-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رواية «هيمَن تكنّسين ظلالك» للروائي جان بابيير (الإهداء - الفصل الأول)


 

 

حدود الدم! 

هل من الممكن أن تكون الاتّفاقيّات شهادات للحروب العالميّة؟ أهي بطاقة تشرعنُ قطع الطريق والإشارة في أوج شهوتها؟ دوماً كانت تلك الصبيّة الحسد الأشهى والأكثر إغراءاً للاغتصاب، كانت كردستان الأكثر إثارة دوماً للاقتطاع، من جالديران إلى سايكس بيكو، من ألف وخمسمائة وأربعة عشر إلى ألف وتسعمائة وستة عشر، يوم امتدت يد الاغتصاب غير المشرعن أمام ناظر التاريخ الذي يخفي عينيه بلحيته المصبوغتين بدماء الغدر.. سايكس بيكو اسمٌ بُعث من جديد في الآونة الأخيرة، تلك الاتّفاقية التي اقتضت إجراء عمليّة تجميل لجغرافيّة المنطقة، كان أشهر جرّاحيها مارك سايكس المستشار الدبلوماسيّ البريطاني و فرانسوا جورج بيكو السكرتير الأوّل في السفارة الفرنسيّة في لندن ، حيث قسّما تركة الدولة العثمانيّة بعد انتصارهما في الحرب العالميّة الأولى؛ لتصير المنطقة مقسّمة لثلاثة أقسام: المنطقة الزرقاء والتي تدار بالكامل من السلطات الفرنسية وتشمل سوريا و لبنان، المنطقة الحمراء والتي تدار من السلطات البريطانيّة وتضم العراق واردن ، المنطقة السمراء ( فلسطين) و تخضع لإدارة دوليّة.

اقتُسم رحم العذراء، وزُرع فيها أربع نطفٍ حرام. قال قاضي محمد رئيس جمهورية مهاباد معادلته الجبرية الغريبة "ان اثنين زائد اثنين لا تساوي اربعة بل واحد" في إيمانية صوفية؛ ليشخّص وضع كردستان المنهوشة من قبل الضواري. كلّ هذا اليوم ينهمر على ذاكرة الشعوب من جديد، سايكس بيكو أخرى على وشك الولادة بعدما طال شيب الأخرى وعجزها، والمثير للتساؤل: أهي صدفة اشتعال المنطقة بالكامل مع اقتراب نهاية مدّة سايكس بيكو، أم إنّ ما يجري مخطّطٌ له؟ هذا لا يهمّ، ما يتوجّب التركيز عليه، ماذا سيكون دور الكرد هذه المرّة؟ هل عرف الكرد سرّ التحوّل إلى مخلوقاتٍ حبريّة ليطبع اسم كيانهم على ورقٍ سيغيّر ملامح المنطقة بسايكس بيكو جديد؟ هل الدعم الذي يناله الكرد في غربي كردستان تهيئة على الأرض لمشاريع جديدة، أم إنّها إشعال للفتن ليطول عمر الأزمة وتتحول المنطقة لرماد؟ هل الكردي سيكون كالعادة ذاك المقاتل المغوار الفاشل في السياسة؟ بالمقابل، خرجت شخصيّة كرديّة تستمدّ القوّة والجرأة للقول: الحدود أُزيلت بالدماء، سايكس بيكو لم تعد موجودة!! هناك احتمالٌ قويّ أن نشهد إعادة إعمار تخطيط للحدود الحاليّة في السنوات المقبلة " هذا ما صرّح به الكثير من المنظرين فيما يتعلّق بالحرب السوريّة التي تجاوزت كلّ الحدود. بعد تورُّط القوى الخارجيّة المتعددة فيها انفتح المشهد على الخيارات قاطبة.

تدور أحداث الرواية على هذه الأرض المتفجّرة؛ لتصل شظاياها إلى أماكن أخرى أبعد. وحول هذه المدينة التي تهدّمت ومعها انهارت جدران الروح، إلّا إنّني كنتُ أبني كوباني لبنة، لبنة، جداراً، جداراً؛ لآوي الفارّين من الحرب بين دفّتي الكتاب، كما كنت أرمّم روحي من الداخل، وأتعمّد بالفاجعة. أكتبُ سطراً، أعبّدُ شارعاً، أظلّلُ حيّاً، أروي نصّاً؛ لأروي حيواتهم الفارّة من وباء الطاعون، وأسرد فصول القيظ والتشرّد، وأرتّب بين الفاصلة والتعجّب جمل الحب، وأجزم أنّ الحب نبتة عنيدة تقاوم شظف العيش في أقصى البيئات المطاردة، وينمو بين الدم والخرائب.

مَنْ يعالج جراحنا العميقة بعد السقوطِ؟ من الذي يعيد لفراشة الحبّ الطيران ويحرّر جناحيها المكبّلة بالصدأ؟ من يزنّرُ خاصرة النصوص بعد أن خلع الكلام وزنه؟ من الذي يُسعِفُ الضمّة حين تُكسَرُ زوراً، والسّكون حين يُفتَحُ غصباً واغتصاباً؟ ليلة أمس، رأيتُ الصّمت الذي يسكنني مترنحّاً في الأزقّةِ بحثاً عن فسحةِ بياضٍ على ورقةٍ لم تغتصب اللّغة السّفيهةُ عذريّتها بعدُ كما تلك الأرض، وأدري أنّي رميتُ في إحدى زواياها بذار حبري كما سال الدم، هكذا ستنبت الشخصيات وتنمو ملامحها، لتنكمش مجدّداً على نفسها، لتتكوّر صرختي في الصّمت. ولا تعجبوا من أن يغتصب التّأنيث تذكيراً، لمَ لا ما دامت الأشياء خرجت منذ زمنٍ عن هويّتها في نهاية المطاف لتستوطن في مواطن الانزياحات الفاسقة؟ لذا بدأتُ بتدوين كلّ هذا، ماذا لو كان بإمكاني أن أكتب بصوت وصورة ورائحة لكنت جمعت أكثر من حواسنا؟ وأثبتُّ هنا شهادات حيّة من المجزرة والهجرة وجب أن تكون بعض الأسماء كما أسماء الأماكن والشخصيات حقيقية وأخرى طالها التغيير، أضفت شيئاً من الخيال؛ لتكون على مقاس ظلال الوجع المنبثقة من لحمنا، فقط تألمت قبلكم الى حد التخمة، وعطبت سيكولوجيتي تماماً وبيدي جُمَلي مسحتُ العبرات من عينيّ، ولا أعتذرُ عن كمّيّة الألم التي سأسبّبها لكم، قارئاتي وقرّائي الأعزّاء!                                                

 

 

سرّة في المدرسة

 

كانت السماء تمطر زخّات خفيفة، وتتقلّب الأجواء بين الشمس والغيوم المحمّلة بقليل من الغيث، وعيشانه في الداخل مضطجعة وتتّكئ على وسادة سنينها الخمسين، امرأة جميلة ممتلئة بالحياة ومفعمة بالنشاط، قابلة قانونيّة، وتعالج الثآليل، وترفع عصعص النساء والرجال المحرّمين عليها، وتثقب آذان الفتيات من أجل وضع الأقراط، وبما إنّني كنتُ الأصغر ولم تنجب بنتاً فقد ثقبت أذني اليسرى ووضعت قرطاً لي أيضاً.

في الساعة الرابعة مساء كنتُ أتابع إحدى المباريات، سمعتُ طرقاً، لم أتحرّك من مكاني، وبّختني عيشانه:

-اذهبْ وافتح الباب يا نغل! ألا تسمع الطرق؟ انظرْ! من القادم؟

 ضقتُ ذرعاً بها عندما شتمتني، لكنّي مضيتُ على مضض، وعندما فتحت الباب كان أحمو كنك .

-هل عيشانه بالبيت؟

-نعم!

-أخبرها أن زوجتي مريضة.

فخرجت عيشانه من الغرفة، وسلّمت عليه، وقال أحمو بصوت خافت:

-ستلد زوجتي

 ثم دخلتْ إلى غرفتها، وارتدت عيشانه (خفتاناً)  بأرضيّة سوداء ونقوش بيضاء صغيرة و(برفانكاً)  أسود فوق فستانها الحليبيّ على عجل وذهبت معه، بعد أن حملت حقيبة قماشيّة صغيرة تحتوي على معدّاتها من مقصّ وشفرة وخيطان للولادة.

ما إنْ دخلت عيشانه إلى غرفة بريشان كانت تنتظرها صديقتها ايمو، فحملت الشرشف عنها، وكانت حبيبات العرق تتجمّع على جبهتها وهي تئنُّ من آلام المخاض، نظرت ايمو إلى بطنها قائلة:

-إنه ولد!

ردّت عليها عيشانه بالنفي.

-بل بنت وهذه ليست أوّل ولادة أقومُ بها، نصف ولادات هذه المدينة تمّت على يديّ؛ إنّ استدارة البطن وتكويرته تدلّان على أنّها بنت، وتسطّحه يعني أنّه صبي.

كانت بعض النساء الأخريات حولهما، وهي متمدّدة على ظهرها.

-لا تخجلي بريشان! افتحي قدميك أكثر! واقتربت منها، تلمّست بطنها، ثمّ مدّت يدها تحت سرّتها، ووضعت إصبعها في فرجها للتأكّد من نزول الجنين. 

أشارت عليها أن تفتحهما على شكل زاوية منفرجة كانت برو  تئنّ وتكزُّ بأسنانها بقوّة على وشاح رأسها، وعيشانه تشجّعها:

-هي ادفعي أكثر ...أكثر.. بقوّة! اكتمي نفسك واضغطي!

اتجهت نحو ايمو قائلة:

-هاتي ايموش  الماء الساخن!

وأشارت إلى امرأة أخرى:

-هاتي خرقة ناشفة! الولادة عسيرة، لكنّك شابّة، بقوّة أكثر ادفعي! إنّها ولادتك الأولى.

-الحمد لله! خرج الرأس، إنّي أراه، دفعة أخرى؛ لكيلا يختنق الجنين.

هاتان اليدان اللتان أخرجتا رأس هيمن إلى الحياة كم كانتا تغسلان رأسي! ومن أين كانت تدري أنّ هذين الرأسين سيلتقيان على وسادة مليئة بالأحلام والدم؟!!

ومع صرخة رأسها وخروجها من ظلمة الرحم إلى ضياء الحياة صرخ أحمو من خلف الباب:

-(بنت ولا صبي)؟

- (بنت بنت متل القمر)!

والتفتت عيشانه إلى ايمو:

-ألم أقل لك: إنّها بنت (إيبسزه)  أعطيني الخيط!

ربطت الحبل السرّيّ، وقطعته بشفرة، فابتسمت النسوة جميعاً لشتيمتها. 

 من خلف الباب قال أحمو:

-ام بوزان سمّوها هيمن، هيمن لكيلا تصرخ!

وعندما استفسرت عيشانه عن الاسم ومعناه قال:

-إنه اسم صديق من السليمانية كان معي في إيران، ويعني الهدوء والسكون.

استغربت النسوة من الاسم، وردّت عيشانه:

-فليكن هيمن!

 وقرأن البسملة في اذنها.

ووضعت المشيمة في كيس بلاستيكي قائلة لايمو:

-ادفنوها جيداً.

ثمّ غسلت الطفلة ولفّتها بالقماط، ملأت فناء الدار بالصراخ والبكاء، ومدّتها إلى أمّها، فأخرجت برو ثديها الأيسر؛ لتلقمها في فمها، فصمتت وأكلت بنهم. كانت تبدو على عيشانه وكأنّها تدير عمليّة حربيّة، وليست ولادة امرأة، اذ كانت توزّع المهام، وتعطي التعليمات بصرامة ودقّة. زغردت النساء بسلامة بريشان والمولودة، وكانت فرحة أحمو كنك لا توصف، إذ إنّها أخيراً ستذعن برو في البيت، ولن تفكر بالماركسيّة والنضال والصراع الطبقيّ، ولن يحدث الطلاق الذي كان يهدّد عشّ الزوجيين. كانت برو التي ارغمت على الزاوج من أحمو كنك ترفض في دخيلة نفسها هذا الزواج الصوري؛ إذ كانت هي الأخرى من الفتيات اللواتي أعطين قرارهنّ للقائد بعد أن تلقّت دورة تدريبيّة في إحدى معسكرات الحزب في البقاع اللبناني، إذ إنّ عقلها المتفتّح آنذاك كصفحة بيضاء قد تشبّع بالنضال والثورة، وتعرّفت أوّل مرّة على تشارلز داروين وأجدادنا الذين نزلوا من الشجر، وفقدوا ذيولهم لنجلس نحن على الكراسي! أمالت رأسها وهي تبحث عن الأيّام التي كانت تقود فيها فصيلاً عسكريّاً في معسكر بجنوب لبنان، وكيف كانت تدير منطقة في الفعاليّات التنظيميّة؟ وبدأت تفكّر أكثر في حياتها الغامضة، وكيف إنّ إخوتها أجبروها على الزواج من أحد أبناء عمومتها؟ فهذا أفضل من أن تلحق بالحزب في الجبال وهي كانت هنا تخوض حربها، كيف ستقبل برجل وهي التي كانت لمدّة طويلة السلطة؟ ويقول لها: هيّا اعملي قهوة وطبخك غير ناضج!

بهذا الزواج تجرّدت من كلّ نفوذها؛ لتعود الى طاعة العشيرة والمجتمع الذكوري، وخسرت حسن حظّها، وربحت سوء طالعها، وكانت تفكر بينها وبين نفسها: هل كنتُ أبيعُ الأكاذيب للناس طوال فترة نضالي،

إلّا إنّها كانت السمكة الكبرى؛ ليقدّموها على مائدة القربى، الآن أصبحت أمّاً، وفقدت كلّ أحلامها بالحرّيّة.

وعندما خرجت قال لها أحمو:

-ابشري أم بوزان اطلبي ما تشاءين.

-أعطني حقي، فقط قالب صابون غار لأغسل يدي بها.

هذا كان سعرها الرمزيّ.

حدثت هذه الولادة عام 1990 شهر آذار يوم 25 ولدت تحت برج الحمل.

 ولدت هيمن بتشوّه خلقيّ بعد الإجهاض الفاشل لأمّها، بستّ أصابع في مشط قدمها اليسرى كقدم البطّ متلاصقة معاً. بعد ستّة أيّام يبس الحبل السرّيّ، قطعتْه عيشانه ووضعت موضع السرّة قليلاً من الكحل، وناولت أحمو السرّة الملفوفة في قطعة قماش أبيض قائلة له: وهي تبتسم وتنظر خلفها إلى برو التي كانت تشد رأسها بعصابة مزركشة وهيمن على صدرها:

-ارمِ سرّتها في مدرسة البنات؛ لتكون آنسة، والآنسة بلغة أم بوزان تعني معلّمة مدرسة.

لكنّها كبرت بعبقريّة ذات فكر متّقد تشبه قصيدة حديثة، بنيانها كان متكاملاً عضويّاً.

أعتقد أنّ توقيع الشاعر الخالق الفاشل في تشوّه مشط قدمها أجمل شيء فيها، وأحبّه أكثر من كلّ أعضاء جسدها، إلّا إنّها كانت في داخل نفسها تجده بشعاً؛ إذ إنّها دائماً كانت تخفيه عني في جوربها، وأنا لا أنفكُّ ألثم قدم البط تلك بعناية فائقة وحبّ طوعيّ.

تعديل المشاركة Reactions:
  رواية «هيمَن تكنّسين ظلالك» للروائي جان بابيير (الإهداء - الفصل الأول)

Şan

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة