عمار أحمد الشقيري
أسف المترجم السويديّ جوناثان مورين في حوار نشر مؤخراً على موقع arablit على حال القارئ الإنكليزي "الذي لم يقرأ شيئاً لسليم بركات"، كما أسف على عدم وجود أعمال بركات في قوائم "البوكر"، العربية. أسفٌ يقرع باب السؤال عن مكانة روايات بركات التي تحظى بإشادات واسعة عند السؤال عنها، فيما يتم "تجاهلها" من الجوائز والنقاد والترجمة، نسبيّاً.
الكتابة بالعلامات
"لو رغبتُ في سهلٍ من السرد، وحيوات مبذولة في الشارع، كنت فتحتُ على نفسي، في الواقع الضحل للرواية العربيّة، المحطّمة الخيال والإشكال، سخاء من المديح والترجمة". بهذا يقدم بركات طريقته، وهدفه وضع "الإشكال" أمام القارئ. إشكالٌ لم يبرح موقعه منذ أعمال بركات، في الزمن، "فقهاء الظلام" والحبكة "ثادريميس" والمعنى "محاورات سجناء جبل أيايانو الشرقي"، والصورة "كائنات كهوف هايدراهوداهوس"، المختلسة الشكل بين الحصان والإنسان، وأقاليم الجن "الجنّ الجراد" من دون أن يسفر عن قول واضحٍ. يقول بركات في هذا الصدد: "لا أبدأ رواية بلا إشكال"، لكنّه إشكال بعلامةٍ لا يُمكن القبض عليه إلّا بقراءةٍ متأنية ومقابلة الصورة بخيالها (...)، أنا أحرّر الرواية من طابع الحكاية لتنقال إشارة، وفتنة إشارة، لتكون معرفة في مراتب الأحوال بسيطها ومركبها".
لكن الإشكال الأكبر سيكون في لغة بركات "الملغزة" المحتدمة، المتلاطمة التي ستقف حاجزاً أولاً في تناول رواياته بالنقد، وسبباً آخراً في أن يكون "العملة النادرة" "مُتجاهلاً، ظلماً في كثير من الدراسات المتخصصة، بحسب المترجم البريطاني بول ستاركي في كتابه "الأدب العربي الحديث". وفي الترجمة إلى الإنكليزية، حيث لم يُترجم بركات إلّا بشكل جزئيّ؛ في الدوريات وفي مختارات.
"السبب الأبرز، على صعيد اللغة الإنكليزية أو سواها في الواقع، يعود إلى خصوصية لغته العالية، ذات الطابع الاستثنائي والفريد أيضاً" يُرجع الناقد والمترجم صبحي حديديّ سبب العزوف عن ترجمة أعمال بركات.
هل تمارس لغة بركات على المترجم أي سلطة؟ بحسب حديدي في حديثه لنا، فإن معظم الراغبين في ترجمة أعمال بركات "وبينهم مترجمون متمرسون، أكثر انبهاراً بالنص، وربما وجلاً منه وإشفاقاً على أنفسهم، من أن يخوضوا في التجربة دون يقين كامل بأنّ حصيلتها سوف تكون مرضية ومشرّفة".
الملغز
للوهلة الأولى ستبدو، على مستوى اللغة، أعمال بركات "ملغزة" وفقاً لشيركو بيكا. س، لغة تستلف من الشعر تورياته وألعابه، لغة دفعت الكثيرين للتساؤل، أهذه لغة فائض أم جمالٌ؟ غير أنها لغةٌ شعريّة غير متكلّفة، وهو ما يقول بركات فيه خلال حوار مع كاظم جهاد في مجلة "اليوم السابع" عام 1989 "إن الشعريّ الذي يصاحب البناء المتخيّل لديّ هو برهاتٌ محضة في السياق الكبير، ولا أشغل نفسي به إلا بالمقتضى الذي تُشغل الرواية به نفسها". وبالنظر إلى معاجم اللغة سيكون استخدام بركات للمفردة في مكانه، من غير ثرثرة أو زيادة أو نقصان.
"امتلأت العراءات حول الهضاب الثماني في أرضِ ثاروس بالجثث، وتخاطفت العقبان اللحوم الممزقة، وتهارشت الكلاب فوق الأجساد، لا صوت غير صوت الحيوان في استجابة قلبهِ لنداء الدم حتى المطر هو الآخر كان ذا هطول أخرس". بهذا الوصف للمعركة التي انتهت بين شعبي هيكو ووثاروس والتي لم تُبقِ غير الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية يفتتح بركات روايتهُ ثادريميس.
"لنمتحن مفردين في هذه السطور الثلاثة من الرواية. لم يورد بركات: تقاتلت, تنافست, هجمت، الكلاب، إنّما استخدم "تهارشت" وفي لسان العرب تحت "المهارشة" نقرأ "والمُهارَشةُ في الكلاب ونحوها... والهِراشُ والاهْتِراشُ: تقاتُلُ الكِلاب".
وفي لسان العرب أيضاً وتحتَ جذر "خطف" نقرأ: الخَطْفُ: الاسْتِلابُ، وقيل: الخَطْفُ الأَخْذُ في سُرْعةٍ واسْتِلابٍ، وهو الفعل الأكثر دقةً لوصفِ هجوم العقبان على بقايا الجثث. فهل تعتبر هذه اللغة فائضاً؟ مع الأخذ بالحسبان أن بركات لا يشغل نفسه بها "إلا بالمقتضى الذي تُشغل الرواية به نفسها".
واقعية الشمال السوريّ
لم تغب الواقعية يوماً في روايات سليم بركات منذ "فقهاء الظلام" غير أنَّها واقعيةٌ تعمل في منطقة ذاكرة الأكراد في الشمال، حيث "دارت أعمال بركات الروائية حول بعث الحياة في ركام هائل من الشخوص والحوادث الخاصة بالذاكرة الشعبية لمنطقة "الجزيرة" السورية بصفة عامة، وذاكرة مواطنيها الأكراد بصفة خاصة وذلك قبل رواية أرواح هندسية 1987، وفقاً لابن المنطقة صبحي حديدي، واقعيةٌ لإدراكها يُمكن إسقاط جزء من آراء سعدي يوسف في شعر بركات على جزء من رواياته، حيث يقترح يوسف "مستلزمات" للقارئ لفهم بركات، منها معرفةٌ بشخصيّة سليم في الطفولة والفتوة المبكرة في تلك الجهة، مقترحاً سيرته "الجندب الحديدي".
على أن مسيرة رواية بركات الفنيّة وفي تقنيات السرد أو الأسلوبية "تطورت كثيراً منذ "السيرتان"، التي أعتبرها أول أعماله السردية. وسوى "فقهاء الظلام" ومرت في عدة محطات، حيث في وسع دارسه أن يرصد روايات اتخذت صفة منعطفات، الأمثلة الأبرز هي "الريش"، "معسكرات الأبد"، "أنقاض الأزل الثاني"، "الأختام والسديم"، و"أقاليم الجن"... بحسب حديدي.
خيال المفردة الطائر
لتركيب الصورة لدى بركات في لغته الروائيّة أرض بكر، ستنبعُ هناك في خيال الكرديّ وتلبس ثوب العربيّة من المعجم وتمزج بقدرٍ قبل خروجها للورق، "لقد عرفت معنى أن تكون المفردة شيئاً مغايراً لما تصوره المخيلة؛ فالريح بالعربية قد تعني الضحك بالكردية، مخارج الحروف هنا وهناك قد تعني مخاطبات فكيّة".
أما صور المخلوقات المختلسة الشكل بين الحصان والإنسان، والجنّ الحجر والجراد فهي نتاج مخيلّة تحاول الابتعاد عن طرائق ابن المقفع وحيوان الجاحظ، حيث يراها بركات "شاغلاً حيّزاً من الهواء الإنسانيّ والإنسان بدوره يشغل حيّزاً من الهواء الحيوانيّ لا كطبائع بل ككائن".
سيمزج بركات كل ذاك بإرث ووحي القرن التاسع العربيّ "إنني أكتب بوحي من القرن التاسع، بوحي روحي التي هناك، مشدودة إلى الغامض الذي هو عقل الحقيقة وتفاسيرها". وهو قرن لغة العلوم والترجمة من الفارسية والسريانية والكردية إلى العربية والتي تقدمت فيه لغة العلوم على لغة الأدب.
إرث ثقيل على الجوائز
بهذا الإرث الثقيل كمّاً؛ إذ استقرَّ إنتاج بركات في الرواية منذ "دلشاد": فراسخ الخلود المهجورة 2003 وحتى العمل الأخير "سبايا سنجار"، 2016، بمعدل رواية في كل سنة، وبمجموع روايات بلغ 23 رواية، وكثافةً، حيث يتواصل صقل المفردات بأحجار اللغة الكريمة، دون حبكة تشبه أخرى، لا تكرار، و لا ناسخ أو منسوخ. وبخصوصية الشمال الكرديّ، تتواصل الإشارة إلى بركات على أنّه "عملة صعبة" يكتب بلغةٍ "لا تشبه لغةً قبله". لكنَّ تكريماً – إن اعتبرنا الجوائز كذلك- لم يحصل عليه بركات كما يليق، رغم تأكيد ناشر معظم أعمال بركات (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) ماهر كياليّ في حديث لنا أن الدار ترشح أعمال بركات للجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" في عدة دورات، مضيفاً أن الدار أيضاً سترشح "سبايا سنجار" للدورة المقبلة.
في هذا الجانب، سيكون لحديدي رأي آخر مفاده أنَّ "الجوائز لم تكن في أي يوم معياراً للحكم على قيمة الأدباء والآداب، وأشك شخصياً ـ مع احترامي للجميع ـ في أنّ عضو لجنة التحكيم المعياري، في معظم الجوائز العربية التي في ذهنك وذهني، يستطيع فعلاً إتمام رواية من بركات، أو مجموعة شعرية، ويخرج بتقييم موضوعي لها، فيكتب تقريراً مُحْكَم الحيثيات، نقيّ الضمير ومستقر الرأي".
تحمل كل دورة تصريحاً للقائمين على الجائزة العالمية للرواية العربيّة تركيزاً على سمة الروايات المختارة في القائمة الطويلة، حيث "تعبر عن آنية الحدث وتجاوزاته لسياقاته في الساحة العربية بمآلاتها المترامية من المحيط إلى الخليج". وهي سمة لم يجدها محكمو الجائزة بدوراتها العشر في أسلوب بركات كما أرادوها ظاهرةً، سمةً تتشابه فيها الأعمال التي تصعد للقوائم وتستثني أعمال بركات، غير أن "سبايا سنجار" ستحمل جزءاً من "آنية الحدث" هذه، وبدفقة أكبر من أعمال بركات السابقة، إذ يدور جزء كبير من الرواية حول سبي تنظيم الدولة لخمس فتيات أيزيديات، كما تسخر الرواية من فقه التنظيم في العراق وسوريّة.
"نعم روايات سليم بركات مرغوبة ولا سيما من نمط مثقف من القراء". تلك هي مقولة الناشر كيالي عن أعمال بركات، بالإضافة إلى ذلك سيكيل الجميع المديح لأعمال بركات، في وصف معجمه، عوالمه، عزلته ومهارته، لكنَّ نقداً كالذي حظى به روائيون عرب ومجايلون له لم يعرف الطريق لأعمال بركات الروائيّة، كذا حال الترجمة، باستثناء ترجمات فردية للفرنسية والإسبانية، لم يتنجز للآن ترجمة كاملة لأي عمل من أعمال بركات الروائيّة للغة الإنكليزية. وفقاً للسويدي جوناثان مورين.
خيارات بلا مساومة
"لم أُساوِمِ التَرجمةَ على لغةِ خيالي. قَدَري هكذا صعبٌ في قضاء الكتابة حتى الإيمان أنني، مُذْ كتبْتُ السطر الأول، تخيَّرتُ لنَفْسي خساراتٍ لا تحصى في الترجمة، التي كنت سأستعرض منها كتباً موفورةً على الرفوف في بيتي". يقول بركات عشية الإعلان عن نوبل للآداب في إحدى السنوات. وهو ما يؤكده السويدي مورين في حواره المنشور مؤخراً "لقد حاولت ترجمة واحدة منها أكثر من مرّة على مدى سبع سنوات، ولم أملك في النّهاية سوى الاستسلام. لقد كانت الترجمة غير ممكنة". غير أنّه استطاع، كما استطاع المترجم تيتز روكي ترجمة أعمال لبركات إلى السويديّة. (أرواح هندسيّة – الريش- موتى مبتدئون- كهوف هايدراهوداهوس) كما استطاع إيمانويل فرلي ترجمة الريش للفرنسيّة.
أما حديدي فيرى أنَّه "وإن كان نصّ بركات شاقّ، وقد يكون بالفعل عصياً على الترجمة في الحدود الكافية للأمانة، ولكنه ـ مثل أيّ نص، بلا استثناء ـ ليس مستحيل التناقل بين اللغات".
عن ترجمة الروايات سيقول بركات "عرقَتْ قلوبُ المترجمين في إنجازها، بجهدٍ أخلاقيٍّ في المقام الأول الذي لا مقامَ بعدهُ، وبعنادٍ أيضاً، لأنَّ صفحاتٍ قليلة منها استغرقتْهم ما يستغرقُ مترجِماً كِتابٌ عربيٌّ من عيارٍ ثقيل الورق".
على لسان الترجمان الكردي من السريانيّة في رواية فراسخ الخلود المهجورة، سيقول دلشاد "المعاني شطرنج، وزَّع التدبير المحيّر كل حجرٍ من حجارتها على لغة". وعندما يسأل دلشاد الترجمان الشيخ جرجو عن سبب حبّه للترجمة من التركية والعربية والفارسية والكردية واليونانية سيجيبه الشيخ" أحببت تقبيل الدنيا بأكثر من فمّ".
عن ضفة ثالثة (العربي الجديد)