-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

العروس الشّمس


نارين عمر / خاص سبا


اقترح بعضهم عقد اجتماع طارئ واستثنائيّ لبحث حال ووضع هذا الوفيّ المخلص الذي ندر إنجابه منذ زمن بعيد، وصارت نسوة القرية والقرى المجاورة لها يجعلونه مضرب مثل في التّضحيّة والفداء، يؤنّبن أزواجهنّ على عدم اقتدائهم به، والبنات يحلمن به فارساً لأحلامهم الفتيّة مثلهنّ. بعد طول مناقشة وتحليل وأخذ وردّ يتفقون على أن يتفقوا على قرار واحد يتلخّص في اقترانه بامرأة أخرى لعلّها تكون  البلسم الذي يخفّف عليه بعض جروحه التي لا يستطيع حكماء وأطبّاء الكون مجتمعين من مداواتها؛ وإكراماً لأولاده اليتامى الذين فقدوا الأمّ ويخشون عليهم من فقدانهم الأب أيضاً.
الشّمس تحبو نحو الغروب كأمّ مثقلة بآهات الوداع والنّأي على فلذة كبدها الرّاحل للتوّ. البعض مغموس الفْكر والفِكَرِ في تخيّلات ذاته وانشغالها بهذا اليوم الذي لم يرق له كما يشاء هو، والبعض يدعها تمرّ به وكأنّها لا تعني له شيئاً أو كأنّها لم تكن، أمّا البعض الآخر فيبالغ في تأمّله فيها، يقيس على أنفاس شروقها وغروبها ما لم يتحقّق له خلال هذا اليوم وما يتوحَّم عليه رحم الغد من أمانيّ وابتهالات وفي تلك القرية الغافية في حضن هضبة سعيدة الحظّ كانت خيمة عزاء تضجّ بالمعزّينَ من الرّجال والشّبان المحلّقين حول زوج لفّتهم شبكة من الحيرة والتّعاطف عليه ومعه على ما آلت إليه حاله وهو يبكي وينوح على زوجته التي حوّلت كلّ الألوان في نظره إلى لونين اثنين لا ثالث لهما الرّماديّ المائل إلى السّواد الدّاكن. 
تمرّ الأيّام وتنتهي مراسيم العزاء ويظلّ الزّوج المنكوب مضرباً عن الطّعام والشّراب في حضرتهم على الرّغم من إصغائه إلى عشرات القصص والحكايات التي تتحدّث عن الموت الذي يعدّ الأمر المحتوم المحسوم فيه، ولا يمكن صدّه أو حتّى مجرّد التّفكير بردَّه أو عدم تقبّله.
كلّما كثر الأهل والأحبّة والجيران من حوله كلّما ازداد صاحبنا نحيباً وبكاء فيشاركه المجتمعون النّحيب والألم خاصة عندما كان يحتضن أطفاله ويشمّهم كمن يشمّ عطر ورود  في أوّل الرّبيع.  
احتار المجتمعون فيمن يقدر افتتاح الموضوع معه وهم على يقين تامّ برفضه للموضوع جملة وتفصيلاً، بل وحسبوا حساباً كبيراً للومه وعتابه لهم على تجرّئهم للنّطق بمثل هذا الاقتراح! 
الزّوج المغلوب على أمره -كما كان يبدو لهم- ومن دون سابق إنذار فجّر كلّ ما لديه من مستنقعات الحزن والأسى، فامتزجت دموع فرحه وبهجته بدموع حزنهم وتأثّرهم العميقين به وعلى حاله، وحتّى الرّجال المعروفين بصلابتهم ورباطة جأشهم تميعت مشاعرهم، وانسابت دموعهم كشلّال انبثق من جوف تلّ حديث الولادة؛ وليترّنم في النّواح والتّهويل صدّقت الحرباء المسكينة ما يتفنّن به بعدما كان قد استعار منها جلدها ودموع عينيها! عندما شعر الحضور بقلّة حيلتهم أشاروا إلى كبيرهم ليحضروا والديّ زوجته الرّاحلة، وهنا التفت من حوله ليرى المفاجأة الحلم التي هلّلت بتباشير السّعد والانشراح عليه لم يتمالك مكامن البسط والفرح الكاتمة على أنفاسها بمحاولات مجبولة من رضاب المستحيل، فأزهرت على ملامحه أزاهير البسمة التي تقمّصت روح الضّحكة ثمّ القهقهة، والحضور ازدادوا بكاء وعويلاً على دنوّ المسكين من سكرات الجنون والبله!
أدرك بعد ساعات أنّ مسرحيّته قد تفقده مشاهديها جميعهم بعد خروج البعض لعدم تحمّلهم المشاهد النّاطقة بما لا ينطق بها أشدّ الجبابرة ظلماً وظلمة؛ أفرغ ما في جعبة نفسه وفكره من آهات وحسرات كانت قد تشكّلت فيهما نتيجة خشيته وخوفه من عدم موافقة أولاده وأهل زوجته الرّاحلة على زواجه بأخرى أوّلاً، وريبته من عدم قبول الفتاة التي ولجت كيانه وكينونته منذ أيّام على الاقتران به، ثمّ همّ بنثر مكنونات منطقه المصون وهو يضمّ اليدين مع الأصابع العشرين، ويفتحهما، ويراقص الرّجلين والقدمين، ولا ينسى أن يحكّ الرّأس والجبين والتّأتأة هي توءم مرثيته:
- أرى أنّكم مصرّون على قراركم، ومن أنا لكي أُصان بكلّ هذا الحبّ والحنان؟ ثمّ توجّه إلى يديّ والد الرّاحلة حوّلهما إلى كعبة للقبَل والتّبركات وهو يقول:
-عمّي! وهل لي أن أرفض لك طلباً وأنت أب لمن كانت وستظلّ قيثارة سعدي وسعادي؟
كلّ من في الغرفة انهالوا عليه بالفرح والمسرّة احتفالاً بقراره وكأنّ ابنهم البكر قد رُزق بابن لولاية العهد بعد انتظار طويل كانت من ثماره سبع بنات متتاليات، انتظار كاد يفقدهم الأمل والتّأمل.
سارعوا إلى تقديم لائحة باسم الفتيات والنّساء إليه وما يهمّهم هو الاختيار فقط.
سكت لبرهة ثمّ ازداد إتقاناً ومهارة لدوره حين رآها تدنو إليه بتأثّر وتأسّف، تقدّم كأس الشّاي له وللحضور ما شجّعه على النّطق ببشارة غده وربيبة عمره الزّاهر في رياض غنج شبابها ودلالها.
استأذن من الحضور بوجوب الانفراد بكبار القرية، ثمّ عزف على أوتار معزوفته:
- إذا كان لا بدّ من الاختيار فإنّ الله سبحانه وتعالى قد ألهمني الآن بمن عليّ اختيارها، وتوجَّه إلى جاره الذي يفصل بين داره ودارهم ذلك الحائط الاسمنتيّ النّحيف طولاً وعرضاً:
- يشرّفني أن تكون كريمتكم المصون أمّاً لأطفالي لأنّها جارتنا وكانت صديقة المرحومة وبيت سرّها، والأولاد يحبّونها، ويرتاحون إليها، قبل أن ينطق والد الفتاة بكلمة قال والد زوجته المرحومة:
- على بركة الله، فلنَقرأِ الفاتحة الآن وردّد الجميع:
- نعم، خير البرّ عاجله. 
يبدأ سعيدُ الحظّ والمنطق بغرس شروطه في رياض براءة الحاضرين أكثر فأكثر دون أن ينسى سقيها بسخاء عينيه ورئتيه: 
-أهلي وجيراني وتيجان رأسي!  ليس من باب الشّرط والفرض أعلمكم أنّ مراسيم الاحتفال والابتهاج لن تقام مطلقاً، وتعلمون أنّ موافقتي على الزّواج والارتباط كانت إكراماً لمكانتكم العالية ومقامكم الرّفيع.
قال البعض:
- معك كلّ الحقّ يا أصيل يا بن الأصول!
البعض الآخر أيّد البعض الأوّل ولكن مع إقامة حفلٍ صغير يضمّ فتيات ونساء القرية إكراماً للفتاة وإرضاء لأنوثتها.
ردّ على الفور:
- أعلم كلّ ذلك وأقدّره، لذلك أقترح أن نخرج أنا وهي لأيّام إلى بعض المدن الكبيرة نقضي فيها وقتنا لئلا تشعر المسكينة بالهمّ والغمّ.
تمرُّ الأيّام وسعادة تزنّر خصر كينونة العروس التي تتلاطم في تيّارات سعد تفوق أضعاف ما كانت تزركشها لها أحلام منامها ويقظتها وهي تنثر بذور النّشوة والحبِّ في رحم كيان صديقاتها وأترابها إلى أن هبّت على نسائم نفسها رياح عاتية آيبة من قصاصات حديث بينها وبين صويحباتها في ذلك اليوم الرّبيعيّ الزّاهي.
جلسة كانت وليدة جلسات لا تعرف العقم إلا أنّها تتكاثر مع عناق الرّبيع والصّيف لأنفاس السّهرات والنّزهات. 
 بدت كعادتِها ملكة الحبّ، أميرةَ الدّلال، وابتدأت مربعها بتشجيع وحثّ ربيباتها على وجوب الحياكة على نول مشاعرها وأحاسيسها، والتّيمّن ببركاتها.
بدأت الصّديقات بسؤالهنّ التّقليديّ لها عنها وأيّامها مع ربيب سعادتها، وهي بدورها بدأت تزيّن مفرداتها بما طاب لها ولذّ من ثمار الحب والمحبّين:
- رفيق عمري يوماً إثر يوم يزيد من شتلات نطقه ووجدانه في خصب ذاكرتي وشبوبية قلبي! يهدهد خاطري بهالة العشق الذي طالما غفونا معه في عذوبة حكايا الجدّة والأمّ!
قالت أخرى:
- بعد مرور كلّ تلك الأيّام والشّهور ما تزالين مصرّة على أن نقفو أثرك، ونغوص ببركات سعدك؟
- نعم، امتطي صهوة مركبي، ولن يوصلك إلّا إلى عالم الأحلام والحالمين.
فجأة نطّ سؤال من عبّ إحداهنّ كان هو الصّعق والصّاعقة:
- منذ زمن وأنا أحاول أن أسألك وأنسى، أخبرينا عن سرّ أو أسرار فنون عشق ومغازلة صهرنا لك، ومنكم نستفيد؟
وكأنّها كانت تنتظر مثل هذا السّؤال منذ زمن، نظرت إليها تفوّهت بحياء مزهر بالغنج والدّلال:
- يقسم لي بحياتي وشبابي على أنّني أصْبته في فخّ جمالي ودلالي ونصبت له شباك حبّي وغرامي، وأوقعته فيها قائلاً:
-حدث هذا  عندما كنت أرنو إليك تتمخترين جيئة وأوبة وأنت تخدمين المعزيّات بزوجتي الرّاحلة وقبلها كنت مشدوهاً إلى حسنك ولطف معشرك إثر إعجاب المرحومة اللامتناهي بك وثقتها العمياء بصداقتك ووفائك!
وكطير جريح حطّ على غصن بائس انتفضت صديقة يشهد لها كلّ من في القرية على جسارتها وجرأتها دون مجاملة أو مسايرة وهي تضرب على رأسها بقوّة:
- يا مسكينة! عليك أن تغرقيه في مستنقع الّلعنات والتّوبيخات كلّما نفث في خاطرك ونفسك مثل هذه الكلمات!  أهذا هو الفارس الذي امتطى صهوة العشق والغرام بدون منازع وقطف لك ورود عشق لم يدوّن تاريخ الحبّ مثله؟ أهذا هو الحبيب الذي صرعت أحلام يقظتنا ومنامنا بعسل نطقه وشهد منطقه، وجبلت منهما لنا جناحين نطير بهما في عوالم لم تُخلَق بعد؟ ربّما صار زوجك فارس أحلام البعض منّا أو تقمّص شخصيّة زوج إحدى المتزوّجات منّا أيضاً؟
- يا مجنونة! زوجك سوف ينفث مثل هذه الكلمات في خاطر ووجدان زوجتِه الثّالثة بعد أن يفاجئك ملك الموت برؤيته وحضوره، بل وسيزداد تفنّناً وافتتاناً لأنّ الذي ينسى زوجته الأولى بهذه البساطة سيكون سهلاً عليه نسيان الثّالثة والرّابعة!
طبعاً سيحلف بشبابك وحياتك وليس بحياته وعمره! 
ظلّت الصّديقة تنثر كلامها في الخاطر والنّفس والغرفة المربّعة الشّكل أو المستطيلة تتحوّل إلى حلقات دائريّة لا تعرف السّكون أو الرّكون؛ أدارت معها الحضور، وصارت الزّوجة المسكينة هي مركز الدّورَان والهذَيان. بعد مرور دقائق نابت عن السّاعات والأيّام سارعت الصّديقات إلى احتضان المفجوعة بحبّها وقلبها وهنّ يتّهمن صديقتهنّ بالثّرثرة وهباء القول، لكنّ العروس المعروفة بخفّة الظّلّ والحنان توجّهت نحو صديقتها، نقشت قبلات على خدّيها وعينيها وقالت:
-حبيبة عمري!  دمت لقول الحقّ وصواب الرّأي، كلّ ما نطقت به هو الصّدق والحقيقة، ليس في كلامك أيّ نشاذ؛ ولتعيد جوّهنّ إلى ما كان عليه من المرح قالت ضاحكة: 
-ابن عمّي حلف لنا على أنّه كان يبحث عن فتاة أو امرأة يتزوّج بها والنّاس مشغولون بأمور دفن المرحومة!
وسط ضحكات تحوّلت إلى قهقهة تدمع العين قالت أخرى: 
-قبل أيّام دخل زوجي إلى البيت وهو يضحك، ويتمايل سخريّة من صديقه الذي ماتت زوجته منذ أشهر  وصار يضرب رأسه بحائط البيت يبكي وينوح، واليوم وبينما نبارك له بزوجته الجديدة كان يدنو منّا، يهمس في أذننا وهو يغمز بعينه اليسرى مرّة وباليمنى مرّة أخرى: 
-الله يبارك بعمرك العقبى لك صديق!
أمّا أكثر ما دغدغ وتر ضحكهنّ كان قول إحداهنّ:
- كنّا في جلسة عائليّة عند بعض المعارف لزيارة مريض، بعد أن ضجّت الغرفة بالحضور، انقلب الحديث على الزّوجين ومدى إخلاص أحدهما للآخر، من جملة الموضوعاتِ هذا الموضوع الذي يسارع فيه الزّوج إلى الزّواج بأخرى وعزوف عدد كبير من النّساء عن الزّواج بعد رحيل الزّوج، فوجئنا بامرأة ترفع يديها نحو السّماء وهي تطلب إلى النّساء بترديد قول "آمين يا ربّ العالمين":
- انشاء الله يموت كلّ رجل قبل زوجته، لأنّ الزّوجة ستظل محافظة على بيتها وأولادها وهي تنسج خصلات الحزن والأسى عليه، بينما هو سيهنأ بحياته ويدمّر بيتها وعشّ أولادها. 
النّكتة أنّ زوجها كان أوّل الرّافعين لليدين وهو يقول:
-آمين يا ربّ
وعندما سئل عن سبب ذلك؟ قال: لأنّي أقول في نفسي: 
آمين يا ربّ، دع الملك يفعل فعلته لأتخلّص منها وأهنأَ بحوريّاتي!
الصّويحبات كنّ يتعمّدن بالضّحك والابتسام من الّلبّ إلى الّلبّ وهي تعيد ذكرى انشغالها بالشّمس  وكرنفال شروقها وغروبها. 



*القصّة اختيرت كأفضل القصص في مسابقة الأديبة رولا حسينات للقصّة القصيرة 2017م



تعديل المشاركة Reactions:
العروس الشّمس

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة