-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

لعنة المسبحة





محمد رمو



كانت أميّ ذات صيتٍ كبير في منطقتنا، ولن أبالغ في أنها كانت أشهر من مدير المنطقة ورئيس البلدية وكلّ الشخصيات الاعتبارية المرموقة؛ وذلك لامتلاكها مسبحة طويلة تجمع حوالي أربعمائة حبّة سوداء، هي ذكرى جميلة ورِثتها عن جدّتي الصوفيّة.



     لقد كان بيتنا آنذاك مقصد النساء من كلّ حدبٍ وصوب. نساء نعرفهم وأخريات لم نراهم في حياتنا، كلّ يريد المسبحة، وما أكثر المعارك التي نشبت أمام باب الدار بقصد اقتناء المسبحة في المآتم، والولادات، قبل سلوك الحجّاج طريق الحجاز، وعند ترجّل أحد شباب المنطقة إلى خدمة العلم!



قالت لي ذات يوم:

-         يا ولدي: هذه معجزة، هي يد الإله المخفيّة في دارنا، لردع البلاء.



هو نفسه الموقف الذي بسببه شبّ خلاف بينها وبين أبي، الذي كان يطمع أن يستغلّ إعارتها لأغراضه الماليّة؛ وهذا ما رفضته أمّي مِراراً وتكراراً.



     لكن! هذه الشهرة لم تدم طويلاً حينما تركنا المنطقة، وسافرنا إلى حلب، أقمنا في بيتٍ صغير في حيّ الشيخ مقصود، على تلك الهضبة التي كانت تسمّى الجبّانات؛ هناك لم يرقْ لأحد أن يستعير المسبحة؛ طبعاً لم يكن يعلموا أن أمّي تمتلك واحدة مثلها.



     فكّرت أمّي أن تعيد مجدها وألقها؛ فأينما حلّت كانت تتحدّث عن امتلاكها لمسبحة طويلة، كلّ حبّة منها كانت تلمع مثل عين الغزال، صلبة كأنها مصنوعة من العقيق، خيطها متين أشبه بوتر العود، مصفوفة بانتظام حبّاتها الأربعمائة.



     بدأت تنشهر رويداً رويداً، حينها هبّت الحرب في البلاد، كانت حلب بمنأى عن تلك الشرارة الأولى، لكن المعطيات كانت تُشير إلى أن هناك انتفاضة عارمة ستجتاح المدينة عمّا قريب، أصرّ أبي أن نتركها، ونعود إلى مدينة كوباني، وبالفعل بعد فترة وجيزة حملنا أمتعتنا الضروريّة على ظهر الحافلة واتجهنا صوبها.



     كوباني لم تكن قد تغيّر فيها شيء يُذكر، باستثناء عودة دخلاء من أمثالنا ممّن كانوا ينحدرون من المدينة، لكنّهم كانوا يقطنون الرقة وحلب...



     في اليوم الثاني من إقامتنا أدركت أمّي أنها نسيت شيئاً مهمّاً في حلب. ارتبكت كثيراً، ولطمت نفسها؛ لأّنها تركت ما لا يُترك ضحية لأنياب حرب مفترسة.



     في الأسبوع الأول كان كلّ شيء على ما يُرام، لكن مع بداية الأسبوع الثاني سقط أخي الصغير من على حوش المدرسة وانكسر عظم قدمه.

-         هذا إنذار من غضب المسبحة. «قالتها أمّي وكلّها ريبة».



ثمّ تلي ذلك وصول خبر طرد أبي من الوظيفة.

-         إنها تلعننا يا بُني!

وبعد ذلك، هوت سجّادتنا الكبيرة بفعل الريح من سطح دارنا.

-         إنها لعنة المسبحة.

قُطع الماء...، وحتّى ماتت جارتنا المسنّة بعد أن تجاوزت أعمار أهل الكهف.

-         إنها لعنة المسبحة.



     فكّرت أن أجد طريقة أزيح بها هذه الجملة من فاهها، فقرّرت السفر إلى حلب لجلب تلك المسبحة. منعني أبي، لكنني أصرّيت أن أعود إلى حلب، بعدما تحجّجت بكتب جامعيّة لي تركتها هناك.



     كان بالتحديد في شهر آب، حينما سمعنا عن تشكيل أول حراك مسلّح في حيّ صلاح الدين، كذلك كانت الأوضاع في الجامعة غير آمنة، خرجت مظاهرات في كلّ من الصاخور والشعّار والقاطرجي والمرجة والفردوس...، وبضع أحياء أخرى.



     أمّا بالنسبة للريف، فكان خالٍ تماماً من القوات الحكومية، كلّ منطقة تحمي نفسها بنفسها.



     الطريق على جسر «قرقوزاق» كان منعشاً عند الصباح، صوت النوارس، وذاك المشهد الزرقاويّ الطاغي على المكان أضفى عليه سكينة روحية، كلّ المسافرين عند تلك النقطة بالتحديد يزيلون النُعاس عن أعينهم ويفتحون شبابيكهم.



     لأول مرّة كانت النجمتان من على مدخل ومخرج ذلك الجسر غائبتين، ثمّة رجال آخرون يوقّفون السيارات ويستفسرون عن الهويّات، عندما اقتربنا، قالوا للسائق من باب المداعبة:

-         «كرمانجو»(1) تفضلوا خالي تفضلوا...



    كانوا لطفاء جدّاً، وكذلك في منبج والباب، حتّى وصلنا إلى الشعّار حيث هناك المحطّة الأخير.



     قلت لنفسي، قد يكون هذا اللقاء هو الأخير، لذا عليّ أن أشبع من حلب، ركبت الباصّ الأخضر، أو ما كان يُسمّى «دائري شمالي»، لم أعد أتذكّر ثمن التذكرة، دفعت للسائق خمسين ليرة، ليعيد لي خمسة وأربعين ليرة.



     غارَ الباص في أحياء حلب المخيفة، الصاخور، الميدان، السريان، المحافظة، وصولاً إلى الجامعة، بعدها عادت أدراجها من حيث أتت.

عند طلعة الجبّانات، قلت للسائق «أنزلني هُنا»، ففعل.



     تسلّقت بصعوبة إلى حيّ الشيخ مقصود، دخلت حارتنا، لم يكن قد تغيّر شيء منذ مغادرتنا لها منذ ستة أشهر، دخلت البيت، كان كما هو سوى الغبار الذي اعتلى المكان، بحثت في بُقجة أمّي فرأيت المسبحة، ابتسمت وقلت:

-         لنرى الآن يا أمّي بماذا ستتحجّجين.



     عدت إلى مكان صعود الناس إلى الباص، ركبتها مرّة أخرى، لم أكن أريد أن أقتني شيئاً من حلب سوى أن أعود بالمسبحة.



     عند «الكراج الشرقي» قطعت تذكرة أمام النافذة التي كُتب في علوّها «حلب – عين العرب»، ورحت أنتظر انطلاق «السرفيس»، اشتريت سندويشة فلافل، والتي كانت محشوّة بكلّ شيء إلّا الفلافل، صرت أتجوّل بنظري في أرجاء الكراج، كان مفعماً بالإضاءات التي تحبّذ الناظرين للاقتراب منها.



     فجأة! اعتلى صوت رجال مهرولين، طقطقة رصاص عبّت المكان، خفت كثيراً، حاولت الاختباء ولم أكن أعرف ماذا حدث بعدها.



     في غفلة منّي رأيت أمّي تحمل المسبحة، وقد وصلت إلى الحبّة الخامسة بعد المائتين، تقرأ تعويذات واستغفارات وآيات قرآنية، كانت تبكي على جثّة باردة، هي جثّتي...، فتقول:

-         إنّها لعنة المسبحة.






(1) كرمانجو: أيّها الكوردي.
الاسمبريد إلكترونيرسالة