حاوره: إدريس سالم
القسم الأول
بديالوج
مترابط، ومونولوج مفعم بدراما اجتماعية ثقافية سياسية عسكرية، لتفصح عن سيكولوجيات
شخوصية، تجسّد نتانة الإيديولوجيات الحزبية السياسية، الكردية والعربية والدولية،
قادتها رُواة ووصف وزمكانية وصراع وحوار وعقدة وحبكة ومواضيع وأفكار، تندرج جميعها
تحت تقنيات الرواية الأكاديمية، ينطلق بنا الشاعر والروائي الكردي «جان بابيير» في
روايته الجديدة «هيمَن تكنّسين ظلالك»، الصادرة عام 2019م، عن داري نشر، الأول
«مقام» العربي المصري، والثاني «آَڨا» الكردي السوري، والتي تتألف من مائة وثلاثة
عشر عنوان وفصلاً، وستمائة وخمس وتسعين صفحة.
تبدأ
الرواية من الفصل الواحد والتسعين «التاريخ يسقط عليّ»، من عمقها، حيث يقول مَانو:
«أنا
ابن عيشانه، ابن القلق الواضح، وريث سلالة الملاحم البائدة، أنتسب إلى
الإمبراطوريّات منذ الأزل، أنا أكبر من عمري الفيزيائيّ، نعم يا ابن عيشانه أنت
أطول عمراً من الممالك! كنت سائساً لخيول دياكو وحارساً لميره كور، وأنا مَن وضع
النشيد الوطنيّ لمهاباد الذبيحة، وطردت الظلال من ألوان العلم، أنا ظلّ متواصل على
مدى عمر الشمس، خانتني الأسئلة وحدها، هيمَن هرولت نحو غروب أيّامي، وها هي دموعي
مدجّجة بالخيانة والغدر، مِمّن ولمِن تثأر؟ غداً سيطلبون رأسي المتنازع عليه بين
الذاكرة والنسيان، ولن أستطيع أن أدفنني، وماذا لو لم تسمّيني يا مجّو باسم مَانو؟
هل سأكون عندها على غير ما أنا عليه الآن؟ وماذا يعني أن تتنازعك صفتان من سهل
سروج، هذا كيتكاني وذاك شيخاني؟ وأنا أتأرجح بينهما، مَن الذي نصّبك وريثاً
للأحقاب المنسيّة؟ ومَن الذي وكّلك على ممالك الكرد؟ لتكتب كلّ هذا الهباء والدم،
أمامي كلّ هذا الخسوف بعمق الشرخ في داخلي».
جان
بابيير، شاعر وروائي ومخرج سينمائي كردي. ولد في 27 آذار عام 1970م في قرية (بوزيك)
بمدينة كوباني في غربي كردستان. صدر له حتى الآن، شعراً ورواية:
1.
شطحاتٌ
في الجحيم (شعر)، 1998م – دمشق.
2.
الأوتاد
(رواية)، 2000م – دمشق.
3.
ديوان
شعر باللغة الكردية (Gewiriya Helbeste Za)، 2001م – بيروت.
4.
قراراتُ
الخطيئة (شعر)، مشترك مع الشاعر صلاح الدين مسلم، 2003م.
5.
ثلاثية
كُوْرستان:
وضى الفوضى (رواية)، 2005م.
صريرُ الأحدِ غرفةُ الأربعاء (رواية) 2007م.
نبوءةٌ اغتالها التدوين (رواية).
6.
طفلٌ
يلعبُ في حديقة الآخرين (شعر)، 2012م.
7.
عقدٌ
قرانٍ في القصيدة (شعر)، مشترك مع الشاعرة الأمازيغية خديجة بلوش، 2013م – تونس.
8.
متنُ
الغجر (شعر)، مشترك مع الشاعرة تارا إيبو.
9.
هيمَن
تكنّسبن ظلالك (رواية)، 2019م – الجيزة وكوباني.
10.
ديوان
شعر باللغة الكردية (Peyalên Janê)، 2019م – كوباني.
11.
خيط
واهن (رواية)، ستصدر قريباً.
إلى
جانب عمله ككاتب، عمل أيضاً في الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، فكان مخرجاً
سينمائياً وتلفزيونياً، إذ عمل مراسلاً ومذيعاً للأخبار في قنوات كوردية، وأيضاً
معدّاً ومقدماً للبرامج فيها، ومن الأفلام التي أخرجها، نذكر منها:
1.
أفلام
وثائقية: منها (لالش، جيكرخوين لم يرحل، حارس التراث جليل جليلي)، فيلم صامت
بعنوان (الخطوة).
2.
أفلام
روائية: (نفرستان، الرمّان المحظوظ، الأغنية المتكسّرة).
3.
فيلمان
قصيران، الأول بعنوان (الحلم)، والآخر (الزمن).
4.
ثلاثية
كوميدية تحت عنوان (أمام الستارة).
وللحديث
بشكل أعمق عن الرواية وأهدافها ومبادئها ورسالاتها السيميائية، وللوقوف عن قلم
كاتبها وفكره ومواقفه من الكتابة والحرب ومشاريعه المستقبليّة، كان لموقع «سبا – Siba»
الثقافيّ هذا الحوار الطويل والخاصّ معه، والذي سينشر على حلقتين – قسمين:
معاً... إلى أسئلتنا وأجوبة جان القيّمة:
·
بداية... ماذا أردت أن تقول للقارئ الكردي
والسوري معاً عبر «هيمَن تكنّسين ظلالك»، التي وصفتها في مقالتي النقدية بأنها
«ملحمة روائية ناضجة وتحفة أدبية مبهرة»؟
وأنا كنت مستعدّاً لأنزف مع الشخصيات التي
رسمتها في ذهني لأنجزها على الورق؛ لأنها كانت الأقرب إلى روحي، وتجرّعت معها
أقداح الحبّ بشفاه الحزن حينما صادفني ألم أكبر من الرواية، بعد الرحيل المرّ
والفقدان الذي لم ينتهِ حتى اكتملت بليلة الغدر والمذبحة، عرفت كيف يكون الحبّ،
وكيف يكون الضياع، كتبت بعشق بما يعتلي في صدري، ولم أكتب بمثل هذا النقاء، لكن
اليوم بعد نشر الرواية، مازلت أشعر بثقل
ظلال الأحداث وبتلك الغصّة، عندما أقول اسم أحد الأبطال تخرج الكلمات من
فمي جريحة، وترقص معي الأشجار لأقول لكم:
أنتم الذين أشتاق إليهم أكثر من غاية القرار
الذي اتخذته كراوي، هو أن أحسم أمري مع بداية الكتابة للنصّ السردي، الراوي يتسلّل
بإيقاع متوازي إلى داخل الأحداث، لإيجاد البناء الخارجي للرواية، وانسجامه مع
الخطوط الداخلية للصوت السردي، هناك رسائل كثيرة موجّهة للقارئ وحتى للناقد، كلّ
شخص سيتلقّى كمية من الأسئلة حسب قدرته المعرفية لإسقاطات هذا النصّ، وبجملة
مختصرة هذه الرواية تقول لنا «كي لا ننسى ماذا حدث في تلك البقعة الجغرافية
(كوباني)»، وأردت أن أقول أن الحبّ ينمو في أكثر البيئات مطاردة.
·
من إحدى مهام الكتابة «توثيق التاريخ». ما
التاريخ الذي يوثّقه «جان بابيير» في روايته؟
بإمكاننا أن نطلق عليها تسمية توثيق تاريخ
لمرحلة زمنية، ولأشخاص تمّ رصد حياتهم في أماكن مختلفة، إذ أن البؤرة المركزية هي
كوباني، إلّا أن الشخصيات تنتقل مع آلامهم وهمومهم إلى أماكن كثيرة، حاملين
الذكريات كالحدبة على الظهر، ويعودون بذاكرتهم إلى المكان الأول، كمدمن يقود طريقه
يومياً إلى الحانة، يتحسّس موضع جرح ذاكرته كطقس أليم.
لا يمكنني أن ألوم الوقت أو القطارات التي ترمي
بالمسافرين على محطّات الصفحات والفصول، أو الطلقات والقذائف التي تحصد الأرواح،
في تلك الأرض الملعونة، فقط كنت أتمنطق بكمية كافية من الوجع، لأمضي مع حيواتهم
إلى عيد الأموات، وأمسك الإنكار ليدوّن اعترافه كوشم على جسد الحقيقة.
توثيق هيمَن، هي غرابة ما يكفي أن يرسم الدهشة،
وتطوف الأحداث كالأشباح يعودون من الموت، ليكونوا هنا بأسمائهم.
·
سأصُغ سؤالاً آخر:
برأيك وحسب تواجدك على مواقع
التواصل الاجتماعي هل قارئ اليوم قادر على حمل مسؤولية حماية ما يوثّقه الروائيون
الكرد عن آلام الشعب والقضية؟
لم يعد القارئ كما كان، بات يخاف من (بوست)
طويل على صفحة التواصل، ما بالك برواية؟! هناك قلة من المتابعين الذي يتلهّفون إلى
القراءة لكن مهما يكن، الروائي مهمّته أن يروي ما يحدث، ويكون مرآة تعكس صورة
مجتمعه بسلبياته وإيجابياته. الراوي لا يبيع نصوصه في سوق كاسدة، يمنحها لمن لا يعرف
قيمتها، بل لم يقدّرون قيمتها الفنّية والأدبية، وجلّ ما أخشاه من الآخرين تشعر
رواياتي بالوحدة بعد رحيلي، مثلما عانيت
تماماً، هي محاولة إزالة الجبل الذي يعترض طريقه، أو كالحبل السرّي يلتفّ
حول رقبته، حتى يولد جنين الرواية.
·
تزامنت رواية «هيمَن» مع انطلاقة الثورة
السورية، ولكن تطرّقك لها كان خجولاً، في حين ركّزت على مدينتك كوباني، التي كانت
صلب الرواية.
بماذا تجيب؟
هي نموذج مصغّر، عمّا فعلته الحرب، تطرّقت
للثورة بخطوطها العامّة، والتي مع الأسف إلى لآن يحصدون الأرواح تحت ذلك المسمّى،
لكن كلّ تركيزي كان منصبّ على مدينتي؛ لأنني أنتمي إلى تلك البيئة، فوجدت من
الصائب أن تكون في رأس اهتماماتي؛ لأنني أعرفها أكثر من أيّ مدينة أخرى، وأعلم
ملامحها وسكّانها أكثر من أيّ مكان آخر، أعلم وأن يعلم العالم إرهاب داعش، الذي
صبّ جام غضبه وحقده على هذه المدينة، تحت مسمّى الدين، كنت منشغل بها أكثر من
غيرها، الجريمة لا تبرّر من أيّ جهة كانت، ومَن يتواطأ معها.
·
شبّهت مجزرة – مذبحة كوباني عام 2015م، والدماء
التي هدرت فيها ومنها بالعادة – الدورة الشهرية.
ما الإيحاءات والدلالات التي أردت
إيصالها إلى الرأي العام؟
المدن أيضاً تصاب بعادتها الشهرية!! وما
الدم الذي سال في شوارعها إلّا تلك العادة، إذا تعرّضت
أكثر من مرّة للهجوم، وأصبحت كالعادة السرّية، وهيمنة الأحداث الدموية على النّص،
وهذا ما أردت الابتعاد عنه أحياناً، فلجأت إلى التشبيهات اليومية التي تحدث مع كلّ
شخص، لتكون أقرب إلى حياتنا اليومية التي نعيشها، والتي تحيط بتلك الجغرافية من
أصابع الحرب العبثية، وإن الحياة ستنتشل نفسها من براثن الموت، بهذه العظمة ترمي
بالجهات، وتختار حراسة عتبة الحرّية؛ لكيلا يطؤها اللصوص.
·
قبل انتقال «مَانو وهيمَن» إلى جهة كوباني
قادمَين من مدينة رُها – أورفة شاهدا على الحدود تحرّكات مريبة؛ إذ عناصر من
الداخل التركي تلبس زيّ وحدات حماية الشعب.
هل هذا دليل على براءة الإدارة
الذاتية من اتهامها بالتورّط في ارتكاب المجزرة؟ هل أردت أن تثبت للشارع الكردي
بأن تركيا هي المتهمة عنها؟ ما أهداف ودوافع هذه الإبادة؟
هي مجرّد تساؤلات. بالطبع كانت هناك أطراف
داخلية وخارجية شاركت في المجزرة، وليس مهمّة الروائي – الراوي توزيع صكوك البراءة
أو لوائح الاتهام. أسئلة وردت على ألسنة الأبطال، ومازالت بلا أجوبة صريحة إلى
الآن، وضمن الأحداث تتساءل هيمن: «إن كانت القوّات تحتفل بتحرير صرين أين هم قوات
الأسايش؟».
وبإصرار كان كلّ من مَانو وهيمَن يحاولان فكّ
شيفرة المجزرة وتوثيقها بالكاميرا والكتابة، ومحاولة إيصال الخيوط مع بعضها.
ربما لو قام الضحايا من قبورهم، وأخبرونا كم
واحداً منهم ذهب قرباناً لهذه المدينة لكنا عرفنا الحقيقة، لو استيقظ هؤلاء
الضحايا من قبورهم؛ لأشاروا بأصابعهم نحو الجناة، وقالوا لنا نحن أسماء وأحلام،
ولسنا مجرد أرقام.
·
لكن مهمّة الراوي هي كشف الحقيقة أيضاً؟ ثم إن
الناجين من تلك المذبحة قادرون على كشف الحقيقة. لم هم صامتون ساكتون برأيك؟!
إن الراوي ليس محقّقاً، وإن كان يتقصّى الحقائق،
يستحضر الشخوص إلى مجلسه، يحاورهم على طاولة، وأحياناً يتصافحون ويشربون معاً
فنجان قهوة أو يبكون معاً، لذا يخشى الرحيل الدوري في مواسم الموت أنا على ذلك تماماً،
أشرب معهم المحرّم، وأرتكب الموبقات، وأغامر معهم بهجرة غير شرعية إلى أحضان
الموت، أتفاوض معهم في المتن والحوار، ونفرش
معاً على الأوراق الاعتراف، نفضّ النزاعات ونتقاسم المعاناة في الجمال والقبح.
·
هل الإعلام الكردي كان فاعلاً في نقل مجريات
المجزرة للرأي العام الدولي والعالمي، بموضوعية وشفافية، أم أن التحزّب
والإيديولوجية كان له كلمته؟
لا يوجد إعلام موضوعي ومهني، هم أشخاص مثلنا
يمارسون المهنة، حسب سياسة الجهة الإعلامية، قد يخرج أشخاص يسعون لإبراز الحقيقة،
وهذا ما نوهّت إليه من خلال عمل مَانو في تلك القناة التلفزيونية، وكيف ترك العمل
بسبب أدلجته، وصار يعمل صحفياً مستقلّاً؛ لرصد الحقيقة.
صور النساء والأطفال لا تحتاج لإعلام؛ لتقارن
بين الباطل والحقّ.
·
قلت في فصل «مدثران بالخيبات... يرقصان في حضرة
الحزن»: «خمسمئة أغنية تمّ وأدها في سحور ذلك اليوم».
ما العدد الحقيقي غير الرسمي على
الإعلام لضحايا مجزرة – ليلة الغدر في كوباني، خاصة وأنت كاتب مطلع على الوضع
ومآلاته وأسراره؟
لم يتم الآن تحديد العدد، للضحايا، إلّا أنهم
في كلّ شارع من المدينة يشيرون إلينا، العدد التقريبي هو قرابة خمسمائة ضحية تكتب،
وألف جملة بهالات الحزن تتزيّن، وتتوه المعاني على القبور بمفاتن الفقد، أيّ جلد
أكثر من هذا وأنت تعيد ثانية قتل مَن قتلوا؟ لترفع عقيرة التدوين على الموت،
وتتلمّس وجوههم من بعيد، لتعود المعاني إلى صوابها بألق الدم على هيئة شهيد.
·
وهل ذهبت دمائهم على مشانق الضياع؟
في هذا الغبار الكوني لا شيء يذهب طي الجحيم. نبحث
في غرف ذاكرتنا المظلمة عن ضوء عن أجوبة، بأعصاب مستلمة وهدوء نحتاج لاقتناص
الحقيقة، نستأنف الطاقة لنهرب من ذاكرتنا التي تتربّص بنا. القيام بالأعمال الأخرى
لا يجدي نفعاً، من أجل الابتعاد عن التشوّهات النفسية الناتجة عن الأحداث التي
مررنا بها. وأتساءل بدهشة وإرباك إذا انتصر
الجحيم بأهدافه المرجوة، ماذا يقول لنا الفردوس الأعلى والناموس الكوني
بهذه المعادلة المربعة التي ينقصها ضلع، لكن أحلم بالرواية وطناً آمناً أفتقره في
هذه الخارطة الكونية العاهرة.