لقي تشارلز سيميك، اليوغوسلافي الأصل الذي هاجر إلى الولايات المتحدة
الأميركية في الخامسة عشرة من عمره، الترحيب كواحد من أرفع شعراء بلده. وقد نالت
أعماله (بلوز لا ينتهي، أن تُخْرج القطة السوداء، وفندق الأرق) جوائز
عديدة، من بينها جائزة بوليتزر لعام 1990 عن الكتاب الذي بين أيدينا (العالم لا
ينتهي) بالإضافة إلى جائزة مؤسسة ماك آرثر المرموقة، واختياره أمير شعراء
أميركا لعام 2007. ورغم أنه يكتب بالإنكليزية، إلا إنه يعتمد على تجربته الذاتية
في بلغراد التي مزقتها الحرب في صياغة قصائد تدور حول الخراب المادي والروحي
للحياة في هذا العصر.
لقد وسّع نَيله جائزة بوليتزر عن (العالم لا ينتهي) من جماهيريته،
رغم أن الشاعر لم يفتقر أبداً إلى المعجبين في أوساط الكتّاب المبدعين. يعبِّر
لايام رِكتور في "هدسون ريڤيو" عن أعمال سيميك بأنها "تصل الصّفاء،
والأصالة التي لم يدركها أحد من معاصريه." كما يلخّصُ ڤيكتور كونتوسكي ملامح
إنجاز سيميك بأنها "إحدى أهم التجارب الشعرية المتأصّلة في عصرنا والتي تترك
انطباعاً لا يمّحي، شِعرية خارقة تهزّكَ بما تحويه من أفكار، وتخييل، ولغة."
كتب بيتر ستيت: "حقيقة أن سيميك أمضى عقده الأول كناجٍ من الحرب العالمية
الثانية لكونه من سكان أوروبا الشرقية جعلتْ من الكاتب الذي ترك وطنه الأم كاتباً
استثنائي العمق.... إنه أحد أكثر الشعراء حكمةً في جيله، وواحد من صفوتهم." و
يشير روبرت شو إلى أن سيميك "قد نجح بشكل لافت في استدراج القارئ إلى لحظته
الخاصة المبدِعة."
أمضى سيميك سنواته الأولى في بلغراد. لتتزامن طفولته المبكرة مع الحرب
العالمية الثانية؛ وقد أجلتْ عائلته البيت مراراً هرباً من القصف العشوائي- أو كما
عبّر في إحدى لقاءاته على موقع "كورتلاند ريڤيو": "هتلر وستالين
كانا وكيليّ سفري." ليستمرّ جوّ العنف واليأس بعد الحرب. إذ غادر والد سيميك
البلاد ليعمل في إيطاليا، حاولت والدته مراراً أن تلحق به، لكي تعيدها السلطات
المرّة بعد الأخرى. في تلك الأثناء، كان سيميك الفتى يشبّ في بلغراد، حيث كان
يُعتبر مشاغباً مسالماً وطالباً دون الوسط.
المترجم : أحمد م. أحمد |
عندما بلغ سيميك الخامسة عشرة، رتّبتْ والدته أمر سفر الأسرة إلى باريس.
وبعد سنة قضاها في دراسة الإنكليزية في مدرسة مسائية إلى جانب حضور دروس في مدرسة
فرنسية حكومية نهاراً، أبحر سيميك إلى أميركا ليُعادَ لمّ شمل العائلة. دخل
الولايات المتحدة من ميناء مدينة نيويورك ثم انتقل مع عائلته إلى شيكاغو، حيث
التحق بالمدرسة الثانوية. في إحدى مدارس الضواحي التي تميزتْ بمدرّسين أكفّاء
وطلاب مهتمين، هناك بدأ سيميك يهتم بدروسه، وخصوصاً الأدب.
أولى سيميك اهتماماً خاصاً بالشعر، مع اعترافه بأن السبب الرئيسي الذي دفعه
لاستكشاف هذا الجانب من الفن كان من أجل لقاء الفتيات. ففي حديثه إلى موقع Artful Dodge، ميّز سيميك بين اهتمامه الحديث العهد بالشعر وبين شغف مبكر آخر،
هو الجاز: "إنه الموسيقى التي أحببتها منذ المرّة الأولى التي سمعتُها
فيها.... كان هناك نقطة عسكرية أميركية في إيطاليا وكان بوسع أذنيك التقاطها.
وأتذكر أمي ومذياعاً ألمانياً قديماً رائعاً؛ كان ضخماً للغاية وكنتُ أقلّب
الموجات، وسمعتُ شيئاً ما وأردتُ أن أتبيّن ما كان بحق الجحيم. كانت موسيقا مؤداة
من قبل فرقة كبيرة، نوعاً من أداء البلوز.... أتذكر كيف أحببتُها على الفور. ولم
يكن لديّ أدنى فكرة ماذا كانت تلك الموسيقا."
نُشِرتْ أولى قصائد سيميك عام 1959، عندما كان في الواحدة والعشرين. ويعترف
أيضاً بأنه شرع في كتابة رواية في سن العشرين، وهو قرارٌ عاش ليندم عليه:
"لابد أن تكون على درجة من الحماقة أن تبدأ كتابة رواية وأنت في العشرين....
أتذكّر بأنني كتبتُ الحبكة الروائية، وعند الصفحة 55 توقفت، فقد نفدتْ مني
الأفكار."
بين ذلك العام، وبين 1961، حينما التحق بالخدمة العسكرية، كتب العديد من
القصائد، أتلف معظمها. نال سيميك أخيراً درجة البكالوريوس في عام 1966. وكانت أولى
مجموعاته الشعرية المكتملة، ماذا يقول العشب، قد نُشرتْ في العام التالي.
وخلال فترة وجيزة للغاية، بدأت أعمال سيميك، من شعر مكتوب أصلاً بالإنكليزية ومن
ترجمات لشعراء يوغسلافيين مهمين، تحظى بالاهتمام النقدي. ففي دورية "أميريكان
مومنت": في دراسة عن الشعر الأميركي في منتصف القرن، لحظ جيوفري ثورلي
أن جوهر شعر سيميك المبكر- مادته الأولية- "هي أوروبية وريفية أكثر مما هي
أميركية وحضرية.... إن العالم الذي يخلقه شعره- أو بالأحرى يقوّضه عبر التفريغ
الدلالي الخلاق- هو أوروبا الوسطى- الغابات، برك الماء، وأثاث المزارعين."
أكد ماثيو فلام أيضاً أن سيميك إنما كان يكتب عن ذهوله، عن كونه جزءاً من فصل في كوميديا
التاريخ، الذي فيه ترعرع نصف مُبْعَد في بلغراد ليصبح، بلكنته السلاڤية، شاعراً
أميركياً."
إنّ أعمال سيميك عصيةٌ عن التصنيف. فبعض القصائد تعكس نزعة سوريالية،
وميتافيزيقية فيما يعرض بعضها الآخر لوحات واقعية كالحة من العنف واليأس. يصر ڤيرنون
يونغ أن الذاكرةَ- الجذرَ الرئيسَ الذاهبَ عميقاً في الفلكلور الأوروبي- هي المنبع
الأساسي لكل شعر سيميك. سيميك، خريج جامعة نيويورك، متزوج وأبٌ في أميركا
البراغماتية، يرتدُّ، حين ينظم قصائده، إلى لاوعيه وإلى أحواض الذاكرة
الأولى........ في تضاعيف العوالم الشعرية المصغّرة التي قد تكون ضارية، تهكمية،
شبه واقعية أو مخزية إلى أقصى الحدود، يعرض بإحكام مونتاجاً تاريخياً."
يستطرد يونغ: "إن يوغوسلافه هي شبه جزيرة الذاكرة.... إنه ينطق بالحكاية
الرمزية؛ ونهجُه أن يترجم الواقعةَ التاريخية إلى رمزٍ مفتاحيّ سورياليّ.... إن
سيميك يشعر بماضي أوروبا ينبض في عروقه."
تتحدى بعض أعمال سيميك الشهيرة الخطّ الفاصل بين المألوف واللامألوف. إنه
يبثّ الجوهر وربما الحياة لكي يؤنسن الأشياء، واعياً الغرابة في الأجسام المنـزلية
الجامدة المغرقة في عاديتها مثل السكين أو الملعقة. كتب Shaw:
إن ذروة التأثير في قصائده الأولى كمنتْ في أن "الأشياء الجامدة تسلك حيواتها
وتقدّم، في ذات الوقت، محاكاة قاتمة للوجود الإنساني." ويخلص ڤيكتور كونتوسكي
إلى أن "مساعي سيميك في تأويل العلاقة بين الحي والجامد قد أوصلتْ إلى ما
يشبه أكثر فتوح الشّعر أصالة في عصرنا، شعر صارم باعتداده بمفاهيمه ومجازه
ولغته." وكما كتب أنطوني أن سيميك "يأخذنا إلى دريئته الغامضة، العالمِ
الآخر المُتَضَمَّن في عالمه."
تجارب الحرب في مرحلة الطفولة، الفقر، والجوع تكمن خلف عدد من قصائد سيميك.
يؤكد بيتر ستيت أن الهم الشاغل للشاعر "هو أثر الأنظمة السياسية القمعية على
حياة الإنسان العادية.... عالم سيميك مخيف، غامض، عدواني، خطِر." بينما أعلن
ثورلي أن سيميك "يخلق عالَماً من الصمت، بانتظار أن يحدثَ الذي لما يُقَلْ
بعد، عالقاً في السلوان الذي سيحلّ بعد ذلك.... إن حجم الخطر لدى سيميك يتحول
بذاته إلى ميتافيزيقيات. لكن سيميك يلطّف رؤيا الرعب هذه عن طريق دعابة المشانق
والسخرية من وعي الذات. يجزم ستيت: "حتى أكثر القصائد سوداوية.... تُبدي عن
حيوية في الأسلوب والخيال الذي يبدو وكأنه سيعيد، أمام أعيننا، خلق احتمال الضوء
فوق الأرض. ولعلّ أفضل طريقة للتعبير عن ذلك ستكون بالقول إنّ سيميك يصدّ ظلامية
الأنظمة السياسية عن طريق تكريس وشرعنة نور الفن."
وجد النّقّاد أن أسلوب سيميك منفتح وقابل للولوج، وأنه إنجاز ثرٌّ بالنسبة
لشاعر لغتُه الإنكليزية هي الثانية. بالنسبة إلى Shaw،
فإنّ "وعي المنفى لا يزال يلوّن لغة سيميك بالإضافة إلى رؤيته للوجود.
وبترويضه للغة الثانية، فإن سيميك بشكل خاص واعٍ لطاقة الكلمات، وللحدود التي
تتلمّسها هذه الكلمات لكي تصل إلى مبتغاها. إن أسلوبه التعبيريّ بالغ الصفاء: فبكل
عناصر الحياة اليومية التي يكتب عنها، ينيط اللثام عن عمقٍ غير متوقَّع في تضاعيف
ما يبدو أنها لغة مألوفة." يعلّق مايكل ملبورن في دورية مراجعة الكتب:
"إن تشارلز سيميك هو شاعر الرؤيا الأصيلة.... سيميك يداهن القارئ بالألفة
التي تصلّ حَدَّ الكليشيه. يلوح وكأنه يتحدّى نفسه في أن يكتب بأقصى مايمكنه من
وضوح، في نفس الوقت الذي لا يزال فيه ينتج أعمالاً فيها العذوبة والأصالة. إن
أعماله تومئ إلينا من على قارعة الطريق لتُدْخِلَنا إلى عالم يلوح للوهلة الأولى
بأنه لا يتميّز عن عالمنا نحن.... لكن أسلوباً ثرّاً يقبع خلف وضوح سيميك.... غير
المتكلِّف، بلغةٍ غير اقتحامية تنطوي على أكثر الصّور إدهاشاً." يضيف ملبورن
بأن الشاعر "يستثمر مقوّمات اللغة والتجربة التي قد يتقبّلها القرّاء بمنتهى
الثقة، ثم يذيبها في موسيقا أخاذة."
منذ عام 1973 درّس سيميك الإنكليزية، الكتابة الإبداعية، والنقد في جامعة
نيوهامبشر. يصف بيئة نيو إنغلاند بأنها خصبة لإنتاج المفكّرين الأصيلين لأنها، كما
يقول، "هناك في تلك الولايات مثل ماين ونيو هامبشر المليئة بالأمكنة النائية
عن الطرق، التي تمتد شتاءاتها لتسعة أشهر. تكتشف أن لهؤلاء الصبية الفقراء في تلك
الأماكن حيوات جوّانية، وانطوائية، لأنه ليس ثمة ما تفعله إلا أن تمعن النظر في
الذات. الاستبطان أمر عظيم، رغم أن خدمة كابل التلفزيون قد وجدتْ طريقها إلى نيو
إنغلاند."
علّقتْ دايانا إنغلمان بشكل مطوّل حول شعر سيميك بأنه صوت مزدوج ينطق
بالأميركية وبالمنفى على حدٍّ سواء. تقول: "صحيح أن تجربة تشارلز سيميك،
الشاعر الأميركي، تمدُّ شعريته بهذا المفعول المتماسك على نحو فذّ، إلا أنه أيضاً
يصحّ القول إن الصوتين: صوت الأجنبي وصوت ذاكرة اللسان الأمّ لايزال يتردد صداهما
في قصائد عديدة." تضيف إنغلمان: "إن قصائد سيميك تقوم بتوصيل ثنائية
المنفى في خصوصيتها: فهي في ذات الوقت بيان أصيل عن الحساسية الأميركية المعاصرة
وأوعيةٌ من الترجمة الداخلية، تقترح مجازاً نحو ما هو صامت وأجنبيّ."
في معرض حديثه عن تجربته الإبداعية، علّق سيميك: "عندما تبدأ تدوين
الكلمات على الصفحة، ستتولاك حالة من التداعي، لتقول في سرّك فجأةً: يا إلهي! كيف
دخل هذا في رأسك؟ لماذا هو مدوَّن على الصفحة؟ وما أفعله هو أن أمضي إلى حيث
يأخذني."
كلايتون، كارولاينا الشمالية