بوزيان موساوي – المغرب / خاص سبا
(الجزء
الثالث):
قاربنا
في الجزء الثاني من هذه القراءة للمجموعة القصصية «ساعدونا على التخلص من الشعراء»
لمصطفى تاج الدين الموسى تيمة الموت... والحرب موت أو انخراط في الموت الذي
يترصدنا في أي وقت، كما في حكاية «الرصاصة الطائشة» في مسرحية «عودة النورس»
للدراماتورج الروسي تشيكوف.
بيد
أن الموتى في هذه المجموعة القصصية لهم مواصفات خاصة وجدّاً معقدة. صحيح أنها مجرد
(كائنات من ورق) من خيال الكاتب المبدع قد يُصنّفها القارئ المتمرّس ضمن الأدب
الغرائبي – العجائبي، أو مجرد شخصيات كارتونية روّجت لها أفلام الرعب الهوليودية،
لكن وحتى في كلا الحالتين، ورغم التأثر الواضح للكاتب بما أفرزته الحروب في أوروبا
والعالم من أدب وفنّ، يعيد لنا مصطفى تاج الدين الموسى كتابة نفس اللازمة:
«للحرب أعاجيبها التي تعجز العقول على استيعابها، ومن عاش في مدن الحرب
يدرك هذا الشيء تماماً» (ص. 11) (...) «قد أيقن أن هذه الحرب مجنونة، لكنه لم يتخيل
أبداً، أن جنون الحرب سوف يجعل من الجثث سعاة بريد، لنقل الرسائل بين حارات الحرب
في هذه المدينة المنكوبة، حتى الخيال يعجز عن اختراع مثل هذا الجنون، الجثة الآن
هي ساعي بريد، والرسالة داخلها! كأن للخيال حدوداً في الغرابة، أما في الحرب فلا
حدود للغرابة...» (ص. 16). قصة «أشياء لا
تستطيع السماء أن تحكيها للبشر».
هي أعاجيب
فعلاً، لكن ليس فقط كمطايا ألهمتْ أدباً وفنّاً راقيين، بلْ كمنافذ أو عنبات ممكنة
لإعادة طرح أسئلة ذات بعد إبستمولوجي محض:
· هل أدب الحرب في تمظهراته الغرائبية – الفانتاستيكية من
خلال هذه المجموعة القصصية مجرد إعادة إنتاج للسؤال السفسطائي – الفلسفي – الميتافيزيقي
عن سلطة القدر كما في جدال الفرق الكلامية التي عرفها الفكر الإسلامي (معتزلة، أشاعرة،
لا أدرية، مرتجئة...)، وفي طروحات فلاسفة الأنوار كديدرو في روايته «جاك القدري وسيده
Jacques le fataliste et son maître»، وفولتير في قصته «الساذج Candide»؟
ومن
هنا التعتيم الذي قصده مصطفى تاج الدين الموسى متعمداً من خلال عنوان نفس القصة – المفتاح،
أي قصة «أشياء لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر»، قد يظن المحللون أن هناك إحالة
على نوعين من الأدب العرائبي – العجائبي:
أ – نوع
ذو توجه ديني يفسّر بعض الأمور الغريبة بنصوص وقصص مذكورة في كتب سماوية، يتحكمّها
سرّ إلهي هو القدر والمعجزة ووجود كائنات أخرى، كالجن والشياطين...
ب – نوع
ذو توجه فلسفي – علمي يعطي تفسيرات لها مرجعيتها في الفلسفة الوجودية، أو في
التيارات العبثية، ومنها السريالية، وفي علم النفس التحليلي...
· هل من وظيفة أدبية أو سياسية أو إيديولوجية أو إنسانية
صرفة للرسائل التي تعمد الكاتب مصطفى تاج الدين التكتم أو التعتيم على فحواها من
خلال عدة قصص تنتمي لنفس المجموعة؟
مثل
ما كان يدونه كل سكان القرية قبل وفاتهم في قصة «دفاتر أحلام الموتى»، ورسائل الحب
التي كان يبعث بها الحارس الليلي في قصة «أقدار كئيبة في دار العجزة»، والرسائل
التي كانت محشوّة داخل جثث موتى عادوا إلى الحياة في قصة «أشياء لا تستطيع السماء
أن تحكيها للبشر» وغيرها من القصص.
لا
يعرف القارئ فحوى هذه الرسائل، ليس لأن عنصر التكثيف المُميّز لجنس القصة القصيرة
يمنع ذلك، أو لأن الكاتب وهو الرب الخالق لشخصياته الورقية، والعارف بالبدايات والنهايات،
تعمّد ذلك؛ لاستفزاز فضول القارئ، أو لأن نمطية الكتابة السردية الأدبية العبثية
لدى مصطفى تاج الدين الموسى تأثرت بكتابات بريخت وكافكا وإدغار بو، في نفس السياق،
بل لأن الظرفية التاريخية والسياسية والاجتماعية الخطيرة التي تمر بها سوريا هنا /
الآن وباقي بعض دول المعمورة، ما عاد بإمكان لا الدين ولا الفلسفة ولا العلوم
تفسيرها. من هنا التعتيم، أو اللا تفسير.
· ما دور الماضي في الحاضر من خلال هذه المجموعة القصصية؟
في
عدة قصص من المجموعة يعود الماضي ليسكن الحاضر على شكل إمّا ذكريات (Souvenirs) على شكل مشاهد كما في الكثير من السيّر الذاتية الأدبية قصصاً
كانت أو روايات، أو على شكل ومضات (Réminiscences) كما الشأن في رواية البحث عن الزمن الضائع
لمارسيل بروست.
صور
ومشاهد وومضات تحييها «نوستالجيا» – حنين لماضي شعاره الاستقرار والحب والدفء والأمان
قي كنف أسرة تعيش خارج بؤرة التوتر والحرب والدمار...
في
قصة «مَن طردني من صوري القديمة» يغيب الماضي عن الحاضر، يتبخر، لم يعد لصورة يطل
القصة وجود في ألبوم العائلة، والسؤال هل البطل – الحاضر هو الغائب أو المُغيّب
فعلاً، أم الماضي هو الذي اندثر بموت أفراد الأسرة الذين ما تبقى منهم غير مجرد
ذكرى صوّر؟ وهل الماضي كله في حاضرنا مجرد ألبوم صور نحمله في حقائبنا للذكرى ونحكيه
كما قصائد الأطلال والغزل؟
وفي
قصة «العين الساحرة في الباب الخشبي» (كما تمّت الإشارة للموضوع سابقاً في هذه
القراءة) يرنّ جرس الباب، لا أحد خلف الباب تُخبر العين الساحرة التي تتحوّل
بقدرة قادر (بخيال المؤلف) بفانتازما الشخصية لما قد يشبه شاشة تستعرض مشاهد على
شكل ومضات من طفولة البطل في أحضان أمه، الأم البيولوجية، أم الأم (الأرض – سوريا)؟
في
كلا الحالتين، مَن كانوا يدقون الباب، والشخصية في حالة انتشاء بسبب الخمر (الغياب)
فقدان الوعي، كما طارق يشبه عزرائيل قابض الأرواح، يحمل رسالة نعي: موت الأم.
في
هذا السياق، لا يموت الماضي إلا بسبب الحاضر؛ لأنه (الماضي) لا وجود له حقيقة إلا
في ما نتذكره هنا / الآن...، إن توقف المخ عن الاشتغال الآن، فلا ذاكرة ولا ماضي،
وفي قصص مصطفى تاج الدين الموسى مآسي الحاضر تقتل كل ماضي محكوم على ذكرياته
الجميلة أن لا تعود.
ومن
هنا ينتقل القاص مصطفى تاج الدين الموسى أحياناً على مستوى القصة الواحدة أو عبر
قصص المجموعة من العبث الغرائبي – العجائبي إلى السخرية المستفزة كما في كتابات
برنار شو. ولعلّ أبلغ مثال نموذجي لهذه السخرية ما جاء في قصة «ساعدونا على التخلص
من الشعراء» (وهي كذلك عنوان المجموعة)، مواصفات غريبة اختارها الكاتب للشعراء في
هذه القصة، يبدون بزيّ موحد وغريب بقبعات، ولا يشربون الخمر خلاف كتاب القصة.
مواصفات غريبة حقاً؛ لأنها تشكل انزياحاً ومفارقة تجاه التمثلات المختلفة والمتعددة
التي تراكمت لدينا عن الشعراء باختلاف وتعدد الإطار المرجعي:
-
الشعراء
طردهم أفلاطون من جمهوريته.
-
الشعراء
يتبعهم الغاوون في النص الديني الإسلامي.
-
الشعراء
«صعاليك»، كما في التراث الشعري العربي.
-
الشعراء
أصحاب خمريات، نسبة لأبي نواس.
فأي
الشعراء يقصد مصطفى تاج الدين الموسى؟
في
الكتابات القصصية لمصطفى تاج الدين الموسى غالباً ما يكون التعتيم والغموض والإبهام
سيد الموقف، وهنا تكمن جمالية ما نقرأه له، هو لبس منظراً في قصصه ولا يكتب بيانات
سياسية أو إيديولوجية أو إعلامية، بلغة خشبية ننفر منها. مصطفى يكتب أعمالاً فنية
أدبية، ومَن يبحث عن عمق المعني فله حق التأويل.