فاتن حمودي
حين تصبح الكلمة تلك الغرفةَ المضيئة، التي
تأخذنا إلى مقولة"هذا أنا"،الآنا التي تتجلى على شكل قصة هنا، وقصيدة هناك،إنها صورة، بل صور، تنطق
حتى لو غاب صاحبها، أو مضى إلى حياة ثانية، فتنجو الكلمة من السقوط، وتبقى حاملة لتلك
الذات، بعيدا عن الغياب.
هذا الموت
الذي يأتي خفيفا باردا، يطرق الباب ويترك المكان خاويا، لكنه على نافذة مريم جمعة
فرج، تقف نخلة، وقمر، يقف بحر وصحراء، تقف أعمار، من الطفولة والسفر، تقف مرآة،
احتفظت بوجهٍ أسمرَ كما جذع نخلة، و اوراقَ
سعفٍ، جعلتها الريح حادة، فيما يمرر الهواء نسمات الكلمة، من هنا مرت امرأة، كانت
تلتفت نحو كل الجهات، تقول:وهل يحفظ الرملُ صوتَ خطواتي؟
أمرأة كتبت اسمها
على جذع نخلة، النخلة إحدى أفراد عائلتنا وبيتنا و وجودنا، النخلة رمز ومؤشر للحب،
وفي ذروة اشتباك العلاقة مع الزمن، وفي ذروة الصراع يذوي قلب النخلة فتموت، ولا
يمكن ان يكون الموت نهاية، وإنما بداية ليعود نصها إلى الحضور، وتعود هي، وكل
نتاجاتها الإبداعية، التي طالما ارتبطت بمفردات البيئة، والمكان، وهي التي كانت
تقول عرفنا القاهرة من كتابات نجيب محفوظ، وعرفنا بصرة من محمد خضير، و«لندن» من تشارلز
ديكنز و«سان بطرسبرج» من دوستويفسكي، وعرفت دمشق من نزار قباني، نعم هي التي أدركت
باكرا بأن الكاتب دليلنا نحو المدن، وعرفت اكثر كيف ترتبط المدن اسماء كتابها.
ولأنها ابنة
الحب، فقد كتبت قصتها" أعداء في بيت واحد"، لتشير إلى جدتها الرائية، في
اتكائها على إرث ثقافي، من خلال تحولات النخلة، وما تحمله من إشارات ودلالات لمن يسكن حولها، "أعداء في
بيت واحد"، هذا العنوان الذي يشكل مفتاحا، وتيمة، ليست جديدة على الأدب
العربي والعالمي، ولا على الفكر الميثولوجي، فأذكر على سبيل المثال قصيدة
"أنا يوسف يا أبي" لمحمود درويش"، و رواية "الاخوة كارمازوف" لدوستويفسكي، و
رواية "ثلاثة و تسعون" لفيكتور هوغو"، تكتب مريم الصراع في المكان،
وتوظف النخلة في قراءة تبدل الأحوال، بل في قراءة الآتي من الأيام، النخلة رمز
الحياة في المنطقة العربية عموماً، وفي الإمارات وخصوصا، وإحدى مفردات الوجود، تلك
الشجرة التي تشير إلى القداسة والقدسية، تحتها ولد المسيح،وأكلت من رطبها مريم،
وهو ماذكر في القرآن الكريم: "هزي إليك بجذع
النخلة تساقط عليك رطبا جنيا" .
وليس غريبا،
أن تحضر النخلة في القصة، وهي المفردة الأجمل كتعبير عن الحياة، بدءا من سور
البيت، مرورا ببيوت السعف، وسرير الطفل، وقوارب الصيد التي عرفت
بإسم"الشاش"، والغذاء، نفس
النخلة تتحول إلى إشارة للصراع، في حوارية
بين مريم وجدتها تقول في قصتها
"أعداء في بيت واحد":"قالت جدتي:عندما تموت النخلة نعرفُ كلّ شيء. كيف :قلتُ؟اجابت عندما
يتساقط كل ُّالرطب منها، وتذبل، تبدأ الحرب، هكذا يقولون.من.. قُلت؟كلّ الناسوإذا ماتت
النخلة ماذا نقعل؟نمكث في
البيت، أو نهرب".
وهنا توظف
مريم بعض المعتقدات الشعبية، من خلال هذا
الحوار المتنامي السلس، والذي ينتهي بصراع بين الأم والأب، حول الأحقية في ملكية
البيت، صراع مصالح، وتظهر تيمة الوعي:" قال أخي: أف إنها مشكلة أن نكون أعداء
في بيت واحد"
ومما لاشك فيه فإن تغليب الحوار على السرد و
الوصف، يعكس تقنية الاستماع للشخصيات و كأنها حاضرة نراها و
نسمعها، خلافا للسرد المألوف الذي يعتمد الحديث عن الشخصيات و الأحداث و الأماكن
بصيغة الماضي، و كأننا فقط أمام ألبومات من ذاكرة.
ويبدو في القصة تغليب المعجم البسيط المتداول، الشعبي
منه خاصة، لإضفاء الألوان المحلية على النص، معجم في المتناول، لكنه في ذات الآن
ينتمي للسهل الممتنع، و لانزياحات البلاغة، (المجاز + الاستعارة + الكناية +
التشبيه البليغ).
استطاعت مريم جمعة، توظيف التراث، وكأنها
أرادت القول، مايعنينا في التراث هو كيفية حضوره في الفن اليوم، فالتراث ليس ما
نخلفه وراءنا، بل ما نستطيع استعادته
وتملكه من جديد، وهو ما يقتضي محاورته،
وتأويله، وهنا أستعيد ماقاله المفكر عبد العالي معزوز في كتابه فلسفة
الصورة:"التراث ما يسائلنا في الحاضر، وما يلاحقنا في المستقبل، ليس التراث مسألة
ماض مضى، بل راهن ومستقبل" 14".
مريم
جمعة فرج، هذا الإسم الذي يحمل الكثير من الدلالات الميثولوجية، المرأة
التي عرفت معنى الكلمة، الكلمة المحمولة على عمق رائحة المكان، خصوصية
الذاكرة، الهوية في عمقها البعيد نحو
المدى الأزرق، أخذتها العَبرة، نحو الناس البسطاء، نهلت من حضن جدتها حكمة
المرأة، تلك الرائية التي تبصر المآلات، ورغم انزياحها نحو العلم والسفر و تعلم اللغات، بقيت الكلمة
نخلتها، ولأنها جاءت من الشعر إلى القصة، فقد منحها هذا شعرية الحكاية، واللغة،
عرفت أحوال المرأة، معاناتها، اختزالها للحكمة، والمعرفة، لهذا مضت في كلمتها نحو الناس، وهذا يرجع إلى المدن التي
ارتادتها للدراسة، الكويت في المراحل الأولى، ومن ثم دبي للدراسة الثانوية، وبعدها
ثم بغداد في المرحلة الجامعية، حيث كان الزمن مشتعلا بالفكر اليساري،
والأيديولوجيات، وأضافت لها دراستها اللغة
الإنكليزية نافذة اخرى على أسماء كتّاب عالميين، وهو ما جعلها اكثر تجذرا بمكانها،
بل جعلها مسكونة بالنوستالجيا، الحنين
لأيام البساطة.
انتمت للمجتمع، رأت ما لايراه النائم، رصدت العمق الشعبي للحكاية والمثل، عرفت معنى رائحة
البيوت والجدات والطقوس، كل هذا جعل شخصياتها تكتبها، الشخصيات في صراعها،
الشخصيات في قيمها و وجعها، ولم يكن هذا من فضاء آخر، بل من هذا المكان، من حياة
البسطاء الذين لوّحت قلوبهم الشمس، ولأن الكتابة هوية في إشارتها للمكان، فقد برز
الماء في قصصها، وكأنها تحمل البحر إلى النص، بحر دبي، بحر ابوظبي، الخليج العربي،
بحر الرحلة والإبحار والغوص،"اصيح بالخليج ياواهب اللؤلؤ و المحار والردى"،
ولم يكن امام مريم سوى الأهتمام بالأدب، الكتابة القراءة، الترجمة، الإعلام، تعددت
انشغالاتها، ورغم هذا كتبت بروح المكان شعر وقصة ومقالة، فهل يمكن أن تكون الحياة
منصفة، هل يمكن أن يشكل الغياب ضوءا على حضور الكلمة والقها؟
حين نقرأ عناوين مجموعاتها القصصية، وما تضمنته من عوالم
وقصص ، نتلمس كتابتها لقصة الحياة، فكل الإشارات في مجموعتيها" "فيروز" 1988،
و" ماء" 1998، تنتمي لتجسيد حياة الناس البسطاء، من عمال و مغتربين،
وشخصيات حولها، عمال بلل التعب
جبينهم، وهو ما صورته في قصصها"عبار"،
و"صرمة" وعناوينها الأخرى.
كانت مريم من بين قاصات كثيرات، كن رائدات في
رصد تحولات المجتمع، بعد طفرة النفط، وما طرأ على المجتمع من متغيرات، في جميع
مناحي الحياة، ومنهن سلمى مطر سيف، سعاد العريمي، ظبية خميس، شيخة مبارك الناخي،
اسماء الزرعوني،باسمة يونس، ليلى احمد، فاطمة محمد، امينة عبالله سارة النواف،
فاطمة السويدي، صالحة غابش، ابتسام المعلا، قاصات استطعن رصد الحياة وعالم المرأة والإنسان عموما، في مجتمع
متحوّل، خرجت فيه المرأة لمجالات عمل مختلفة.
في قصة «عبار» تشير إلى حياة الصيد والغوص في دبي، ترصد تطور المهن، وكانت وتقديم تجسيد صور
لشخصيات مسحوقة، وربما مفجوعة بغياب من احبت، و ترى عوالم قصصها بعيون سينمائية في"عبار"، استطاعت العبور من خلال
بطل القصة، إلى عوالمه الداخلية، وتصور انعكاس هذه العوالم على ملامح
الوجه، وكأنها تنقلنا للصورة في انعكاسها مع وجع الروح:"عادة يشكل وجه
العبَّار الجزء الأكبر من جسده، خطوط يابسة يبوس"البذرة"، في ظهره، لكنه
وجه مسالم يظهر فوق زحمة من العظام العريضة"، وتختم حكايتها بسؤال يشير إلى
قلق وجودي: " لماذا يكره الدنيا إذا كان كل شيء فيها لايسوي، حتى نرجس
ماضيه"
كانت عينا مريم على البحر دائما، هذا المكان
المطلق بزرقته، والذي يحتفظ بأسرار جنوننا في قصة"فيروز"، العامل الذي فقد حبيبته وطفله كما تصور القصة، تلك
الحبيبة التي تحوّلت إلى جنية، حسب المعتقد الإجتماعي، فيما بدا فيروز ساهما هائما،
مخبولا ، مجنونا، هذا الرجل الذي يعمل في
مصانع الثلج، المفارقة هنا، أن كل التلج لم يستطع أن يبرّد نار فقده ل"ياسمينة"، ،يكسر الثلج، ثم
يمضي إلى البحر علّه يستعيد ما أخذه منه، وهنا ترينا مريم تعلقه بالماء، كرمز للحياة،
وحلم باستعادة ما أخذه منا، الجنون هنا
يأخذ منحى شعبيا، اقرب لحكايات الفانتازيا، وهو مايضطره للذهاب إلى قاريء الغيب،
تعلقا بضوء الأمل،"ياسمينة قالها
الشيخ الهاشمي، نصفك المفقود في الماء جنيّة، لكنّ صوتها تناهى إليك :يا أمي ...يا
أمي..يا امايه، راعي البحر ما أباه".(ص)17
مريم في هذه القصة،تقترب من الواقع بتطعيم
اللهجة المحكية، الخرافة، الأساطير، وتلعب على مفردة الحب، الحب كشيء كياني لهؤلاء
الناس، وإدراك ان فقد من نحبهم يذهب العقل.
بحس إنساني شفيف، تصور الحنين، وكأنه خطف، أو
كاميرا رصدت لحظة هاربة، وهو ما يأخذنا إلى نجوم الغانم وفيلمها
"العبرة"، التي رصدت من خلاله حياة العبار الأخير، ويبقى العبور رمز من
رموز انتقال الحياة من زمن إلى آخر، لرصد التحولات، وهذا كان أهم ما قامت بها مريم
جمعة فرج في انتمائها إلى الكتابة، كفعل حياة، وكبعد إنساني بعيدا عن أي تنميط
أنثوي أو ذكوري.
مريم جمعة فرج، سمراء القصة الإماراتية، جاءت من
بيت شعبي، غني بالحكايات، ورائحة الفلكلور والتراث، وكأي طفل بدأت تتشرب حكايات الجدة، والأم، الأم الأكثر
التصاقا بأبنائها، ثم مضت إلى المدرسة، وكانت علاقتها باللغة العربية، رحلة التحدي
في كسر النظرة التقليدية للبنت، ذكرت مرة في حوار معها،" الوالد كان يقول
لماذا تدرس البنت ونهايتها إلى الزواج، في حين كانت جدتي وأمي يدفعانني للقراءة
والكتابة، وكانت تحلم جدتي أن اكتب لها
رسالة، وهو ما حصل فعلا، كتبت لها اول رسالة أرسلتها من الكويت إلى أهلها في الإمارات،
الرسالة أدهشت والدي، وجعلته يقتنع ويثق بي، و
بأهمية الدراسة، وشجعني أكثر على كتابة الرسائل".
بدأت موهبة مريم تتفتح على يد الجدة، التي
علّمتها معنى أن تقرأ نفسها وهواجسها بطريقة فطرية، معنى أن ترصد و تسرد وتصور، لتبدأ
بعدها رحلة البحث والدراسة والأكتشاف، وتفتح الوعي، بين الكويت التي درست فيها المرحلة
الأساسية، ودبي التي تخرجت من مدارسها
الثانوية، ثم سفرها إلى وبغداد وتخصصها في
اللغة الإنكليزية، هناك تعرفت على ثقافات
و وجوه، ومدن، ومجتمعات، تحمست لقضايا
المرأة، مادفعها لاحقا إلى الإنتساب إلى
"جمعية النهضة النسائية "، اول جمعية في الإمارات، في هذه الرحلة عرفت
معنى الكتابة، الكتابة حياة وفكر، الكتابة سفر، نحو عوالم روحها، الكتابة التقاط صور الواقع والشخصيات، وأخذتها الترجمة
إلى الإعلام، والعمل في صحيفة البيان.
هذه المرأة أشرفت بعد رحيل والدها على تربية
أشقائها وشقيقاتها الذين بلغ عددهم 11 فرداً، تقول في حوار معها:«إن إخوتي الأصغر،
خاصة الذين أشرفت على تربيتهم إلى جانب والدتي، يعتبرونني أماً ولست أختاً لهم".
ليس غريبا ان تأتي مريم إلى القصة، محمّلة
بعطر المكان، بالبخور والعطر، هي التي تربت في بيت متواضع، يفوح برائحة المحبة والألفة،
والأهازيج والغناء، وكانت أنى التفت حولها
تقف النخلة والبحر، والناس البسطاء الذين اتت منهم أولا، وإن كان ثمة صحراء، فهناك البحر والماء وجدلية
الحياة والموت، وتصل مريم إلى أن الماء
أولا وآخرا، في قصتها"ماء"، التي تستحضر فيها النفط، وصورة الحرب، وترى الخلاص في الماء، لما لا وهو إحدى
عناصر الوجود الأهم" وجعلنا من الماء كلّ شيء حي"، الماء تيمة في قصصها، وهي تلتفت إلى البحر كخلاص،
فهي لاتغمض عينيها عن الواقع، بما يحمله من رموز وإشارات، تكتب بنكهة المكان مدركة
أن أروع الكتابات العالمية إن لم تحمل رائحة مكانها تبقى غريبة عن كل من يقرأها،
يبقى الصوت في هذه الغرفة المضية، تبقى الكلمة، التي تأبى الإنزلاق إلى النسيان،
الكلمة روح،وصوت وإنسان، الكاتب مدينة و وطن، رائي عظيم، لهذا وجدت في القصة أغنيتها، وأغاني البحارة"هي
يا مال"، وكما قال رولان بارت:"لايبحث الإنسان التائه القلق عن الحقيقة
، ولكن يبحث فقط عن لحنه".