المعرفة فينا.
الوجود الفعلي للأشياء:
بالرغم من ان فلسفة كانط فلسفة مثالية، فانه يقر في مثاليته المتعالية ـ على خلاف مثالية ديكارت وباركلي، بوجود فعلي للأشياء، ويرى المؤلف انه اذا كان الوجود هنا يبقى هنا بالسماح: فان كانط في احد نصوصه ينظر الى هذا النمط من الوجود بوصفه معطى لحسنا حيث يقول: «أنا اقول توجد اشياء خارنا، بوصفها موضوعات معطاة لحسنا فحسب، لما يكون في ذاته، ولا نعرف عنه شيئا».
ويخطو هذا الفيلسوف خطوة أخرى نحو الاعتراف بالوجود المستقل للاشياء بوصفه متميزاً عن الأنا من جهة، وبوصفه في زمان ومكان ما دون اشارة الى ضرورة ان يكون موضوعا للادراك. وحسب اعتقاد المؤلف فان الأمر الذي لا جدال فيه هو ان الاعتراف بالوجود الفعلي للشيء بمعزل عن الذات امر ضروري داخل النسق الكانطي لموضوعي المعرفة. وهذا ما يؤكده ارثر كولنز اذ يقول: «ان كانط يقول، وأحيانا يقول بوضوح جداً، ان الموضوعات التجريبية حقائق توجد خارج ما هو عقلي، وان من اليسير لفهمنا المباشر ان يصل اليها».
انما الواقع ان حقيقة الشيء ليس في تعينه المادي فحسب، كما ان المادة ليست هي وحدها الموضوع، اذ لو كان الأمر كذلك لما تطلب الأمر ان يقوم كانط بالبحث عن سبيل لتجاوز التجريبية. ومن هذا المنطلق نجده يؤكد على ان المادة لا تكون أولية ابداً؛ وحسب رأيه المادة تقابل الصورة، التي تكون في الحدس الخارجي موضوع الاحساس، ومن ثم فهي (اي المادة) هي الحدس الخاص والتجريبي للحس، وهي ايضا الحدس الخارجي، لأنها لا يمكن ان تعطى اوليا ابداً في اي تجربة، ويجب ان نحس بشيء ما، وهذا واقع الحدس الحسي. وعلى هذا يشير المؤلف الى ان كانط يقر صراحة بأن الموضوع يتكون من مادة وصورة، فالمادة والصورة هذان المفهومان يضعان اساس كل تفكير آخر، لأنهما يرتبطان بلا انفصال بكل استخدام للفهم، المادة تعني ما يتعين بشكل عام، والصورة هي تحديدها، غير ان الصورة التي يتحدث عنها كانط ليس هي هيئة الشيء، او شكله المادي، بل هي الاطار العقلي الذي يعرف الشيء به من حيث هو ظاهره.
المعاني المتعددة للوجود :
يرى مارتن هايدغر ان الشيء او الموجود له عند كانط معان عدة، فهناك الشيء الطبيعي، والشيء بمعنى الجسم الطبيعي؛ اذ يقول: «يحدد كانط الشيء الطبيعي بوصفه شيئاً سهل المنال. الجسم الذي يكون موضوعا للتجربة، اي لمعرفة الرياضيات الطبيعية. ان الجسم شيء ما في الحركة أو ساكن في مكان؛ لذلك فان الحركات بوصفها تغيرات في المكان يمكن ان تكون محددة عددياً وفقاً لعلاقاتها». ولكن نجد كانط يفرق بين الجسم الرياضي والجسم الطبيعي على اساس ان الأخير توجد به قوة. بينما الاول لا توجد به مثل هذه القوة. كما ان كانط، من منظار المؤلف، يفرق بين المادة الميتة والموجودات الروحية. بحيث ان المادة الميتة في العالم التي تملأ المكان تكون بطبيعتها الخاصة وفقاً لما يحدث في حالة القصور والدوام في الشيء الواحد، انها تمتلك الصلابة والامتداد والشكل، وظواهرها التي تتأسس على هذه الاسس توضح فيزيائياً، والتي تكون في الوقت نفسه رياضية، وتستمر ميكانيكية ايضا. ومن ناحية اخرى اذا وجه المرء انتباهه الى نمط الوجود الذي يتضمن اساس الحياة في كل العالم، فان مثل هذه الموجودات ليست من النوع الذي يوسع كمية المادة التي بلا حياة من حيث المكونات، او تريد امتدادها.. انها بالأحرى وبواسطة فاعليتها الداخلية تنشط نفسها، وايضا مادة الطبيعة التي بلا حياة.
ومن ناحية أخرى، يفرّق كانط بين الكائنات الروحية والموجودات العضوية والنبات. وتقوم التفرقة حسب رأي المؤلف بين عالم الحيوان وعالم النبات على أساس أن عالم النبات ليس لديه أعضاء تساعده على تحقيق فاعلية إرادة خارجية، بينما هذه موجودة لدى الكائن الحي. والإنسان عند فيلسوفنا يتميز عن كل الكائنات الحية ويملك ما هو أسمى، إذ أن الإنسان وكل كائن عاقل بوجه عام يوجد لهدف في ذاته لا كمجرّد وسيلة يمكن لهذه الإرادة أو تلك أن تستخدمها على هواها، فهو حسب ما يشير كانط في كل أفعاله سواء أكانت هذه الأفعال متعلّقة به هو نفسه أم بغيره من الكائنات العاقلة الأخرى ينبغي أن يُنظر إليه في الوقت نفسه على أنه غاية. «إن الوجود الإنساني له قيمة في ذاته، والذي يعيش لكي يهنأ». وهو مشغول جداً بهذه الغاية، واعتبار الإنسان قيمة في ذاته أمر لم يتطرق إليه السابقون على كانط.
معاني الوجود :
الوجود هو ذلك الملاذ الرحب الذي يلوذ به المرء حين يبلغ به السأم أو الفرح أقصى درجاته، فيصرخ قائلاً: إنه لم يرّ مثل هذا الوجود، فالوجود إذاً، ومن خلال هذا الموقف المعاش، هو ما فيه يوجد كل موجود بما هو موجود. إنه ساحة التجلي والظهور التي نلتقي فيها بكل ما يتجلى ويظهر بوصفه شيئاً أو موضوعاً أو موجوداً ما.
ومع أن الوجود هو الأقرب للموجود من كل موجود فإنه حسب تعبير المؤلف يظل بالنسبة لنا أبعد من كل بعيد، لا لشيء إلا لأننا دائماً لا ننتبه إلا الى ما يزعجنا بالإعلان عن نفسه. إننا لا ننتبه أبداً الى البساطة المطلقة والخفاء المطلق والتحجب الذي لا يتبدى إلا من خلال ما يظهر بوصفه موجوداً. إنه دائماً ينكر ذاته ليكونها وليحقق وجود كل موجود، أي يُظهره في نوره، بما أن الوجود هو النور الذي يتيح لنا أن نرى الموجود؛ ففي رحابه نرى كل ما يجابهنا سواء التفتنا إليه أم لم نلتفت.
وفي الحقيقة فإن الوجود مقابل للعدم، وهو بديهي فلا يحتاج الى تعريف إلا من حيث هو مدلول للفظ دون آخر؛ فيعرّف تعريفاً لفظياً يفيد فهمه من ذلك اللفظ لا تصوّره في نفسه، مثال ذلك تعريف الوجود بالكون أو الثبوت أو التحقق أو الحصول أو الشيئية أو بما به ينقسم الشيء الى فاعل ومنفعل، وإلى حادث وقديم.
فالوجود الذي يمكن أن يعرف بشكل أولي تماماً هو وجود ضروري مطلق. ويتساءل المؤلف: هل يكون بوسع كانط الذي يفهم الوجود على أنه وجود الموجود، ويجعل من التجربة سبيله لمعرفة الوجود حين يقول: «إنني أعرف الوجود من خلال التجربة لا من خلال التحديد وهذا يتم بواسطة العقل» أن يبحث في الوجود بمعزل عن الموجود؟ فالوجود الخالص لا يمكن أن يكون علماً، وجريمته التي لا تغتفر أنه ليس موجوداً، والعلم لا يؤمن الا بما يمكن القبض عليه بكلتا اليدين؛ فالعلم كما يرى هيدغر، يعتبر الموجود كل ما هنالك، الموجود ولا شيء غيره، الموجود ولا شيء أبعد منه، الموجود وحده لا شيء فوقه ولا خارجه.
الوجود بوصفه لا شيء:
نجد كانط يشير صراحة الى أن اللاشيء مقابل لكل ما هو موجود، وهو مفهوم بلا حدس حسّي؛ ومن ثم فهو نومينا؛ إن المفهوم الذي يكون مقابلاً للكل والكثرة والواحد الذي ينسخ كل شيء هو لا شيء وهوموضوع مفهوم لا يتطابق مع أي حدس معروف ولا شيء، أي أنه مفهوم بلا موضوع.
ويقول المؤلف: «إذا ما قيل إن ما ينطبق على وجود الموجود ينطبق على الوجود؛ فالواقع أن كانط يفهم وجود الموجود على أنه وجود متتال في الزمان»، كما أن نصوصه التي تدل على أنه يفهم اللاشيء الخالص عديدة؛ فنراه يوضح أن من لا شيء يصدر لا شيء. إن هذا المبدأ ليس إلا مبدأ آخر تالياً لمبدأ الدوام، أو بالأحرى للوجود الدائم للموضوع، فهو يوضح أن اللاشيء لا يصدر عنه شيء. والواقع أن هذا الفيلسوف يرفض القول بالخلق من عدم ويعلّق على القضية التي تقول لا شيء يولد من العدم، ولا شيء يعود الى العدم. كان القدماء يربطون هاتين القضيتين ربطاً وثيقاً، والمرء الآن يفصلهما عن سوء فهم، لأن المرء يتصور أنهما عن الأشياء في ذاتها، وأن الأولى يجب أن تكون مضادة لتعلّق العالم بالسبب الأول للعالم، وحتى وفقاً لجوهره أيضاً وهذا الاهتمام غير ضروري؛ لأن الحديث هنا عن الظاهر في حقل التجربة فحسب. القضية إذاً تتعلق بالموجود ولا تتعلّق بالوجود واللاشيء الخالص.
عمانوئيل كانط فيلسوف أصيل تتلاقى في فلسفته دروب الفلسفة السابقة، كما تحوي فلسفته نواة الفلسفات اللاحقة. وتُعد فلسفته علامة فارقة في تاريخ الفلسفة؛ فقد أوضح للمرة الأولى أن العقل الإنساني ليس مطلق القدرة، بحيث لا يستطيع أن يوقف كل شيء أمام محكمته ليُصدر عليه حكمه؛ ويقضي عليه بما يرى بل إن العقل الإنساني له حدود وهي الظواهر، وليس بوسعه أبداً أن يتخطاها، وإلا وقع في التناقض. وهذا ما غفل عنه الفلاسفة طيلة تاريخ الفلسفة قبله.
وفيق غريزي