-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

ما هو لي أخذته بقوة

 


جان بابير / خاص سبا

 

تعلمت في هذه الحياة أن أكون كما أريد لا كما يريده الآخرون، ووجدت نفسي لا حباً في الوجود إنما وليد صدفة، ولكي لا أموت بحثت عني بين عائلة من اليتامى والديون بعدد الملاعق التي كنت أتناول طعامي بها, كنت ألعن النواح بداخلي.

 

آخر مرة قلت فيها لنفسي «يجب أن يكون لديك هدف تسعى إليه»، في ذلك البيت الطيني كان عمري كما الدلف الذي يتسرب إليه من أمطار الشتاء يسقط قطرة قطرة مهدورة للبيع، كيس الطحين، الذي كان يقف بزهو خلف الباب وتأتي منه رائحة عرق حصاد أمي، أتذكر أشياء كثيرة في بيتنا، حينما تكون الوليمة الصدفة الهاربة من العوز, دجاجة، سبعة أخوة لكل منهم حصته المعروفة فوق صينية البرغر، لي نصف الصدر وشيء من العصعص، لشقيقتي الرقبة، أي لكل فرد في البيت عضو من الدجاجة كطابو مسجل باسمه، كلمات تلقيها أمي على السفرة بمثابة البدء، ما زلت إلى اليوم أسمع صدى صوتها الذي لا يفارقني.

 

مارست مختلف المهن، من أرذلها إلى ما كان يحلم بها أي أحد من أقراني، من صبي مكتب وعامل باتون إلى موظف درجة ثانية في الأمم المتحدة ومحرر, عملت في الإعلام والسينما، لكن كان هناك عالم بلا حدود وخرائط يسكن خيالي، أنجذب إلى الكتابة بعشق، فأنا من خلالها أعيش بسلام مع نفسي, لم أسعَ لا من خلال الكتابة أو السينما إلى الربح، ولا أعلم ما الذي سيولد من رحم الغد، كل ما قدمته كان بمجهود ذاتي فردي لكن إبليس الكتابة يغويني بمفاتن الحرف كأي عبد أو ناسك, أقضي أيامي بين القراءة والكتابة، قد أطلق رصاص كلماتي في معركة خاسرة؛ لتكن للكلمات ذلك الشرف إن ماتت على قارعة المعركة، وفي سنواتي الأولى فقدت أبي الذي لا أملك ولا حتى صورة له، حاولت أن أكتب  شعرياً دموع أمي الخفية فوق بقجة تحتفظ فيها بقفطان أبي لكني لم أستطع أن أصل بلاغة حزنها السخي، لم يكن في بيتنا سوى كتاب وحيد وهو القرآن الكريم, معلق على الجدار قرب مرآة البدن, هكذا كانت تسميها أمي.

 

في صغري ختمت القرآن، وبعد ذلك عرفت من خلال كتب الجغرافيا المدرسية أن هناك أوطاناً وجبالاً وأنهراً وبحاراً غير قريتي، لا أملك أية شهادة جامعية، أصبحت مؤذناً لفترة، ومن ثم يسارياً خلق مسافة بينه وبين المطلق الكوني، مارست كل الموبقات من سكر وعربدة، وسوء المعاشرة بالتعريف المنمق للآداب، في مراهقتي وشبابي استخدمت قبضتيَّ، وإلى الآن وأنا على مشارف مغادرة العقد الخامس، ما زلت أملك تلك الزعرنة في قبضتي وكلماتي المفتولة، حملت السلاح وحملت القلم، وبعين الكاميرا نظرت إلى الأشياء، يوجعني الألم فيخرج ذاك النزيف من خاصرة تطلعاتي ورؤاي، أعيش هكذا بعفوية.

 

لا أكتب هذا لأبرر لأحد ما أنا عليه، دحرجت سنواتي في قافلة العمر، أسست منظومتي الفكرية والأخلاقية بجهد كبير، لم أخذل الوجع, إنما عانقته بحب وثمل، حتماً كانت الضريبة باهظة, لكني لم أؤذِ أحد سواي. البعض يعتبرني سيئاً, والبعض الآخر يعتبرني جيداً, أما أنا فأجد نفسي كما أنا، أكتب ما يشبهني، وأبحث عن ملامحي وموطئ قدم لي في زحمة الأسماء والأصوات، امتلكت أكثر من ستة آلاف كتاب, نصفها التهمته قذائف «أوباما» والبقية منها وديعة لدى دار «آفا»، وضاعت معها مجموعة من المخطوطات التي لم ولن تطبع، وكل يوم كانت ولم تزل تغوص الإبرة السامة للمعرفة في قلبي وعقلي لأعرف المزيد, حتى تلوثت بكل معرفة ممكنة.

 

كل ما كان يحيط بي يصفعني يومياً، أصدرت ثلاثة عشر كتاباً بالكردية والعربية، بين الرواية والشعر والترجمة، لا أريد من أحد شيئاً مقابل ما أبذل من جهد، بل أجد نفسي مذنباً ومديوناً تجاه أبناء دمي وأشعر بالعجز، هذا الطريق أنا اخترته, لم يجبرني أحد عليه، عشت كل آلام المخاض والولادة, لا أبحث لا عن لقب يسبق اسمي ولا عن شهرة, والكل يعلم أن الكتابة ليست مربحة، أكتب وبها أكسو روحي العارية، حتى الحروف هي حطبي في شتاء العوز أستنطق بها الدفء.

 

لا أدري كم سيمضي العمر بي في هذه الحياة من سئم وعراء أقاسمه معي! لا أريد أن أطيل عليكم أكثر, وهل بقي شيء في حقيبتي؟! كتبت عن الحب والحرب والنفس، والوطن والخذلان وجميع شياطين الغربة، كحفنة من الشمس لا تخجل من الظلام, دونت لكم ما اعتراني هذه الليلة، ولكي لا أنسى الحلم في اليقظة يمر بين أصابعي المرتجفة وأغادركم بابتسامة تشتهي عناق كل شخص في هذا الكون ولن أعتذر عن شيء بكامل أناقة الكلمة, حتى إن أحترق أحدهم بدفئه، مساء أشرب نخبكم على مائدة الحب وقبلة واحدة من إناء خمر الحب تكفيني ثلاثة أعمار لأبدأ معكم  حكاية أخرى.

 

تعديل المشاركة Reactions:
ما هو لي أخذته بقوة

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة